الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الإيمانية @ 29- قيمة الوقت عند أهل القبور
-
أيها المسلمون : لقد أجمع العقلاء على أن أغلى وأهمَّ وأجلَّ ما يملكه الإنسان هو
الوقت ، فهو رأس ماله ، بل هو حياته على الحقيقة .
- ولعل أعظم الناس إدراكاً لأهمية الوقت وعظمته هم
أصحاب القبور ، الذين سُلبوا الوقت، فلم يعودوا يملكون منه شيئاً .
- إن للوقت عند أصحاب القبور معنىً خاصاً ، فهم
يعظِّمون الوقت ويحترمونه في كل جزئياته ، بدءًا من الثواني وحتى السنوات .
- فالثانية عند أهل القبور أعظم وأجلُّ من الدنيا
وما فيها ، فالثانية يمكن أن تكون موضعاً للتسبيح أو التهليل أو الاستغفار .
- وأما الدقيقة عندهم فهي أجل وأغلى من ذلك ، فهي
زمن لقراءة آية ، أو سجدة تلاوة ، أو دعاء ، أو سلام يلقيه المسلم على أخيه .
- وأما الساعة عند أهل القبور فلا تقدَّر بثمن ،
يقرأ فيها سورة ، أو يصلي فيها ، أو يصل رحماً ، أو يسعى على أرملة أو مسكين ، أو
يأمر بمعروفٍ وينهى عن منكرٍ ، أو يزور أخاً له في الله ، أو يقرأ كتاباً نافعاً ،
أو يجلس يتأمل ويتفكر في ملكوت الله تعالى .
- وأما اليوم عند أهل القبور فأهميته ومكانته
أجلُّ من أن تُوصف ، فمن الفجر حتى الشروق في المسجد يصلي ويذكر ويستغفر .
- ومن الضُّحى حتى ما بعد الظهر في عمله ، يعطي
للناس حقوقهم ، ويُتقن ويُحسن ، يُيسِّر ولا يُعسِّر ، يبشِّر ولا ينفِّر .
- وأما
العصر فتوجيه للأولاد ، وبرٌّ للوالدين ، وزيارة مريض ، وخدمة قريب أو صديق ، حتى
إذا كان الغروب استغفر وأناب.
- وإذا ما كان الليل ، فساعة لأهله يلاطفهم
ويداعبهم ، ويقضي حاجتهم، وساعة لجسمه يُريحه من عناء اليوم ، وساعة لربه يصلي ويتهجَّد
.
- أيها المسلمون : هذا هو برنامج أصحاب القبور ،
ورعايتهم للوقت لو قدِّر لهم أن يعودوا إلى الدنيا ، ولكن قد قضى الله تعالى أنهم
إليها لايرجعون أبداً ، فمن خرج من الدنيا لا يعود إليها أبداً .
- إنها أمانيُّ أهل القبور لو رجعوا إلى الدنيا ، " .... رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ "
.
- " ربنا أَخْرِجْنَا مِنْهَا
فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ " .
- إنها آمالٌ فارغة ، وأمانيُّ طائـرة ، لا حقيقة
لها ، ولا واقع لها .
- أيها الإخوة : لو قُدِّر أن يخرج علينا رجل من
أهل القبور ، قد مكث فيها ساعة واحدة ، وعاين حقيقتها ، ورأى آياتها .
- فماذا تراه يفعل ، وكيف سوف ينظر إلينا ، بل كيف
ننظر نحن إليه ، هل سوف يشاركُنا ونشاركُه في الحياة والمعاش ، أم أنه سوف يكون
شخصاً آخر ، قد ملكه الذهول ، وطاش منه العقل ، وتقطَّع فؤاده لهول ما رأى وعاين ؟.
- وكأني به يسير في الشوارع يصيح ويجأر إلى الله
تعالى ، لا يبالي بنظر الناس إليه ، ولا يلوي على شيء .
- لقد ذهَلَ عن ماله وأهله وولده ، وكأنه لا
يعرفهم ، " يَوْمَ
يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " .
- لقد انعقد لسانه عن الحديث في الدنيا ، وزهِدَت
نفسه عن كلِّ ملذاتها ، فلا يشرب ولا يأكل ولا يلبس ولا ينام إلا عن ضرورة .
- إذا نَظر إلى زهَّادنا تعجَّب من غفلتهم ، وإذا
نظر إلى عُبَّادنا تعجب من كسلهم ، لا يكاد يعجبه شيء من أحوالنا .
- لا يفرِّق بين الذهب والتراب ، والفقير والغني
، والشريف والوضيع ، وحتى النساء لا يُفرِّق بين الجميلة والقبيحة منهنَّ .
- لقد استوى في حسِّه كلُّ شيء ، حتى الظلم
والإهانة والإساءة ، لا يلتفت لآلام ولا لأوجاع، لا يبالي بشيء من ذلك يقع عليه ، قد
رضيَ بكل ذلك، فلا همَّ له إلا رضى الله تعالى .
- لقد فعلت فيه ساعة القبر فعلها ، فلا تعجبوا
أيها المسلمون من سلوكه ، إنه رجل من أهل القبور .
* * *
- أخي المسلم : توهَّم أنك هذا الرجل الذي مكث في
القبر ساعةً واحدة ، ثم أمهله الله تعالى ، وأعاده إلى الدنيا بعد أن عرف الحقيقة
ورآها بأم عينه .
ــ
فماذا تراك يا أخي تصنع ؟ فأما الصلاة فسوف تتقنها ، وأما الحقوق فسوف تؤديها ،
والرحم فسوف تصلها ، والأخلاق فسوف تلتزم بها ، والقرآن فسوف تقرؤه وتتدبره ،
والعلم فسوف تحرص عليه وتعمل به .
- فإذا كان الأمر كذلك فمن الآن أخي المسلم فاحرص
على وقتك واملأه بالطاعات والصالحات،
وعُدَّ نفسك من أهل القبور ، قد أمهلك الله ، فما أنت صانع بوقتك ؟
- أيها
المسلمون : إن الوقت عمار أو دمار ، عمار للفطناء الأكياس ، الذين يعرفون شرف
الزمان ، وحرمة المكان ، ودمار على الأغبياء ، الذين استسلموا للصوص الأوقات ، من
رفقاء السوء ، وقنوات الفساد ، وصالات الأسهم .
- إن المسلم الفطن يعلم أن لكل وقت فريضة لابد أن
يؤديها ، ولكل زمان وظيفة لابد أن يقوم لها ، والأوقات في كل ذلك قليلة ، والوجبات
كثيرة ، إلا أن المسلم يقارب ويسدِّد ، ويستعين بالله ويجتهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : «سدَّدوا
وقاربوا ، واغدوا وروحوا ، وشيء من الدُّلجة ، والقصد القصد تبلغوا ».