الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ عُدَّةُ الباحثين وذخيرةُ الطَّالبين


معلومات
تاريخ الإضافة: 2/4/1441
عدد القراء: 1324
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر ربيع الآخر 1441هـ

عُدَّةُ الباحثين وذخيرةُ الطَّالبين

        الحمد لله الذي علَّم بالقلم ، علَّم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على سيد المعلِّمين ، وخير المرسلين ، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن ميادين العلوم بشتَّى صنوفها ، وتنوُّع مجالاتها : قد اتـَّسعت - في هذا العصر على الخصوص - غاية الاتساع ، وتشعَّبت - في هذا العصر - أبلغ ما يمكن أن يكون عليه التشعُّب ، وبدت في أعين طلبة العلم : كأنها البحر المُتلاطم ، بأمواجه العاتية ، وأعماقه السحيقة ، التي يتُوه فيها القبطان عن وجهته ، ويضلُّ الدليل عن غايته ، فلا يصمد في هذا الخضمِّ الصعْب إلا المُحسن في أدائه ، المُتقن في عطائه ، الصابر على صعابه ، ممَّن تسلَّح بالمهارات العالية ، وتزوَّد بالوسائل الكافية ، وعمل بنهج المُصابرة ، وأخذ بأسباب المُغالبة ، فما يزال يُقاوم الخطوب المُتلاحقة ، ويُصارع المكاره المُتتابعة ، فما يزال على الجادَّة في مسيره ، كلَّما عصفت به الريح بعيداً عن وجهته : عاد بمركبه إلى الجادَّة من جديد ، وهكذا هو في جهد وجهاد ، وبذلٍ وعطاء ، حتى يبلغ - بتوفيق الله تعالى - غايته ، ويصل - بعون الله تعالى - إلى وجهته .

         إن واقع الباحث اليوم : لا يبعد كثيراً عن حال هذا القبطان ، لا سيما ذلك الباحث الجديد على مهارات البحث العلمي ، يُريد لعمله الأفضل والأحسن ، ويقصد إلى الأكْمل والأتقن ، غير أنه محدود القدرات ، ضعيف المهارات ، مُتواضع الخبرات ، يرجو ما لا يقدر عليه ، ويأمل ما لا يستطيعه ، فهو لا تعوزه الرغبة الأكيدة ، ولا تنقصه النيَّة الصالحة ، فرغم أن عينه بصيرةٌ بالمقاصد الحسنة ، والمرامي الطيِّبة ، إلا أن يده قصيرةٌ بالعدَّة الكافية ، والذخيرة الوافية ، كحال المُقاتل بسلاح بلا ذخيرة ، وكالرامي بمدفع بلا قذيفة ، فلم ينفعه سلاحه ، ولم يُغن عنه رمْـيُه .

        وهذا الصنف من الباحثين : يفتقد إلى مُحْترف كريمٍ يتولاه ، وخبيرٍ مُشفق يتبنَّاه ، فهو ولدٌ صالحٌ ، بخامة جيدة ، وبطانة طاهرة ، فما يلبث طويلاً بيد سائسه ، وتحت عين قائده ، حتى يتلقَّف مهارات البحث ، ويتشرَّب طرائق التنقيب ، فما يزال في درْبة وبناء ، وكدٍّ وعناء ، حتى ينال شرف اللَّقب ، فقد ملك مهاراته ، ونال - بفضل الله تعالى - أدواته ، فرميه الآن بقذائف ، وسلاحه اليوم بذخائر ، قد شبَّ عن الطوق بجدارة ، واستقلَّ عن المُرشد باقتدار .

        وأما من كان كَلاً في مسْعاه ، هشًّا في مبناه ، همَّته ضعيفة ، وإرادته هزيلة ، ونيَّته وضيعة ، قد أخطأ الطريق ، وضلَّ المسير ، وجاء في غير مكانه ، ودخل في غير ميدانه ، فلا هو قادرٌ ولا مُستطيع ، ولا هو مُستعدٌّ ولا مُريد ، شأنه مع العلم شأن الغربال ، يجمع نُخالة الغِلال ، فيبقى معه ما يُشبه الغلَّة ، ممَّا لا ينفع ولا يُسمن ، فيمضي هكذا على حاله بين جموع الطَّالبين ، يُشبههم في الشخوص الظاهرة ، ويُباينهم في الحقائق الباطنة .

