الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية العقلية @ 13- اللغة العربية وقضية تعليم اللغة الأجنبية
- أيها المسلمون : يخلط كثير من الناس بين مفهوم الثقافة ومفهوم العلم؛ فالعلم معرفة شائعة بين جميع الناس ، لا تختص بجنس دون جنس.
- مثل علم الفيزياء والكيمياء والرياضيات ونحوها، فهذه علوم مشاعة بين الناس ليس لها وطن ، وليس لها جنس.
- وأما الثقافة فإنها خاصية أُممية، تتضمن عقيدة أهلها وعاداتهم وتقاليدهم، ونهج عباداتهم، وما يتميزون به عن غيرهم.
- ثقافة أيِّ أمة من الأمم تتكون من عنصرين: الأول: الشكل وتمثله اللغة، والثاني: المضمون ويمثله نهج حياة الأمة في عاداتها وتقاليدها وعقيدتها ونظامها، وكلِّ ما يخصها ويميزها عن غيرها من الأمم.
- ومن هذا الفهم للثقافة تظهر أهمية اللغة للأمم في حفظ ثقافاتها وتراثها وحضارتها، ولهذا تحافظ الأمم على لغاتها ، وتذود عنها.
- والناظر في سياسات جميع الدول والشعوب يجد الجميع حريصاً على المحافظة على لغاتهم القومية ، ونشرها وتعليمها والتمكين لها.
- ينطلقون في ذلك من أن اللغة هي رمز وجود الأمة، ومن فقد لغته : فَقَدَ نفسَه، وخسر ذاته.
- ولهذا تحرص غالب دول العالم -لاسيما المتقدمة منها- على ألا تشارك لغتها القومية لغة أخرى، فإذا احتاجوا إلى علم مدوَّن بلغة الأخرى : ترجموه إلى لغتهم ، وقدموه لأبنائهم، كما فعلت اليابان، وغيرها من دول العالم.
- فهذه اللغة العبرية التي كان من المفروض أنها اندثرت منذ ألفي سنة مضت: أخذت تتقوى في هذا العصر بعد قيام دولة اليهود، وأخذت تتطور لتصبح لغة للعلم والتدريس، حتى أصبحت لغة الشارع في فلسطين، وما ذلك إلا باستماتة أهلها في نشرها وتقريبها من الحضارة الحديثة.
- أيها المسلمون : إن اللغة ليست مجرد أصوات ينطق بها الإنسان؛ وإنما هي وعاءُ تراثِ الأمة وعلومها وعقائدها، وكلِّ خصوصياتها الثقافية.
- واللغة فوق ذلك تؤثر في العقل وعمليات التفكير والذكاء، فالإنسان يفكِّر باللغة ويعبر بها، فتدخل في صلب كيانه العقلي والنفسي.
- ولما كان للغة تأثيرها في فكر الإنسان وكيانه: حرصت الأمم على وضع الحواجز بين شعوبها واللغات الأجنبية، فإن احتاجت إلى شيء من العلوم الأجنبية ترجمته إلى لغتها، كما فعلت الأمة المسلمة في زمنها الأول حين ترجمت العلوم والمعارف إلى اللغة العربية.
- لقد استقرَّ في حسِّ الشعوب قاطبة : أن اللغة عنوان أهلها ، تحيا بحياتهم وتموت بموتهم، وتتطور وتتقدم بتطورهم وتقدمهم ، وحرصهم عليها.
- أيها المسلمون : إن تبني لغة أجنبية وتمكينها لتهيمن على جميع مجالات الحياة هو الانتحار الحضاري في أبشع صوره.
- ولا يسعى لمثل هذا في أي أمة من الأمم إلا خائن لأمته ووطنه.
- أيها المسلمون : إذا كان هذا هو موقف شعوب الدنيا من لغاتهم القومية، فما هو موقف الأمة المسلمة من لغتها؟
- لقد ارتبطت اللغة العربية بكيان الأمة، وامتزجت بروحها، فهي لغة العبادة، ولغة التراث، ولغة الوحدة والاتصال بين الشعوب الإسلامية.
- لقد منَّ الله على أمة العرب أن خلَّد لغتها، فلا تعرف الإنسانية لغة خلَّدها كتاب إلا اللغة العربية، فإن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن، المعجزة البيانية.
