الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الأخلاقية @ 20- ذم الغيبة وقبيح مسلكها
- أيها المسلمون : إن من أعظم ما يميِّز المجتمع المسلم : ترابُط أفراده، وتماسُك بنائه، وهذا هو أحد أسرار قوة المسلمين.
- إن الوحدة والتكاتف، وسلامةَ الصف، وترابط أطرافه وأركانه: سبب القوة والتمكين والثبات.
- ولهذا كان هدف أعداء الإسلام – منذ زمن طويل - إضعاف رابطة الأخوة بين المسلمين، وتوهين العلاقة فيما بينهم ، ومن ثمَّ تفريق جمعهم.
- فكانت الفرَق والأحزاب والعصبيات، والحدود السياسية والإقليمية، كلُّها عوامل هدم في كيان الأمة الأخوي الكبير.
- ولقد جاءت الشريعة الإسلامية بدعم كلِّ ما من شأنه توحيد الكلمة، وإصلاح ذات البين، وجمع القلوب، وسلامة الصدور.
- وفي الجانب الآخر : حرمت الشريعة كل َّما من شأنه إفساد ذات البين، وإثارة الضغائن، وإيغار الصدور بين المسلمين.
- فحرمت الشريعة الظلم بين الناس، وسوء الظن، والنميمة، والسخرية، والاستهزاء، وكلَّ مثير للكراهية والحقد بين المسلمين.
- وإن من أخبث المسالك الخلقية التي جاءت الشريعة بتحريمها، واعتبارها من الكبائر الموجبة للعقوبة في الآخرة : الغيبة.
- وهي: ذكرك أخاك المسلم بما يكره في حال غَيْبته، فهي ذكر العيب بظهر الغيب.
- كأن يشير إلى نقصٍ أو عيبٍ في : بدنه ، أو صوته ، أو لباسه ، أو خلقه ، أو سـلوكه ، أو دينه ، أو دنيــاه ، أو ولده ، أو داره ، أو دابته ، ونحو ذلك، مما يكرهه الغائب ويُحزنه سماعه.
- وقد يصرِّح الرجل بهذا العيب بكلامه، وربما ألمح إلى ذلك بالكناية، أو عبَّر عنه بالإشارة، وكل ذلك ممنوع شرعاً.
- إلا أن غالب الغيبة بين الناس إنما تكون باللسان؛ ولهذا جاء في الحديث : «أكثر أخطاء ابن آدم في لسانه».
- ولما كانت الغيبة معول هدم في كيان الأمة، يفرِّق بين جماعاتها وأفرادها: جاءت الشريعة بتحريمها، وعدِّها من كبائر الذنوب.
- قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ".
- ويقول أيضاً: " لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ".
- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال: ذِكْرُكَ أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه ».
- ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام : «من أربى الربا : الاستطالة في عِرْضِ المسلم بغير حق».
- ويقول أيضاً : « كلُّ المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله ».
- ولقد جاء التنفير الشديد من مسلك الغيبة في كون المغتاب كأنما يأكل من لحم أخيه حين يذكره بالسوء، فقد قال تعالى: " ... أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ...".
- وجاء في الخبر عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: « من أكل لحم أخيه في الدنيا قُرِّبَ له يوم القيامة، فيُقال: كُله ميتاً كما أكلته حياً».
- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: « كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فارتفعت ريحٌ منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدرون ما هذه الريح ؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين ».
- مرَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه مع بعض أصحابه على بغلٍ ميت ، فقال لهم : « لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم ».
- ويكفي المسلم تنفيراً من هذا الخلق القبيح حين يأتي يوم القيامة بالحسنات العِظام فلا يبقى منها شيء، قد أخذها أصحاب الحقوق.
- وأما الذين لا ينزجرون عن هذا المسلك القبيح فإن العقوبة يوم القيامة عظيمة، وفي الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « لما عُرِجَ بي مررت بقومٍ لهم أظفار من نُحاسٍ ، يَخْمِشُون وجوهَهُمْ وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم».
- ومرَّ النبي صلى الله عليه وسلم مرةً بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان ، وما يُعذبان في كبير ، أما أحدهما فيُعذب في البول، وأما الآخر فيعذبُ في الغيبة».
- وأما أصحاب البهتان، الذين يجمعون بين الغيبة والكذب، واتهام الناس بما ليس فيهم، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن عقوبتهم يوم القيامة: «من قال في مؤمن ما ليس فيه: أسكنه الله رَدْغَةَ الخبال (وهي عصارة أهل النار) حتى يخرج مما قال».
- وقال أيضاً : « من ذكر امرءاً بشيء ليس فيه ليَعِيبَهُ به: حبسه الله في نار جهنم حتى يأتيَ بنفاد ما قال فيه »، يعني حتى يثبت صدق كلامه، نعوذ بالله من مسالك الهالكين، وأقوال المبطلين.
* * *
- أيها الإخوة : لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليسمح بالغيبة أمامه، فقد قال بعضهــم: « يا رسول الله ما أعجز فلاناً ، أو قالوا : ما أضعف فلاناً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتم صاحبكم وأكلتم لحمه ».
- ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليسمح بالغيبة حتى لأحبِّ الناس إليه، فقد قالت عائشة رضي الله عنها عن ضرتها صفية رضي الله عنها : « حسبُك من صفية كذا وكـذا ( تعني قصيرة )، فقال: لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجتـه »، يعني : لغَيَّرته.
- أيها المسلمون : إن الغيبة كبيرة من كبائر الذنوب، يزيد إثمها بقدر حجم مفسدتها.
- ولا تباح إلا بقدر الحاجة والضرورة، كشكوى المظلوم عند السلطان، فيذكر الظالم بظلمه وإساءته ، وذكر أهل الفجور والمعاصي المجاهرين بها للتحذير منهم، وذكر المصاهرة، للسؤال عن الخاطب، ونحو ذلك مما فيه مصلحة شرعية، وبالقدر الذي يدفع الضرر ويحقق المصلحة ، وما زاد على ذلك فظلم وتعَدٍّ.
- وأما دوافع الغيبة فكثيرة، منها: شفاء الغيظ بذكر مساوئ الشخص حال غيابه، ومنها مجاملة الأصدقاء والجلساء، ومنها تزكية النفس، ومنها الحسد، ومنها السخرية والاستهزاء ونحو ذلك.
- أيها المسلمون : لقد انتشر مسلك الغيبة بين المسلمين، ومواجهة الناس بالإنكار أمر عسير، ولكنه الواجب الشرعي.
- ولهذا كان السلف لا يرون شدَّة العبادة في الصوم والصلاة والحج، وإنما في الكف عن أعراض الناس ، وحفظ الألسنة عن ذلك.
- وقد رتَّب الشــارع الحكيم على مواجهة الغيبة الأجر العظيم؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من ردَّ عن عرض أخيه : ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة».
- وقال أيضاً: «من ذبَّ عن عرض أخيه بالغيبة : كان حقاً على الله أن يُعْتِقَه من النار».
- إن أقلَّ ما يصيب المغتاب في الدنيا فضيحتُه وانكشافُ عورته، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتهم، فإنه من اتَّبع عوراتهم: يتَّبع الله عورته، ومن يتَّبع الله عورته يفضحه في بيته » .