18- خلق المسلم بين الحِلْمِ والغضب- أيها الإخوة
: ليس من أحد إلا وقد ركَّب الله فيه قدراً
من القوى الغضبية المستكنَّة في داخل القلب
، استكانة النار في الرماد.
- فإذا استثير
الإنسان: تهيَّجت هذه القوة في القلب، واستحالت
وقوداً مشتعلاً: تدفع بالجوارح نحو المثير
للانتقام منه.
- فترى الغاضب
وكأنه جمرة متوقِّدة، أو شعلة من نار تتوهَّج
من شدَّة غليان قوى الغضب في قلبه.
- وإلى هذا
الحدِّ فإن المسلم لا يأثم بهذا الغضب ولا
يُثاب عليه ، حتى يُرى سلوكه بعد ذلك.
- فإن كان
غضبه لله تعالى : يدفع عن دينه ، أو عرضه،
ينصر الحق، ويدفع الباطل فهو غضب محمود
يُثاب عليه.
- فلا بأس
حينئذٍ أن يظهر غضبه نصرةً للدين، ودفاعاً
عن الحق، يؤدِّب الظالم، ويدفع المعتدي،
ويحق الحق الذي يحبُّه الله تعالى.
- وأما إن
كان سبب غضبه من أجل حظِّ نفسه، دافعه -
في ذلك - الكِبْرُ والزهو والعُجْب، فواجبه
كظم غيظه، والتذرُّع بالحلم.
- فإن ضبط
نفسه، وملك زمام جوارحه، ونظر إلى ما عند
الله من عظيم الأجر: فإنه مثاب على ذلك ،
مأجور على حلمه.
- وفي الحديث
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «من كظم غيظاً وهو قادر
على أن ينفذه : دعاه الله على رؤوس الخلائق،
ويخيِّره من أي الحور شاء».
- وفي الحديث
أيضاً: «ما جَرعَ عبد جرعةً أعظمَ أجراً
من جُرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله عز
وجل».
- أما إن
هو استرسل مع شهوة الغضب، يدفع عن حظِّ
نفسه، فردَّ على من ظلمه بقدر مظلمته : فلا
له ولا عليه، لا أجر ولا إثم.
- وأما إن
هو استطال في عرض خصمه، وتجاوز الحدود،
وضاعف العقوبة: فإنه يأثم بقدر استطالته
وتعدِّيه على خصمه.
- أيها الإخوة:
إن الغضب حين لا يكون لله، ولا يعرف صاحبُه
كيف يتحكَّم فيه، فيضعه في مواضعه، فإنه
يصبح وبالاً عليه.
- فترى الغاضب
المتهيِّج حين يفقد صوابه : يندفع نحو خصمه
بالسب والشتيمة، وفاحش القول.
- وربما
تناوله بيده أو بسلاحه ليشفي نار قلبه المتوقِّدة،
فإذا لم يتمكَّن من خصمه : انتقم من أي شيء
أمامه.
- فتراه
ربما ضرب الناس من حوله ، أو حطَّم الأشياء،
يبرِّد بذلك حرَّ ما يجده في نفسه، فإن
لم يجد ما يبرِّد به نفسه توجه إلى ذاته
يحطِّمها : يضرب نفسه، أو يشق ثوبه ، أو
يفسد ممتلكاته.
- كم من
أسرة هُدِّمت وتقوَّضت أركانها بسبب غضْبة
لا مبرر لها، فطلَّق الزوجة، وشرَّد الأولاد،
ثم جلس نادماً.
- فتراه
يهرع هنا وهناك يبحث عن مُفْتٍ يعيد له
زوجته المطلَّقة ، ويحيي له داره المهدَّمة
، وقد كان الخيار بيده قبل أن يقول ما قال
حال غضبه.
- إن
الرجل يملك الكلمة، حتى إذا نطق بها : ملكتْه،
فأصبح أسيراً لها.
- وكم نال
سيف الحق من رقاب الغاضبين حين انطلقوا
ثائرين ينتقمون من خصومهم، فأتي بهم فاقتصَّ
منهم.
- يغضب أحدهم
الغضبة فينطلق إلى سلاحه ويقتل خصمه، وما
هي إلا أيام حتى يُؤتى به في ساحة العدل
فيقتل بالسيف والناس ينظرون.
- كم من صديق
فقد صاحبه في ساعة غضب حضرها الشيطان، فإذا
بهما ينطلقان يضرب كل منهما صاحبه بحذائه،
فكانت عداوة بعد صداقة إلى يوم القيامة.
- وكم من رحمٍ
قُطِعت في موقف غضب غاب فيه العقل، واستحكم
فيه الهوى، فقام العقوق مقام البر، وقامت
القطيعة مقام الصلة.
