الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الاجتماعية @ 1ـ مقاصد النكاح في الشريعة الإسلامية
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله تفرَّدَ بالربوبية والإلهيَّة، والعظمة والصمديَّةِ، خلق فسوى، وقدَّر فهدى. قضى على خلْقِهِ بالزوجية، واختص لذاته بالوحدانية، فهو الواحد الأحد، خلق آدم من طين، ثم جعل نسلَهُ من ماء مهين، فقدَّر له المقامَ في قرار مكين، فكان من ذلك تناسل البشر أجمعين، وسنَّةُ الناس من الأولينَ والآخِرين، فسبحان من خلق من الماء بشراً، فجعلَهُ نسباً وصهراً. وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريكَ له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أطهَرُ الخلائقِ نسباً، وأعلاهم حسباً، وأكمَلُهُم خلْقاً وخُلُقَاً، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فاتقوا الله عباد الله, وراقبوه مراقبةَ من يعلمُ أنَّه يراه، واعلموا أنَّه لا يضر ولا ينفع، ولا يصل ولا يقطع إلا الله، فهو المتصرف في خلقه، القاضي فيهم بحكمه، لا إله إلا هو الإله الحقُ المبين.
أيها الإخوة: إنَّ الغايةَ الكبرى من خلق الإنسان: تحقيقُ العبودية الخالصة لله تعالى، فالله سبحانه وتعالى مع غناهُ عن خلقه، وافتقار خلقه إليه: إنما خلقهم للعبادة، والقيامِ بالطاعة، فالعبادة في حقِّ الإنسان مرتبطةٌ بوجوده، فمتى وُجدَ الإنسانُ المكلَّفُ أُلزم بالعبودية لله تعالى، فلا يمكن أن تتحقَّقَ العبوديةُ لله تعالى من المكلفين إلا بوجود الإنسان، ولما كانت السُّنَّةُ في وجود الإنسان التناسل: شَرَعَ الله تعالى النكاح؛ ليكون الوسيلةَ لإخراج العُبَّاد من المكلَّفين، ولما كانت طبيعةُ الإنسانِ مفتقرةً إلى التربية والرعاية الطويلة: شرعَ المولى عز وجل نظام الأسرة، وأوقع في قلوب الآباء الشفقةَ على الأبناء، وألهمهم محبَّتَهُم، والصبر عليهم.
ومن هنا أيها الإخوة فإن المقصودَ الأكبرَ من مشروعية النكاح: حصول الولد، وكثرة النسل، التي تتحقق من خلالها العبودية لله تعالى، فالذرية ثمرة النكاح، وغايةُ الزواج. وقد أدرك السلف رضوان الله تعالى عليهم هذه الغاية من مشروعية النكاح، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول : « لولا الولدُ لم أتزوج … إني لأطأُ النساء وما لي إليهن حاجةٌ : رجاء أن يُخرج الله من ظهري من يكاثر به محمدٌ صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة » . وكذلك كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم – في العموم - يستكثرون من الولد، فقد كان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أربعة عشـر ذكراً، ومن الإناثِ سبعَ عشرةَ أنثى، وكان لقيس بن عاصم رضي الله عنه اثنانِ وثلاثون من الذكور.
