الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الأخلاقية @ 18- خلق المسلم بين الحِلْمِ والغضب


معلومات
تاريخ الإضافة: 10/8/1429
عدد القراء: 1349
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

- أيها الإخوة : ليس من أحد إلا وقد ركَّب الله فيه قدراً من القوى الغضبية المستكنَّة في داخل القلب ، استكانة النار في الرماد.

- فإذا استثير الإنسان: تهيَّجت هذه القوة في القلب، واستحالت وقوداً مشتعلاً: تدفع بالجوارح نحو المثير للانتقام منه.

- فترى الغاضب وكأنه جمرة متوقِّدة، أو شعلة من نار تتوهَّج من شدَّة غليان قوى الغضب في قلبه.

- وإلى هذا الحدِّ فإن المسلم لا يأثم بهذا الغضب ولا يُثاب عليه ، حتى يُرى سلوكه بعد ذلك.

- فإن كان غضبه لله تعالى : يدفع عن دينه ، أو عرضه، ينصر الحق، ويدفع الباطل فهو غضب محمود يُثاب عليه.

- فلا بأس حينئذٍ أن يظهر غضبه نصرةً للدين، ودفاعاً عن الحق، يؤدِّب الظالم، ويدفع المعتدي، ويحق الحق الذي يحبُّه الله تعالى.

- وأما إن كان سبب غضبه من أجل حظِّ نفسه، دافعه - في ذلك - الكِبْرُ والزهو والعُجْب، فواجبه كظم غيظه، والتذرُّع بالحلم.

- فإن ضبط نفسه، وملك زمام جوارحه، ونظر إلى ما عند الله من عظيم الأجر: فإنه مثاب على ذلك ، مأجور على حلمه.

- وفي الحديث قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه : دعاه الله على رؤوس الخلائق، ويخيِّره من أي الحور شاء».

- وفي الحديث أيضاً: «ما جَرعَ عبد جرعةً أعظمَ أجراً من جُرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله عز وجل».

- أما إن هو استرسل مع شهوة الغضب، يدفع عن حظِّ نفسه، فردَّ على من ظلمه بقدر مظلمته : فلا له ولا عليه، لا أجر ولا إثم.

- وأما إن هو استطال في عرض خصمه، وتجاوز الحدود، وضاعف العقوبة: فإنه يأثم بقدر استطالته وتعدِّيه على خصمه.

- أيها الإخوة: إن الغضب حين لا يكون لله، ولا يعرف صاحبُه كيف يتحكَّم فيه، فيضعه في مواضعه، فإنه يصبح وبالاً عليه.

- فترى الغاضب المتهيِّج حين يفقد صوابه : يندفع نحو خصمه بالسب والشتيمة، وفاحش القول.

- وربما تناوله بيده أو بسلاحه ليشفي نار قلبه المتوقِّدة، فإذا لم يتمكَّن من خصمه : انتقم من أي شيء أمامه.

- فتراه ربما ضرب الناس من حوله ، أو حطَّم الأشياء، يبرِّد بذلك حرَّ ما يجده في نفسه، فإن لم يجد ما يبرِّد به نفسه توجه إلى ذاته يحطِّمها : يضرب نفسه، أو يشق ثوبه ، أو يفسد ممتلكاته.

- كم من أسرة هُدِّمت وتقوَّضت أركانها بسبب غضْبة لا مبرر لها، فطلَّق الزوجة، وشرَّد الأولاد، ثم جلس نادماً.

- فتراه يهرع هنا وهناك يبحث عن مُفْتٍ يعيد له زوجته المطلَّقة ، ويحيي له داره المهدَّمة ، وقد كان الخيار بيده قبل أن يقول ما قال حال غضبه.

-  إن الرجل يملك الكلمة، حتى إذا نطق بها : ملكتْه، فأصبح أسيراً لها.

- وكم نال سيف الحق من رقاب الغاضبين حين انطلقوا ثائرين ينتقمون من خصومهم، فأتي بهم فاقتصَّ منهم.