        أحسن هؤلاء حالاً : من يمضي خفيفاً ضمن جهود الجماعة ، محمولاً ضمن عطاء الفريق ، فلا يلْحظه الغافل ، ولا يتنبَّه إليه الساهي ، فإن من فضائل الجماعة أنها تستر من نواقص الفرد وعيوبه : ما لا يقدر أن يستره إن انفرد بنفسه ، فالفطن - من هؤلاء - يسعى دوماً في أن لا يتميَّز بشيءٍ عن لون الجماعة من حوله ؛ ليبدو وكأنه واحدٌ منهم ، حتى إنهم إذا صاحوا : صاح معهم ، وإذا خفتوا : خفت معهم ، لا يدري ما بال القوم في صياحهم ، وما بالهم في خُفوتهم ، غير أنه لطيفٌ في لُقْياه ، بشوشٌ في مُحيَّاه ، لا يناقش ولا يُعارض ، ولكن يُلاطف ويُجامل ، ويُساير ويُوافق ؛ ولهذا لا يُفْتقد إذا غاب ، ولا ينفع إذا حضر .

        وأما القبيح من هؤلاء : فجريءٌ جسور ، عنيفٌ بغيض ، سليط اللِّسان ، شرس الطباع ، ثقيل الروح ، بليد العقل ، لا يُبالي بعيوبه أن تنكشف ، ولا يكترث لعورته أن تظهر ، لا يُفرِّق الرائي له بين قُبُلٍ ودُبر ، فكلُّ ذلك سواءٌ عنده ، لا يكاد يتوافق مع غيره ، فهو نسيجٌ وحده ، وليس ذلك فيما يحسُنُ من الفتى ، أن يتميَّز به عن الآخرين ، وإنما فيما يُستقبح من الإنسان ويُستنكر ، وفيما يشذ به عن سلوك الأسوياء من الطلبة الآخرين ، فلا يستحي من السقطة يفعلها ، أو الكلمة القبيحة يتفوَّهها ، ولهذا لا يكاد ينْهزم في صراع ، ولا يكاد يتراجع عن قرار ، فالكلُّ يحذره ويهابه ، والجميع مُلاطفٌ له ومُداهن ، يتَّقون بذلك شرَّه ، ويتجنَّبون به فُحْشه .

         كلُّ هذه العنجهيَّات البغيضة : من أجل سَتْر نواقصه العلميَّة ، وإخفاء جهالاته المعرفيَّة ، فيتَّخذ من أسلوب الشراسة السلوكيَّة : سواتر تحجب رؤية ما وراءها من هشاشة بنائه العلمي ، وضعف قدراته العقليَّة ، وتكرار انهزاماته المعرفيَّة ، إضافة إلى مشاعره السوداويَّة المُحبَطة ، التي تُسيطر عليه في تعاملاته وقراراته ، فالخطر - من هذا الصنف من الطلبة - لا يكمن فيما يصدر عنه تجاه الواحد أو الاثنين من زملائه ، أو فيما يُبديه لهم من مظاهر الكِبْر والعجْرفة ، فهذه تبقى محدودة الضرر ، ضعيفة الأثر في الجماعة ، فما أكثر هؤلاء المرضى في المجتمعات ؟

         وإنما الخطر يكمن : فيما إذا تمكَّن بعض هؤلاء الموتورين من المراكز والمؤسسات العلميَّة ، وغدت سلطة القرارات بأيديهم ، فلا تسأل حينئذٍ : عن حجم الضرر العامِّ المُتوقِّع منهم ، على المستويات العلمية والمعرفيَّة ، وعلى القوى العاملة البشريَّة ؛ إذ لا يمكن للواحد من هؤلاء الضواري البشريَّة - وقد تمكَّن - أن يُخْفي أمراضه النفسيَّة ، وقبائحه الخُلُقيَّة ، بل إن ما عجز عن إبدائه زمن الطلب ، من قبائحه النفسيَّة والخُلقيَّة : فقد حان الوقت لإفراغ ذلك كلِّه مرَّة واحدة ، ولن يعدم مسوِّغات ذلك ومُبرِّراته ، كما لن يعدم - في الوقت نفسه - من يوافقه على ذلك من المُنتفعين ، فما زالت مجتمعات العالم الثالث - على الخصوص - تغصُّ بأمثال هؤلاء الانتهازيين ، رغم ما قد يكون لبعضهم من شرف العلم والمعرفة ، هذا فضلاً عمَّن هم دونهم ، ممَّن دخل إلى أروقة العلم من بوَّاباته الخلفيَّة .

