الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الإقتصادية والسياسية @ 17- الرشوة وخطرها على المجتمع


معلومات
تاريخ الإضافة: 7/9/1429
عدد القراء: 3905
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

- أيها الإخوة : من حكمة الله أن ركَّب في الإنسان جمعاً من الميول والدوافع والرغبات، كحب المال والنساء والذرية.

- كما قال تعالى : " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ".

- فهذه الشهوات لم تُركَّب في الإنسان لإزعاجه وإيذائه، وإنما رُكِّبت لتكون دوافع محفِّزة لعمارة الأرض وازدهار الحياة.

- فلولا دافع الشهوة؛ فمن هذا الذي يتبرع بوضع مائه في ذلك الموضع من المرأة، ويعاني ما يعاني من أخلاق النساء؟!

- ولولا حبُّ الذرية؛ فمن هذا الذي يكابد نهاره ليرعى عياله، ويقوم على مصالحهم حتى يشبُّوا، ويقوموا بأنفسهم؟!

- ولولا حبُّ المال؛ فمن هذا الذي يشيِّد عمارة ، أو يشقُّ طريقاً ، أو يفتح متجراً ، أو يقدم خدمة لأحد.

- لقد ركَّب الله هذه الشهوات والمحبوبات لتكون سبباً في بقاء الإنسان على هذه الأرض، يخلُف بعضهم بعضاً.

- إلا أن الإنسان – في بعض أحواله – ينجرف بهذه الشهوات بعيداً عن مسارها الشرعي، الذي رسمه الله لها ، وركَّبها من أجله.

- فتراه ينساق بشهوته الجنسية نحو الزنا واللواط والسِّحاق، وينساق بحبه للمال نحو الحرام، وأكل أموال الناس بالباطل.

- فإذا بالشهوة التي ركبها الله لعمارة الأرض تنقلب أداة تدمير للبشرية، وإفساد للحياة والمجتمع.

- وها هو التاريخ في القديم والحديث : يحدِّثنا كيف كانت هذه الشهوات سبباً في هلاك أمم بأكملها، وضياع أمجادها وحضاراتها.

- وها هي معالم آثارهم بقيت أطلالاً خاوية خالية، حين فرطوا، وطغوا، وبغوا، وظنُّوا أنهم إلى الله لا يُرجعون.

- أيها الإخوة : لقد بقي حبُّ المال وما يزال دافعاً قوياً نحو الاستكثار منه، والحرص عليه، وجمعه من كلِّ وجه.

- حتى إن بعضهم ليستزيد من الأموال حتى يكوِّن ثروة يصعب عليه حصرها وإدارتها، ومع ذلك لا يتسامح مع الناس في شيء من حقوقه.

- بل تراه نَهِماً جشعاً حريصـــاً على حقوقـــه مهما كانت يسـيرة، في حين لا يبالي بإعطاء الناس حقوقهم مهما كانت تافهة.

- احتفظ أحد الأثرياء برواتب أحد عمَّاله ، فلما أراد العامل السفر جاءَه لأخذ حقه، فأبى أن يعطيه حقه، وقــال له: أنت رجـل مقطـــوع، ليس لك زوجة ولا ذرية، فلا تحتاج إلى هذا المال، فمضى الرجل دون أخذ حقوقه!!

- وقِسْ على ذلك من يبخسون العمال والمستخدمين، فلا يعطونهم حقوقهم، وربما أجبروهم على الإقرار باستلامها دون أن يكونوا قد استلموها.

- فكم هم الذين ظلموا الخدم والسائقين والأجراء حقوقهم، أخذوا منهم جهدهم، وشقى أعمارهم ثم جحدوهم حقوقهم ؟!

- فلم تتمكن الأنظمة والقوانين – في كثير من الحالات – من الوقوف في وجوه هؤلاء الجشعين المغتصبين.

- وكم هم قطَّاع الطرق ، الذين يحولون بين الناس وحقوقهم، في الإدارات الحكومية، والمؤسسات والشركات.

- لا يأخذ أحدهم حقَّه إلا بشيء من المال يدفعه ليخلِّص معاملته من براثين الموظف الجشع الغليظ.

- لقد لعب المرتشون وأعوانهم بحقوق الناس ، وبدَّلوا الحقائق ، وتمادوا في ذلك حين أمنوا العقوبة والقصاص.

- كم من حق أبطلوه ، وكم من باطل أثبتوه ، مقابل رشوة ، تُشترى بها الذمم الرخيصة، وتُستعبد بها النفوس المريضة.

- أيها المسلمون : لقد عبثت الرشوة بحقوق الناس ، وقلبت الموازين ، وأفسدت المعايير .

- ينال أحد البسطاء من الناس منصباً إدارياً ، فما يلبث طويلاً في هذا المنصب، حتى يتحوَّل إلى ثري صاحب جاه.

- ثم لا يجرؤ أحد أن يسأله : «من أين لك هذا؟» لأنه غدا الآن من كبار القوم، فلا تصحُّ مساءلته.

- كم هم الذين كوَّنوا ثروات طائلة لا يُعرف لها مصادر معلومة، وإنما حصلت لهم بعد نيلهم المناصب.

- لقد وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه  لجمع من عماله يسألهم ويحاسبهم ، ويشتدُّ عليهم: « من أين لكم هذا؟ ».

- يستنُّ في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقف على المنبر يقول: « ما بال العامل نبعثه، فيأتي يقول: هذا لك، وهذا لي، فهلاَّ جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رُغاء، أو بقرةً لها خوار، أو شاة تيعر، ألا هل بلغت؟ » ، قالها ثلاثاً.

- وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً في الرشوة وأهلها : « لعن الله الراشي والمرتشي والرائش، الذي يمشي بينهما ».   

* * *

- أيها المسلمون : كم هو جميل أن يقوم الموظف بما أوجبه الله عليه من العمل، فينال أجره في الدنيا، مع ما يدَّخره الله له في الآخرة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخازن الأمين، الذي يؤدِّي ما أمر به طيبةً به نفسُهُ: أحد المتصدقين»، فانظروا – رحمكم الله - كيف رفعه الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم إلى درجة المتصدق لمجرد أمانته، وقيامه بالعمل المناط به.

- ولئن كان من بين الموظفين في الأعمال أناس لا دين لهم ولا خلق، فإن من بينهم صالحين، يحترق أحدهم ليقدم خدمة للناس، يكره أن يرى معاملة معطَّلة، أو حقاً مغتصباً، إلا أنهم قليل.

- أيها الإخوة : إن خطر الرشوة عظيم ، وضررها كبير ، ولكم أن تتخيلوا حال صاحب الحق حين ضاع حقُّهُ، كيف يهنأ له بال وحقه ضائع؟

- وليس كل الناس يصبر على الظلم ، فقد يندفع أحدهم – تحت وطأة الشعور بالظلم – نحو من ظلمه فيقتله، فتكون الرشوة قد أدت إلى جريمة.

- وأما ما تخلِّفـه الرشــوة في النفــوس من الأحقاد والضـغائـن فهـو كثـير لا يُحصى.

- أيها الإخوة : إن العدل هو روح المجتمع ، به يحيا ، وبزواله يموت ، فليلتمس عقلاء المجتمع أسباب حياة مجتمعاتهم، وليحذروا أسباب هلاكها وزوالها، فإن في كل مجتمع سفهاء، إن تمكَّنوا : هلكوا وأهلكوا الناس معهم، وإن أخذ العقلاء على أيديهم، نجوا ونجا الناس معهم.