  • يغضب أحدهم الغضبة فينطلق إلى سلاحه ويقتل خصمه، وما هي إلا أيام حتى يُؤتى به في ساحة العدل فيقتل بالسيف والناس ينظرون.
  • كم من صديق فقد صاحبه في ساعة غضب حضرها الشيطان، فإذا بهما ينطلقان يضرب كل منهما صاحبه بحذائه، فكانت عداوة بعد صداقة إلى يوم القيامة.
  • وكم من رحمٍ قُطِعت في موقف غضب غاب فيه العقل، واستحكم فيه الهوى، فقام العقوق مقام البر، وقامت القطيعة مقام الصلة.
  • أيها الإخوة: كم من أناس فقدوا وظائفهم وأموالهم وأنفسهم بسبب الغضب، حين لا يكون الغضب لله تعالى وفي موضعه.
  • أَمَا كان يستطيع أحدهم حين يغضب أن يسكت، أو يتوضأ، أو يستعيذ بالله من الشيطان، أو أن يترك المكان الذي وقعت فيه الخصومة.
  • لماذا لا يستحضر الغاضب المنتقم قدرة الله عليه، وعظيم انتقامه، وشدةَ بطشه، فإنه إن استحضر ذلك سكن غضبه.
  • إن الخوف من الله ألجم الصالحين حتى ملكوا زمام أنفسهم، فتعلَّموا الحِلْمَ، وتدرَّبوا عليه، كما يتعلَّم صغار الصبيان القراءة والكتابة.
  • لقد أدرك الصالحون: أن أقلَّ الناس غضباً: أكثرهم علماً وعقلاً ، وأن دعامة العقل الحلم والأناة ، ولا خير في علم بلا حلم.
  • يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
  • ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: «إن الشديد كلَّ الشديد، الذي يملك نفسه عند الغضب».
  • ويقول صلى الله عليه وسلم : «ألا أدلُّكم على أشدِّكم؟ أملككم نفسه عند الغضب».

* * *

  • أيها المسلمون : يقول الله تعالى موجِّهاً نبيـه صلى الله عليه وسلم ، والصـالحين من بعـده : " خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ".
  • لقد وجدت هذه الآية الكريمة صداها في سلف هذه الأمة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجذبه الأعرابي بردائه، حتى يؤثر ذلك في صفحة عنقه الشريف، فما يزيد على أن يبتسم في وجهه، ويأمر له بالعطاء.
  • ولما طعن بعضهم في قسمته الغنائم ، وقالوا: «ما أُريد بهذه القسمة وجه الله»، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «رحم الله موسى فقد أُوذي بأكثر من هذا فصبر».
  • ولما وضعت له المرأة اليهودية السُّمَّ في الطعام، وسألها عن ذلك ، فقالت بكل وقاحة وجراءة : «أردت أن أقتلك » ، فما زاد – عليه الصلاة والسلام – على أن عفا عنها.
  • شتم رجل أبا بكر رضي الله عنه ، فقال له: «ما ستره الله عنك أكثر».
  • وشتم رجل ابن عباس رضي الله عنه ، فقال: «يا عكرمة هل للرجل حاجةٌ فنقضيها عنه؟» ، فنكس الرجل رأسه واستحى.
  • وشتم رجل الشعبي رحمه الله فقال له : « إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك ».
  • أيها الإخوة: إن انتزاع الغضب بالكلية من نفوسنا أمر مستحيل، وإنما المطلوب تهذيبه وتوجيهه.
  • والرسول صلى الله عليه وسلم - مع عظيم مكانه - كان يغضب، ويُعرف ذلك في وجهه، إلا أنه لا يخرجه الغضب عن كريم خلقه، فلا يقول ولا يسلك إلا في الحق، وكان كثيراً ما يقول: «إنما أنا بشر ، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر».
  • بل إن الشخص الذي لا يغضب مطلقاً، لاسيما حين تنتهك حرمة الله تعالى فهذا لا خُلق عنده، وهذا - في الحقيقة- نقص في شخصيته ، وبلادة في طبعه.
  • أيها الإخوة : مشكلة الغضب يمكن أن تحل بثلاثة أمور:

الأول : أن نتعاون فيما بيننا، فلا يُغضب أحدنا صاحبه، ولا أخاه، ولا أباه، ولا أمه، ولا جاره.

الثاني : العزم على ألا نغضب لأنفسنا، ونجعل غضبنا لله تعالى ، ونضعه في مواضعه، ولا نخرج به عن حدِّ العدل.

الثالث : إقامة الحق والعدل بين الخصوم، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه ؛ فإن الظلم من أشد مثيرات الغضب.

اللهم ارزقنا الحلْم والعلم، ووفقنا إلى كلمة الحق في الرضا والغضب، وألِّفْ بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام يا أرحم الراحمين