         في هذا المسير العلميِّ الصعب : يحتاج الباحثون الأوفياء إلى أمصال مناعة : إيمانيَّة ، وأخلاقيَّة ، ومعرفيَّة ، ونفسيَّة ، يحتمون بها - بإذن الله تعالى - من عدوى التخريب العلميِّ ، فيتحصَّنون بها من أن تنالهم أمراضه ، أو تُصيبهم أعراضه ، فهم في حاجة مُلحَّة إلى عُدَّة يتسلَّحون بها في هذا المسير ، وإلى أدوات يتزوَّدون بها في هذا الطريق ، يستعينون بها - بعد عون الله تعالى - في خوض غمار مجالات البحوث العلميَّة ، وميادين المعارف الإنسانيَّة ، بإيمان صادق عميق ، ونيَّة صالحة طيِّبة ، وروحٍ مُشْرقة زكيَّة ، ونفسٍ توَّاقة مُقْبلة ، مع حصيلة خُلُقيَّة وافرة ، ومسالك منهجيَّة مُحكمة ، تضبط مسيرتهم العلميَّة ، وتحكم أداءهم البحثي ، وفق معايير الجودة والإتقان ، ضمن الطاقة البشريَّة المُتاحة ، في غير غلوٍّ ولا تكلُّفٍ ولا شطط .

        ومن هذا المنطلق : تجدر الإشارة - بإيجاز واختصار - إلى أهم ما يفتقر إليه الباحث العلمي ، من العُدَّة الضروريَّة ، ومن المعاني الأساسيَّة ، ومن النصائح السلوكيَّة ، التي يقوم عليها صرح بنائه المعرفي ، وحُسن أدائه العلمي ؛ فإنه لا يُتصوَّر من باحث صادق النيَّة ، سليم الطويَّة ، قويَّة الإرادة ، واضح الغاية : أن يُخلَّ بجملة هذه النصائح والمعاني الأصيلة ، ولئن ترخَّص لنفسه في ترك بعضها ، مُتخفِّفاً بذلك عن تكاليفها : فلن يكون مقْبولاً بحالٍ أن يُعرض عن جملتها مرَّة واحدة .

أولاً - العُدَّة الإيمانية :

عمل كيفما شئت ، فلا ثواب بغير نيَّة صالحة ، تسبق العمل وترافقه .

  •  
  • ·         قال أُبيُّ بن كعب رضي الله عنه : « تعلموا العلمَ واعملوا به ، ولا تتعلَّموه لتتجمَّلوا به ، فإنه يُوشك إن طال بكم زمان ، أن يُتجمَّل بالعلم ، كما يَتَجمَّلُ الرجل بالثوب » .
  • ·         إذا خذلك الله : فلا مُعين لك من بعده ، فاستعن بالله ولا تعجز .
  • ·         لا يُفوِّت الباحث صلاة الجماعة ، والمعذورون يصلُّونها في أوَّل وقت الفضيلة ، ومن لم يكن من أهل الصلاة في الوقت : فلا يفوته الذكر والدعاء .
  • ·          المداومة على الرواتب : جزءٌ من عبادة الباحث اليوميَّة .
  • ·         أربع ركعات من أوَّل النهار : تُعينك بإذن الله على باقي اليوم .
  • ·                  كلُّ الليل يصحُّ أن يكون موضعاً للقيام ، وأفضله : ما كان في جوف الليل ، وأقلُّه ركعة .
  • ·                  لا يُتصوَّر أن يقلَّ ورد الباحث في اليوم والليلة : عن جزء واحد من القرآن ، ومجموعةٍ من الأدعية المأثورة والمُعوِّذات ، و1000 وحدةِ ذكر على الأقل .
  • ·                  وأقلُّ صيام النفل : ثلاثةُ أيام من كلِّ شهر .
  • ·                  البكور أنفع من السهر ، ولكلِّ باحثٍ طريقتُه .
  • ·                  لا تنْسب نعمة إلى نفسك ، فكلُّ النعم من الله تعالى .
  • ·                  استحضر على الدوام ، قول رسول الله r : « من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً : سلك الله به طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم ، وإن العالِم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتانُ في الماء ، وفضلُ العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب » .

ثانياً - العُدَّة العلميَّة :

