مقال شهر ربيع الآخر 1441هـ
عُدَّةُ الباحثين وذخيرةُ الطَّالبين
الحمد لله الذي علَّم بالقلم ، علَّم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على سيد المعلِّمين ، وخير المرسلين ، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن ميادين العلوم بشتَّى صنوفها ، وتنوُّع مجالاتها : قد اتـَّسعت - في هذا العصر على الخصوص - غاية الاتساع ، وتشعَّبت - في هذا العصر - أبلغ ما يمكن أن يكون عليه التشعُّب ، وبدت في أعين طلبة العلم : كأنها البحر المُتلاطم ، بأمواجه العاتية ، وأعماقه السحيقة ، التي يتُوه فيها القبطان عن وجهته ، ويضلُّ الدليل عن غايته ، فلا يصمد في هذا الخضمِّ الصعْب إلا المُحسن في أدائه ، المُتقن في عطائه ، الصابر على صعابه ، ممَّن تسلَّح بالمهارات العالية ، وتزوَّد بالوسائل الكافية ، وعمل بنهج المُصابرة ، وأخذ بأسباب المُغالبة ، فما يزال يُقاوم الخطوب المُتلاحقة ، ويُصارع المكاره المُتتابعة ، فما يزال على الجادَّة في مسيره ، كلَّما عصفت به الريح بعيداً عن وجهته : عاد بمركبه إلى الجادَّة من جديد ، وهكذا هو في جهد وجهاد ، وبذلٍ وعطاء ، حتى يبلغ - بتوفيق الله تعالى - غايته ، ويصل - بعون الله تعالى - إلى وجهته .
إن واقع الباحث اليوم : لا يبعد كثيراً عن حال هذا القبطان ، لا سيما ذلك الباحث الجديد على مهارات البحث العلمي ، يُريد لعمله الأفضل والأحسن ، ويقصد إلى الأكْمل والأتقن ، غير أنه محدود القدرات ، ضعيف المهارات ، مُتواضع الخبرات ، يرجو ما لا يقدر عليه ، ويأمل ما لا يستطيعه ، فهو لا تعوزه الرغبة الأكيدة ، ولا تنقصه النيَّة الصالحة ، فرغم أن عينه بصيرةٌ بالمقاصد الحسنة ، والمرامي الطيِّبة ، إلا أن يده قصيرةٌ بالعدَّة الكافية ، والذخيرة الوافية ، كحال المُقاتل بسلاح بلا ذخيرة ، وكالرامي بمدفع بلا قذيفة ، فلم ينفعه سلاحه ، ولم يُغن عنه رمْـيُه .
وهذا الصنف من الباحثين : يفتقد إلى مُحْترف كريمٍ يتولاه ، وخبيرٍ مُشفق يتبنَّاه ، فهو ولدٌ صالحٌ ، بخامة جيدة ، وبطانة طاهرة ، فما يلبث طويلاً بيد سائسه ، وتحت عين قائده ، حتى يتلقَّف مهارات البحث ، ويتشرَّب طرائق التنقيب ، فما يزال في درْبة وبناء ، وكدٍّ وعناء ، حتى ينال شرف اللَّقب ، فقد ملك مهاراته ، ونال - بفضل الله تعالى - أدواته ، فرميه الآن بقذائف ، وسلاحه اليوم بذخائر ، قد شبَّ عن الطوق بجدارة ، واستقلَّ عن المُرشد باقتدار .
وأما من كان كَلاً في مسْعاه ، هشًّا في مبناه ، همَّته ضعيفة ، وإرادته هزيلة ، ونيَّته وضيعة ، قد أخطأ الطريق ، وضلَّ المسير ، وجاء في غير مكانه ، ودخل في غير ميدانه ، فلا هو قادرٌ ولا مُستطيع ، ولا هو مُستعدٌّ ولا مُريد ، شأنه مع العلم شأن الغربال ، يجمع نُخالة الغِلال ، فيبقى معه ما يُشبه الغلَّة ، ممَّا لا ينفع ولا يُسمن ، فيمضي هكذا على حاله بين جموع الطَّالبين ، يُشبههم في الشخوص الظاهرة ، ويُباينهم في الحقائق الباطنة .
أحسن هؤلاء حالاً : من يمضي خفيفاً ضمن جهود الجماعة ، محمولاً ضمن عطاء الفريق ، فلا يلْحظه الغافل ، ولا يتنبَّه إليه الساهي ، فإن من فضائل الجماعة أنها تستر من نواقص الفرد وعيوبه : ما لا يقدر أن يستره إن انفرد بنفسه ، فالفطن - من هؤلاء - يسعى دوماً في أن لا يتميَّز بشيءٍ عن لون الجماعة من حوله ؛ ليبدو وكأنه واحدٌ منهم ، حتى إنهم إذا صاحوا : صاح معهم ، وإذا خفتوا : خفت معهم ، لا يدري ما بال القوم في صياحهم ، وما بالهم في خُفوتهم ، غير أنه لطيفٌ في لُقْياه ، بشوشٌ في مُحيَّاه ، لا يناقش ولا يُعارض ، ولكن يُلاطف ويُجامل ، ويُساير ويُوافق ؛ ولهذا لا يُفْتقد إذا غاب ، ولا ينفع إذا حضر .