ولقد أدركت كثير من الشعوب في القديم والحديث: الجوانب الإيجابيةَ لكثرة النسل من جهة أن الإنسان في حدِّ ذاتة هو الأساسُ في النهضة الحضارية، والعنصرُ المهم في التفوق الاقتصادي، فهذه الأمَمُ اليهودية والنصرانية– رغم فهمها الأعوج للزواج – تدعو بكل قوة إلى التناسل والتكاثر وتحسين النوع، حتى إن اليهود ينزلون اللعنة بالعزاب الذين يعزُفُون عن الزواج، والنصارى كانوا يوقعون – إلى عهد قريب – أقسى العقوبات بكلِّ من يقتلُ أولاده، أو يُجْهِضُ الحوامل. وهم اليوم تحت وطأة حقوق الإنسان، ونظام الحريات الشخصية: يكتفونَ بالحثِّ والتشجيع على التناسل, وتقديم العون والمساعدات للأسر الكبيرة، وذلك حين قلَّت عندهم فرص الإنجاب من خلال وسائل منع الحمل، حتى إن الإحصائيات الغربية تُشير بصورة مفزعة إلى تناقصِ عدد المواليد الذي يُنذر بالانقراض. وذلك في الوقت الذي يتوجَّهُ فيه الغرب، ويسعى إلى إضعاف التناسل السكاني عند الشعوب المنافسة، خاصة الشعوبَ الإسلامية، التي تعتقد من دينها أنَّ التكاثر سنةُ الأنبياء، وأن الأرض لن تضيقَ يوماً بكفاية أهلها. فجدُّوا في إقناع الشعوب بضرورة ضبط عملية الإنجاب، وأوصوا من خلال مؤتمراتهم السكانية بنقل التقنية الخاصة بإنتاج وسائل منع الحمل إلى الدول النامية؛ لتحقيق الاكتفاء الذاتي منها. في الوقت الذي لا يجدُ كثيرٌ من هذه الشعوبِ الناميةِ الماء النقي والطعامَ الكافي. فبدلاً من مساعدتهم في أن يكتفوا اقتصادياً بمواردهم الطبيعية والزراعية: يسعون إلى تقليل نسلهم, وإضعاف يقينهم بالله تعالى؛ ولهذا أفتى علماءُ الإسلام من المعاصرين بحرمة تحديد النسل مطلقاً إلا في حالات فردية خاصة, تدعو إليها الضرورة؛ وهذا حين أدركوا حبْكَةَ المؤامرة الماكرة التي يكيدها الأعداء للمسلمين, والتي يقدِّمونها من خلال مؤتمراتهم, وأبحاث صناديقهم الدولية: في صورة نصائح ثمينةٍ للشعوبِ المستضعفة.
إنَّ أزمةَ الدول النامية لا تكمنُ في كثرة النسل, وإنما تكمن في سوء التدبير, وتسلُّط الاستغلاليين والجشعين, من دهاقنةِ الاقتصاد, وقراصنةِ الأموال, ففي الوقت الذي تُحرمُ فيه الدولُ الناميةُ من أسباب النهضة, والاكتفاء الذاتي, من خلال التحكم في الموارد الاقتصادية, ووسائل التقنية الحديثة, فتظهر بالتالي المجاعاتُ, والأزماتُ الاقتصاديةُ الحادة, في هذا الوقت الحرج: تقذف بعضُ الدولِ المتقدمة فائض إنتاجها الغذائي في البحار خوفاً من انخفاض الأسعار, أو ربما قدَّمتْهُ لبعض الدول الفقيرة في صورة مساعدات غذائية مشروطة, تُملي من خلالها على الدول المحتاجة شروطاً تتنازلُ من خلالها عن بعض مبادئها ومعتقداتها, وتُغيِّر من بعض أنظمتها, وأساليب حياتها, وتفتح البلاد لصورٍ جديدة من الاستعمار الفكري, والتسلُّط الاقتصادي, فاعرفوا أيها الإخوة الحقيقة من وراء الدعاية لتحديد النسل.
وأما المقصد الثاني من مقاصد النكاح في نظام الاجتماع الإسلامي: فهو تصريفُ الشهوةِ الجنسية بالطريق المشروع, ضمن نظام الزواج, أو التسري، فإنَّ الأصلَ من مبدأ تركيب الشهوة هو التواصلُ الجنسي, الذي ينعقد به الولدُ في رحم المرأةِ, ولولا هذا الدافع الجنسيُّ الملح, الذي بثَّه الله تعالى بين الجنسين: كيف يمكنُ أن يحصلَ اللقاحُ بين رجل وامرأة؟ ومن هنا نُدرِكُ أيها الإخوة أن تفريغَ الشهوةِ ليس مقصوداً في ذاته, وإنما هو وسيلةٌ لاقتناص الولد, وحصول النسل. فالشخص الذي يستمتعُ جنسياً, دون رغبته في حصول النسل فإنه كالعامل الذي يأخذُ أُجرةً بغيرِ عمل. ولئن كان مبدأ تفريغ الشهوة مقصوداً للشارع الحكيم من جهة ضبط الشهوة فإنه يأتي تبعاً للمقصد الأول, ووسيلةً له؛ ولهذا جاء الإسلامُ بتحريم كلِّ صور التجنِّي على مبعثِ الشهوةِ الجنسيةِ, سواءً كان ذلك بقطعِ سببها بالدواء, أو بتر أعضائها بالاعتداء. سواء كان ذلك على النفسِ أو على غيرها, وقد ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة رغبتهم في التبتل والإخصاء, وأعلن أن من رَغِبَ عن سنته فليس منه. وكان عليه الصلاة والسلام يسلُكُ بالعزاب نهجينِ لعلاجِ مشكلةِ الشهوةِ, فالعاجزون عن النكاح كان يأمُرُهم بالصيام والعبادة, وأما القادرون منهم على مؤونة النكاح فكان يأمُرُهم بالزواج, وينهاهم عن العزوبة, ولا يَكِلُ أحداً إلى صلاحه, فكان عليه الصلاة والسلام يقول: « ما للشــيطان من سلاحٍ أبلغَ في الصالحين من النساء, إلا المتزوجون, أُولئك المطهَّرون المبرؤون من الخنا » . وصدق عليه الصلاة والسلام فقد دلَّ الواقعُ المعاصرُ أنَّ أكثرَ الانحرافاتِ السلوكية, وأغلبَ الوقائِعَ الإجراميةِ من نصيب الشــبابِ العُزَّاب. وفي هذا يقول التابعيُّ الجليل أبو مسلم الخولاني رحمه الله ناصحاً عشيرته: « يا معشر خولان زوِّجوا نساءَكم وإماءَكم, فإنَّ النعظَ – يعني الشهوة – أمر عارم – يعني شديد – فأعدوا له عدةً, واعلموا أنه ليس لمنعظٍ أُذن » ، يعني ليس لصاحب الشهوةِ المتوقدةِ إدراكٌ يفرِّقُ به بين الخير والشر, حين تُسيطِرُ عليه الشهوةُ, فتُفقدُهُ صوابه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: )وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِه ( . أقول هذا القول وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الذي شرعَ النكاحَ, وحرَّم السفاحَ, أحمده وأستعينه وأستغفره, وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له. أما بعد فإنَّ مقاصدَ النكاح من حصول السَّكن, وترويح النفس, وتدبير المنزل, والتعاون ونحوها من المقاصد فإنها جميعاً تأتي تبعاً للمقصد الأول وهو حصولُ الولد, واستمرارُ النسل. وأما ما ابتدعه بعضُ الناسِ من المغالاةِ في المهورِ, والتوسع في الولائم, والإسراف في العزائم, وما يصاحبُ ذلك من جلب المطربين والمطربات, وتمكينهم من آلاتِ اللهو والمعازف, وما قد يتخلَّلُ ذلك من الاختلاطِ بين الرجالِ والنساءِ, ودخولِ بعض الرجالِ على النساء, وما قد يحصلُ من البعضِ من تضييع صلاة الفجر ونحوها من الانحرافات، كلُّ ذلك يُعد في الشريعة منكراً من المنكرات, لا دَخْلَ لمقاصد النكاح فيها, فليست منها في شيء, وإنما هي أغْلالٌ وقيودٌ تَسَرْبلَ كثيرٌ من الناس بها, حتى شبَّ عليها الصغير, وشابَ عليها الكبير. حتى إنك لتجدُ الرجلَ صاحبَ الدخلِ المتواضع : يتوسعُ في ذلك وكأنه أميرٌ أو وزير, لا همَّ له إلا أن يُقلِّدَ ويُرائي, حتى إن بعضهم ليبلغُ أولادُهُ الحُلُمَ, وهو بعدُ لم يُسدِّدْ ديونَ عرسِهِ بأمِّهم. فبدلاً من أن يكونَ المهرُ والوليمةُ وتأسيسُ المنزل وسائلَ تعين على النكاح: فإذا بها عوائقُ تمنع منه. والنبي صلى الله عليه وسلم قد زَوَّجَ امرأة على نعلين, وَزَوَّجَ أخرى بالقرآن, وأجاز إحداهن بلا صداق, وكان يقول فيما رُوي عنه: «خيرهن أيسَرُهُن صداقاً », وكان يُجيز الوليمة بما تيسَّر من الطعام, ويُدخلُ العروسَ على ما تيسَّر من الأثاث, فقد دخلت عائشة رضي الله عنها عليه وليس في البيت إلا قدحٌ من لبنٍ ومتاعٌ لا يساوي خمسين درهماً, وأدخلَ ابنته فاطمة رضي الله عنها بجلدِ كبشٍ, ومتاعٍ قليل, ولم يكن لعلي رضي الله عنه بيتٌ يسكُنُهُ, حتى أعاره بعض الصحابة داره.
فاتقوا الله عباد الله, واعرفوا للدين حقَّهُ, وللنكاحِ مقاصدهُ, إيَّاكم والغلو, فإنما أهلك الناسَ الغلوُّ.