- ولقد أثبت التاريخ أن اللغة العربية تصلح لأن تكون لغة كونية؛ لأنها تحمل الرسالة الربانية للبشرية جمعاء، وكونها أيضاً ناقلة بارعة للعلوم والمعارف بكل أنواعها.
- ويكفي هذه اللغة تعظيماً وتشريفاً أن تكلم الله بها، وتعبدنا بها في صلاتنا وقراءتنا.
- أيها المسلمون : إن اللغة العربية في هذا العصر تواجه هجمة عالمية شرسة، تستهدف انتزاعها من أهلها، وبالتالي انتزاع الدين الخاتم.
- إنها تتعرَّض لأزمات : مشكلة العامية ، أزمة المصطلحات العلمية، تدريس اللغات الأجنبية، التدريس بغير اللغة العربية في الجامعات، كلُّها تصبُّ في إرهاق اللغة العربية وإقصائها.
- لقد أصدرت المؤتمرات العربية العالمية، والمجامع اللغوية توصياتها – الكثيرة والمتكررة- باعتماد اللغة العربية لغةً لجميع الشعوب الإسلامية ، وتمكينها من التدريس.
- وقد نجحت بعض المؤسسات التعليمية بالفعل في تدريس جميع العلوم باللغة العربية، إلا أن هذه التجارب في حاجة إلى دعم وتعاون.
- فما زال كثير من الدول العربية والإسلامية لا تعتمد اللغة العربية في تعليم العلوم، لاسيما في الجامعات.
- وهناك فئات من أبناء المجتمع - بحسن نية أو بسوء نية- يسعون جاهدين لأن تدخل اللغة الإنجليزية إلى الصفوف الدنيا في التعليم.
- يظن هؤلاء أن هذه أفضل وسيلة لكسب التقنية الحديثة ، ومجاراة العالم في تقدمه، ومن العجيب أن في أفريقيا دولاً كاملة تتحدث الفرنسية، وأخرى تتحدث الإنجليزية ، ومع ذلك بقيت من أكثر الدول تخلُّفاً.
- وقد ثبت أن تعليم لغة أجنبية لطفل المرحلة الابتدائية يضر باللغة الأم .
- ثم إن تعليم اللغات الأجنبية لا يأتي مجرداً عن ثقافة أهلها، فلا بد أن تأتي اللغة الأجنبية محمَّلة بعادات أهلها وتقاليدهم ، بل ربما بشيء من دينهم الباطل.
- ومن المعلوم أن الشخص لا يمكن أن يتعلم لغة قومٍ ، ويصل في تعلمها إلى المنتهى إلا أن يحترم أهلها ، ويمتزج بهم عاطفياً.
* * *
- أيها الإخوة : إن ربط التقدم الحضاري اليوم باللغة الإنجليزية أمر مرفوض؛ فقد تجد في اليابان العالم الذي لا يعرف الإنجليزية، والطالب الياباني يأتي ترتيبه الثامن عشر في إجادة اللغة الإنجليزية.
- وتعليم اللغة الأجنبية في ديننا مكروه، وإنما الحاجة تقدر بقدرها بعد الدراسة والبحث.
- وقد أثبت الواقع أن مقرراً دراسياً لا يمكن أن ينهض باللغة الجديدة.
- أيها الإخوة : ولبيان أهمية اللُّغَةِ في السيطرة على الشعوب : يقول الحاكم الفرنسي لجيشه حين غزا الجزائر: «علِّموا لُغَتَنَا وانشروها حتى نحكم الجزائر، فإذا حَكَمَتْ لغتُنا الجزائرَ فقد حكمناها حقيقةً».
- تقول ممثلة فرنسية ممن عاش قبل مائة عام من الآن : « لقد اجتزتُ البحارَ، وتجشَّمتُ الأسفار ، حاملةً فنِّي على منكَبي ، ولغةَ بلادي في فمي، فغرستها في كبدِ اللغاتِ الأجنبية، وهذا فخري وشرفي ».
- فهذا فخر امرأة ساقطة بلغة بلادها ، فما هو فخر أهل الإسلام بلغتهم العربية؟.