- أيها الإخوة:
كم من أناس فقدوا وظائفهم وأموالهم وأنفسهم
بسبب الغضب، حين لا يكون الغضب لله تعالى
وفي موضعه.
- أَمَا كان
يستطيع أحدهم حين يغضب أن يسكت، أو يتوضأ،
أو يستعيذ بالله من الشيطان، أو أن يترك
المكان الذي وقعت فيه الخصومة.
- لماذا لا يستحضر
الغاضب المنتقم قدرة الله عليه، وعظيم
انتقامه، وشدةَ بطشه، فإنه إن استحضر ذلك
سكن غضبه.
- إن الخوف من
الله ألجم الصالحين حتى ملكوا زمام أنفسهم،
فتعلَّموا الحِلْمَ، وتدرَّبوا عليه،
كما يتعلَّم صغار الصبيان القراءة والكتابة.
- لقد أدرك الصالحون:
أن أقلَّ الناس غضباً: أكثرهم علماً وعقلاً
، وأن دعامة العقل الحلم والأناة ، ولا
خير في علم بلا حلم.
- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم
: «ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي
يملك نفسه عند الغضب».
- ويقول صلى الله عليه وسلم
أيضاً: «إن الشديد كلَّ الشديد، الذي يملك
نفسه عند الغضب».
- ويقول صلى الله عليه وسلم
: «ألا أدلُّكم على أشدِّكم؟ أملككم نفسه
عند الغضب».
* * *
- أيها المسلمون
: يقول الله تعالى موجِّهاً نبيـه صلى الله عليه وسلم
، والصـالحين من بعـده : " خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ ".
- لقد وجدت هذه
الآية الكريمة صداها في سلف هذه الأمة،
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجذبه الأعرابي بردائه،
حتى يؤثر ذلك في صفحة عنقه الشريف، فما
يزيد على أن يبتسم في وجهه، ويأمر له بالعطاء.
- ولما طعن بعضهم
في قسمته الغنائم ، وقالوا: «ما أُريد بهذه
القسمة وجه الله»، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «رحم الله موسى فقد
أُوذي بأكثر من هذا فصبر».
- ولما وضعت
له المرأة اليهودية السُّمَّ في الطعام،
وسألها عن ذلك ، فقالت بكل وقاحة وجراءة
: «أردت أن أقتلك » ، فما زاد – عليه الصلاة
والسلام – على أن عفا عنها.
- شتم رجل أبا
بكر رضي الله عنه ، فقال له: «ما ستره الله
عنك أكثر».
- وشتم رجل ابن
عباس رضي الله عنه ، فقال: «يا عكرمة هل
للرجل حاجةٌ فنقضيها عنه؟» ، فنكس الرجل
رأسه واستحى.
- وشتم رجل الشعبي
رحمه الله فقال له : « إن كنت صادقاً فغفر
الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك ».
- أيها الإخوة:
إن انتزاع الغضب بالكلية من نفوسنا أمر
مستحيل، وإنما المطلوب تهذيبه وتوجيهه.
- والرسول صلى الله عليه وسلم
- مع عظيم مكانه - كان يغضب، ويُعرف ذلك في
وجهه، إلا أنه لا يخرجه الغضب عن كريم خلقه،
فلا يقول ولا يسلك إلا في الحق، وكان كثيراً
ما يقول: «إنما أنا بشر ، أرضى كما يرضى
البشر، وأغضب كما يغضب البشر».
- بل إن الشخص
الذي لا يغضب مطلقاً، لاسيما حين تنتهك
حرمة الله تعالى فهذا لا خُلق عنده، وهذا
- في الحقيقة- نقص في شخصيته ، وبلادة في
طبعه.
- أيها الإخوة
: مشكلة الغضب يمكن أن تحل بثلاثة أمور:
الأول :
أن نتعاون فيما بيننا، فلا يُغضب أحدنا
صاحبه، ولا أخاه، ولا أباه، ولا أمه، ولا
جاره.
الثاني
: العزم على ألا نغضب لأنفسنا، ونجعل غضبنا
لله تعالى ، ونضعه في مواضعه، ولا نخرج
به عن حدِّ العدل.
الثالث
: إقامة الحق والعدل بين الخصوم، وإعطاء
كلِّ ذي حقٍّ حقه ؛ فإن الظلم من أشد مثيرات
الغضب.
اللهم ارزقنا
الحلْم والعلم، ووفقنا إلى كلمة الحق في
الرضا والغضب، وألِّفْ بين قلوبنا، واهدنا
سبل السلام يا أرحم الراحمين