الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الجهادية @ 17- معركة مؤتة الفاصلة
- أيها المسلمون : في هدنة الحديبية بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة : تفرَّغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لدعوة الناس في أطراف الجزيرة وخارجها.
- فكتب الكتب للملوك والأمراء، يدعوهم إلى الإسلام، وحمَّل هذه الكتب رسلاً من خيار أصحابه، من أمثال: عمرو بن أمية الضمري، وعبد الله بن حذافة السهمي، ودحية الكلبي، والعلاء بن الحضرمي، وغيرهم كثير رضي الله عنهم.
- فأرسل إلى النجاشي ، والمقوقس، وكسرى، وقيصر، وصاحب اليمامة، وصاحب دمشق، وملك عمان وغيرهم يدعوهم إلى الإسلام ، والدخول في زمرة المؤمنين.
- ومن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه ، أرسله إلى عظيم بصرى، فاعترضه شُرحبيل بن عمرو الغساني.
- وكان شرحبيل عاملاً لقيصر على بعض بلاد الشام، فلم يراع مبدأ احترام الرسل، وعصمة دمائهم، فأوثقه ثم قتله.
- ولا شك أن قتل الرسل والسفراء من أشنع الجرائم في الأعراف الدولية، وهو بمثابة إعلان الحرب ؛ ولهذا اشتدَّ الأمر على الرسول صلى الله عليه وسلم حين بلغه خبر مقتله.
- فجهز الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف رجل، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وعقد له لواءً أبيض ، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة رضي الله عنه .
- ثم ودَّع الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش وأوصاهم بتقوى الله، وأن لا يقتلوا وليداً ولا امرأة ولا عابداً في صومعته، ولا يغدروا ولا يهدموا ولا يحرقوا شجراً.
- وخرج المسلمون يشيعونهم ويودِّعونهم، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا ثنية الوداع، وسار الجيش على بركة الله شمالاً نحو الشام.
- بلغ الروم وأعوانهم من العرب المتنصِّرين خبر الجيش الإسلامي المتَّجه نحوهم ، فأعدوا مائتي ألف مقاتل لمواجهة ثلاثة آلاف مقاتل فقط.
- فلما وصل الجيش الإسلامي مشارف الشام : بلغهم خبر عدد جيش الأعداء وعدَّتهم، فتفاجأوا، واجتمعوا للتشاور.
- وترددوا ، وفكروا بالكتابة للرسول صلى الله عليه وسلم لطلب المدد والمشورة، فقام فيهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فقال: « يا قوم ، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون : الشهادة، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما الظهور، وإما الشهادة».
- فاستقر الجيش على رأيه، وتقدَّموا نحو عدوهم ليواجه كلُّ رجل منهم سبعين من المشركين، تشاهد الدنيا هذه المعركة العجيبة، غير المتكافئة، ولكن إذا هبَّت ريح الإيمان، واختلطت بشغاف القلوب أتت بالعجائب والغرائب.
- ويَنْشَبُ القتال، وتبدأ المعركة، فليس إلا صريرَ السيوف، وطعنَ الرماح، ووخزَ السهام.
- ويثبت المسلمون ، ورايتهم مع قائدهم زيد بن حارثة رضي الله عنه ، هي في يده منذ عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نشبت فيه رماح الأعداء من كل جانب.
- ثم تناول الراية بعده جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، حتى إذا أرهقه الأعداء من كل جانب ، نزل عن فرسه الشقراء وعقرها وأخذ يقاتلهم.
- فقُطعت يمينه التي تحمل الراية، فأخذها بشماله فقطعت، فاحتضنها بعضديه وضمها إلى صدره كي لا تسقط.
- فجاءه رومي عنيد فضربه بسيفه ضربةً عظيمةً قاسيةً قسمته إلى نصفين.
- فتناول الراية من بعده عبد الله بن رواحة رضي الله عنه القائد الثالث، وكان في نفسه شيء من التردد، ثم عزم أمره، وخاض المعركة حتى قُتل.
- وهنا خلى جيش المسلمين من القيادة، فيظهر في هذه الأثناء رجل الموقف، رجل الساعة، سيفُ الله المسلولُ على الكفار، خالدُ بن الوليد رضي الله عنه.
- فيأخذ الراية ويخوض بها في صفوف المشركين، لا يكاد أحد يقف في وجهه إلا قطعه بسيفه، حتى اندقَّت في يده تسعة أسياف.
- لقد تكسرت أسيافه على جماجم الروم وأجسادهم، حتى قيل: إنه قتل خمسة آلاف مشرك يوم مؤتة، قتلهم وحده رضي الله عنه.
- وفي اليوم الثاني من أيام المعركة احتال خالد رضي الله عنه فغيَّر مواقع جنده، وأظهر أن مدداً وصله من المدينة ليوقع الوهن في الأعداء.
- ثم أخذ في خطة حربية للانسحاب، فانحاز الجيشان كلٌّ على حدة، ولم يجرؤ المشركون على مواصلة القتال.
- فانتهت المعركة، ولم يقتل من جيش المسلمين سوى اثنا عشر رجلاً فقط، مقابل آلاف من المشركين.
- ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكأنما فتحت له نافذة من الغيب يتابع أخبار المعركة ، فيقول لأصحابه، وعيناه تذرفان بالدموع: « أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، حتى أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم »، وجلس الرسول صلى الله عليه وسلم يُعرَفُ الحزن في وجهه لمصاب أصحابه.
- ثم دخل على أولاد جعفر فاحتضنهم ودعا لهم، وأمر الحلاق بحلاقة رؤوسهم، وأخبر أمهم بأنه كفيلهم حتى يكبروا.
- ثم أمهلهم ثلاثة أيام يبكون على جعفر، ثم دخل عليهم، فقال: « لا تبكوا على أخي بعد اليوم »، وبشرهم بفضل جعفر ومكانه في الجنة.
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ".
* * *
- أيها المسلمون : ولما رجع الجيش إلى المدينة دون أن يلاحقه جيش الروم : استقبلهم بعض المسلمين بالعتاب؛ في كونهم انسحبوا ولم يستمروا في القتال حتى النهاية.
- وقالوا لهم: « أنتم الفرار »، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: « ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله ».
- وهكذا الحمية الإسلامية تأبى الانسحاب أمام الكفار، ولو كلَّف ذلك موت الجميع، إلا أن الحكمة تقتضي الانسحاب.
- وهو ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم ، واعتبره فتحاً للمسلمين، ولا شك أن صمود جيش المسلمين أمام الكافرين في معركة غير متكافئة هو نصر في حد ذاته.
- ولكن الدرس الأعظم والأجَلَّ هو أن نتيقن أن النصر من عند الله وحده، لا يُنزله ولا يصنَعُه إلا الله وحده.
- ومازال المسلمون عبر التاريخ الإسلامي ينتصرون على أعدائهم حين كانوا متوكِّلين على الله، معتمدين عليه سبحانه، آخذين بأسباب النصر.
- وها هم اليوم حين اعتمدوا على غيره، وركنوا إلى غير جنابه : خذلوا، وما زالوا ينهزمون ويتراجعون في كل ميدان.
- ولن يفلحوا أبداً ما داموا معرضين عن دينهم، يلتمسون العزة في غيره، فقد كتب الله الذل والصغار على من اعتزَّ بغيره.