  • ·         الساحات العلميَّة واسعة ، وهي في اتـِّساع مُستمر ، فكم نصيبك منها ؟
  • ·                  لن تُبدع حتى تُوسِّع مداركك ، وتُديمَ النظر، وتُنوِّعَ مشاربك ، وما تقوقع أحدٌ إلا ضمر .
  • ·         الاستقراء العلمي : سبيلك إلى الإبداع ، والاستنباط هو كذلك لمن قدر عليه .
  • ·         لا تيأس من الإبداع : فقد يأتي متأخراً ، فخذ بأسبابه .
  • ·         التدرُّج العلمي المُتواصل : سبيلك الوحيد إلى التفوُّق .
  • ·         إذا عزمت على الإبداع : فغالباً ما تكون وحيداً ، فلا تستوحش .
  • ·         فإذا أردت أن تكون قويًّا في عصر الضعفاء : فتحمَّل .
  • ·         المبدع يسبح عكس التيار ، فانظر : هل تجد في مسيرك مُقاومة ؟
  • ·                  إذا كنت ضعيفاً في قدراتك ، عاجزاً عن تحسينها : فامضِ في ستر وهدوء ، بلا ضجيج ولا صخب .
  • ·         إنك ما تزال عالماً ما دمت مُتعلِّماً ، فإذا استغنيت عُدت جاهلاً .
  • ·         قال عمر بن الخطاب : (تفقَّهوا قبل أن تُسوَّدوا) .
  • ·         الدكتوراه مفتاح خزائن العلم ، وليست هي العلم ، وإنما تُكسبك حقَّ الخطأ .
  • ·         الدرجة التي حصلت عليها : ليست دليلاً قاطعاً على مستواك الحقيقي .
  • ·         كلُّ معلومة أو مهارة تحصل عليها : فهي لبنةٌ في بناء صرحك العلمي .
  • ·         الخلوة العلميَّة للبحث ، وطول الانقطاع له : أفضل معينٍ بعد الله تعالى .
  • ·         لا بدَّ من احترام الوقت في أقلِّ وحداته الزمنيَّة ، فكلُّ الوقت وجميع المكان يصلح أن يكون موضعاً للبحث والنظر ، فلا تنتظر وقتاً أنسب ، ولا مكاناً أفضل .
  • ·         الوسوسة في كلِّ شيء رديئة ، إلا في إتقان البحث العلمي .
  • ·         لا تزال المكتبةُ التقليديَّة : سوق الباحث الجاد ، فلا تهولُك سَعتُها .
  • ·                  القلم عسير ، قد لا يُطاوعك حين تُريده ، فكن معه على الدوام ، يكن معك حين تحتاج إليه .
  • ·         تخلَّص من العُجْمة بإدامة قراءة القرآن ، والحديث النبوي ، وكتب التراث والأدب .

ثالثاً - العُدَّة الأخلاقية :

  • ·                  لا تبحث في وسطك عن القدوة ، ولا تشترط لنفسك وجودَها ، ولكن كن أنت القدوة .
  • ·         تجنَّب الإصرار على الصغائر ، وإيـَّاك أن تقع في الكبائر .
  • ·         قبيحٌ أن تقصَّ نصًّا من مصدر ما ، وتُلْصقه في بحثك ، ثم تنسبه إلى نفسك .
  • ·                  حرمة أبحاث الناس وكتبهم : كحرمة بيوتهم وممتلكاتهم ، فاحذر أن تتناول منها بغير إذن .
  • ·         العلم الوافر ، لا يكون براحة الجسد ، ولا بالبخل بالمال .
  • ·         ليس كلُّ معلومة استقرَّت عندك سابقاً : صحيحة ، فقد تحتاج أحياناً لمراجعة بعضها ، فلا تكن جامداً ، وكن مرناً .
  • ·         من أدام طرق الباب دخل ، ومن أدام طلب العلم بلغ ، فلا تملَّ .
  • ·         بلادكم في حاجة إليكم ، وآمالها معقودة عليكم : فلا تُخيِّبوها بتقصير أو تفريط .

رابعاً - العدُّة النفسية :

  • ·                  الشعور بالمعاناة من كلِّ نوع : جزءٌ أصيلٌ من طبيعة مرحلة الدكتوراه على الخصوص .
  • ·                  ليست المشكلة في حجم المعاناة ، فالكلُّ يُعاني ، وإنما المشكلة في قدرتك على التصدي لها .
  • ·         الشعور بالهمَّة ضروريٌّ لإتمام المسير ، فإن الهزيمة غالباً ما تأتي من الداخل .
  • ·         المشجِّعون قليل ، والمثبِّطون كثير : فكن مع الأقليَّة المُشجِّعة .
  • ·         المتسلِّقون يصلون إلى أهدافهم سريعاً ، أما المنقِّبون ، فكثيراً ما يتأخَّرون ، فلا تحزن .
  • ·         انظر لمن فوقك في مهارات البحث فتقوى ، ولا تلتفت إلى من هو دونك فتضعُف .
  • ·         لديك طاقات كامنة خفيَّة ، لن تظهر لك إلا بالتجرِبة والمحاولة .
  • ·         تأكَّد أن حجم الوقت على قدر حجم العمل .

وختاماً : تذكروا دائماً قول الله تعالى : ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) ، فماذا تُراه يُكتب عنك ؟!