وأما القبيح من هؤلاء : فجريءٌ جسور ، عنيفٌ بغيض ، سليط اللِّسان ، شرس الطباع ، ثقيل الروح ، بليد العقل ، لا يُبالي بعيوبه أن تنكشف ، ولا يكترث لعورته أن تظهر ، لا يُفرِّق الرائي له بين قُبُلٍ ودُبر ، فكلُّ ذلك سواءٌ عنده ، لا يكاد يتوافق مع غيره ، فهو نسيجٌ وحده ، وليس ذلك فيما يحسُنُ من الفتى ، أن يتميَّز به عن الآخرين ، وإنما فيما يُستقبح من الإنسان ويُستنكر ، وفيما يشذ به عن سلوك الأسوياء من الطلبة الآخرين ، فلا يستحي من السقطة يفعلها ، أو الكلمة القبيحة يتفوَّهها ، ولهذا لا يكاد ينْهزم في صراع ، ولا يكاد يتراجع عن قرار ، فالكلُّ يحذره ويهابه ، والجميع مُلاطفٌ له ومُداهن ، يتَّقون بذلك شرَّه ، ويتجنَّبون به فُحْشه .
كلُّ هذه العنجهيَّات البغيضة : من أجل سَتْر نواقصه العلميَّة ، وإخفاء جهالاته المعرفيَّة ، فيتَّخذ من أسلوب الشراسة السلوكيَّة : سواتر تحجب رؤية ما وراءها من هشاشة بنائه العلمي ، وضعف قدراته العقليَّة ، وتكرار انهزاماته المعرفيَّة ، إضافة إلى مشاعره السوداويَّة المُحبَطة ، التي تُسيطر عليه في تعاملاته وقراراته ، فالخطر - من هذا الصنف من الطلبة - لا يكمن فيما يصدر عنه تجاه الواحد أو الاثنين من زملائه ، أو فيما يُبديه لهم من مظاهر الكِبْر والعجْرفة ، فهذه تبقى محدودة الضرر ، ضعيفة الأثر في الجماعة ، فما أكثر هؤلاء المرضى في المجتمعات ؟
وإنما الخطر يكمن : فيما إذا تمكَّن بعض هؤلاء الموتورين من المراكز والمؤسسات العلميَّة ، وغدت سلطة القرارات بأيديهم ، فلا تسأل حينئذٍ : عن حجم الضرر العامِّ المُتوقِّع منهم ، على المستويات العلمية والمعرفيَّة ، وعلى القوى العاملة البشريَّة ؛ إذ لا يمكن للواحد من هؤلاء الضواري البشريَّة - وقد تمكَّن - أن يُخْفي أمراضه النفسيَّة ، وقبائحه الخُلُقيَّة ، بل إن ما عجز عن إبدائه زمن الطلب ، من قبائحه النفسيَّة والخُلقيَّة : فقد حان الوقت لإفراغ ذلك كلِّه مرَّة واحدة ، ولن يعدم مسوِّغات ذلك ومُبرِّراته ، كما لن يعدم - في الوقت نفسه - من يوافقه على ذلك من المُنتفعين ، فما زالت مجتمعات العالم الثالث - على الخصوص - تغصُّ بأمثال هؤلاء الانتهازيين ، رغم ما قد يكون لبعضهم من شرف العلم والمعرفة ، هذا فضلاً عمَّن هم دونهم ، ممَّن دخل إلى أروقة العلم من بوَّاباته الخلفيَّة .
في هذا المسير العلميِّ الصعب : يحتاج الباحثون الأوفياء إلى أمصال مناعة : إيمانيَّة ، وأخلاقيَّة ، ومعرفيَّة ، ونفسيَّة ، يحتمون بها - بإذن الله تعالى - من عدوى التخريب العلميِّ ، فيتحصَّنون بها من أن تنالهم أمراضه ، أو تُصيبهم أعراضه ، فهم في حاجة مُلحَّة إلى عُدَّة يتسلَّحون بها في هذا المسير ، وإلى أدوات يتزوَّدون بها في هذا الطريق ، يستعينون بها - بعد عون الله تعالى - في خوض غمار مجالات البحوث العلميَّة ، وميادين المعارف الإنسانيَّة ، بإيمان صادق عميق ، ونيَّة صالحة طيِّبة ، وروحٍ مُشْرقة زكيَّة ، ونفسٍ توَّاقة مُقْبلة ، مع حصيلة خُلُقيَّة وافرة ، ومسالك منهجيَّة مُحكمة ، تضبط مسيرتهم العلميَّة ، وتحكم أداءهم البحثي ، وفق معايير الجودة والإتقان ، ضمن الطاقة البشريَّة المُتاحة ، في غير غلوٍّ ولا تكلُّفٍ ولا شطط .
ومن هذا المنطلق : تجدر الإشارة - بإيجاز واختصار - إلى أهم ما يفتقر إليه الباحث العلمي ، من العُدَّة الضروريَّة ، ومن المعاني الأساسيَّة ، ومن النصائح السلوكيَّة ، التي يقوم عليها صرح بنائه المعرفي ، وحُسن أدائه العلمي ؛ فإنه لا يُتصوَّر من باحث صادق النيَّة ، سليم الطويَّة ، قويَّة الإرادة ، واضح الغاية : أن يُخلَّ بجملة هذه النصائح والمعاني الأصيلة ، ولئن ترخَّص لنفسه في ترك بعضها ، مُتخفِّفاً بذلك عن تكاليفها : فلن يكون مقْبولاً بحالٍ أن يُعرض عن جملتها مرَّة واحدة .
أولاً - العُدَّة الإيمانية :
عمل كيفما شئت ، فلا ثواب بغير نيَّة صالحة ، تسبق العمل وترافقه .
ثانياً - العُدَّة العلميَّة :
ثالثاً - العُدَّة الأخلاقية :
رابعاً - العدُّة النفسية :
وختاماً : تذكروا دائماً قول الله تعالى : ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) ، فماذا تُراه يُكتب عنك ؟!