الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ تراجم وشخصيات @ 10ـ سير البحر عبد الله بن عباس
· لقد أثبت التاريخ الإنساني أن أعظم مدرسة خرَّجت الرجال هي مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم, فما منهم من أحدٍ إلا هو نجم من النجوم ، يُقتدى به في العلم والعمل.
· لقد خرَّجت مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم جمعاً هائلاً من عظماء الإنسانية, وسادات البشرية ,ممن لا مثيل لهم ، لقد خرَّجت العابد المخبت من أمثال عبد الله بن عمرو, وخرجت الحافظ المتقن من أمثال أبي هريرة, وخرجت السياسي المحنك من أمثال عمر, وخرجت القاضي العدل من أمثال عليِّ, وخرجت المجاهد البطل من أمثال البراء بن مالك رضي الله عنهم أجمعين ، إن هذه النماذج المتفوقة ما كانت لتخرج بغير هذا الدين العظيم.
· من هذه النماذج الإنسانية المتفوقة ، التي جمعت المجد من أطرافه، والكمال من جوانبه : شرف النسب ، وشرف العلم, وشرف العمل: عبد الله ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب, البحر رضي الله عنه.
· ولد في شعب بني هاشم زمن الحصار قبل الهجرة بثلاث سنوات, وكان من المستضعفين بمكة ، ممن عذرهم الله ، فلم يهاجر ، وإنما انتقل إلى المدينة بعد الفتح.
· فلما وصل المدينة بعد الفتح : قرَّر ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم للاقتداء به ، فقد فاته الكثير ، فلازمه ثلاثين شهراً حتى تُوفِّيَ عليه السلام.
· فكان كثيراً ما يبيت مع رسول الله صلى الله عليه عند خالته ميمونة رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويُعدُّ للرسول صلى الله عليه وسلم وَضوءه من الليل , وربما راقبه طوال الليل, وربما قام معه يصلي في الليل .
· وفي ليلة من الليالي أخذ يراقب الرسول صلى الله عليه وسلم حتى قام وتوضأ ، فقام وعمل مثله ، ثم صفَّ متأخِّراً عنه ، فقدَّمه فأبى, فقال له : »ما منعك أن تكون وازيت بي ؟ قال: يا رسول الله أنت أجلُّ في عيني, وأعزُّ من أن أوازي بك, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم آته الحكمة«.
· وبات مرة عند خالته ، ووضع للرسول صلى الله عليه وسلم وَضوءه من الليل , فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : » من وضع هذا؟ قالوا: عبد الله, فقال : اللهم علمه التأويل ، وفقِّهه في الدين«.
· وكثيراً ما كان يضمُّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صدره ويقول: »اللهم علمه الحكمة «, ويقول: » اللهم بارك فيه ، وانشر منه «.
· أيها المسلمون : لقد واجه ابن عباس رضي الله عنهما أزمة علمية حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم , فهو لم يرافقه سوى ثلاثين شهراً, وقد فاته كثير من العلم.
· فعرض على أحد زملائه من الأنصار أن يجمعا العلم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم, فأبى الآخر, وانطلق ابن عباس يطلب العلم على يد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
· وكان من أسلوبه أنه يأتي الصحابي بكل أدب , فإن كان نائماً جلس على بابـــــــه, حتى يخرج إليه, يقول رضي الله عنه معلِّلاً فعله هذا : » لأستطيب بذلك قلبه «.
· فمازال على هذه الحال زمناً حتى جمع علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وأخذ الناس يجتمعون حوله ويسألونه ، فلما رأه صاحبه الذي فرَّط في العلم قال: » هذا الفتى أعقل مني «.
· وكان رضي الله عنه من شدة حرصه على العلم والفـــهم يقول: » إن كنت لأسأل في الأمر الواحد: ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم«، يعني أنه كان يستوعب العلم كلَّه قدر استطاعته.
· ومن هنا تفوق في جوانب من العلم على كبار الصحابة , وذلك حين استوعَب ما عندهم ؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدنيه, ويدخلهُ مع كبار الصحابة في مجلسه الخاص.
· ولما استنكر بعضهم على عمر في كونه يُدني ابن عباس دون غيره من أبناء الصحابة : بيَّنَ لهم فضله وعلمه, وكثيراً ما كان يشجِّعه ويدفعه للكلام والبيان.
· ولما رأى العباس رضي الله عنه مكانة ولده عند عمر رضي الله عنه نصحه وقال: » يا بني إن عمر يدنيك ، فاحفظ عني ثلاثاً: لا تُفشينَّ له سراً, ولا تغتابنَّ عنده أحداً, ولا يجرِّبنَّ عليك كذباً«، قال أحد التابعين لابن عباس : » هذه الواحدة بألف, فقال : بل بعشرة آلاف«.
· وقد كان مع كلِّ هذا الفضل والعلم والمكانة في غاية الخشية لله تعالى، حتى قال ابن أبي مليكة عنه: »صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان يصلي ركعتين, فإذا نزل قام شطر الليل, ويُرتلُ القرآن حرفاًحرفاً, ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب «.
· ويقول عنه أبو رجاء: » رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء «.
· وقال طاووس بن كيسان: » ما رأيت أحداً أشدَّ تعظيماً لحرمات الله من ابن عباس «, ولهذا قيل إنه سكن الطائف خوفاً من الخطأ في مكة.
· وقال القاسم بن محمد: » ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلاً قط «.
· ويكفي قول عمر فيه: » ذلك فتى الكهول, له لسان سؤول وقلب عقول «.
· وكان مع كلِّ هذا : حسن المظهر ، كريماً لا يعرف البخل إليه طريقاً , كثير الطعام والفواكه في بيته, وكان متوسعاً في أمر الدنيا, ومع هذا لم تشغله عن الآخرة.
· لما توفي قيل إن طائراً جاء حتى دخل في نعشه واختفى , فبحثوا عنه في أكفانــه فلم يجــدوه ، فإذا بقول الله تعالى يُسمع على شفير القبر : ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (.
^ ^ ^
· أيها المســلمون : إن من أعظم الفوائد المسـتفادة من ســيرة هذا الحَبْر ما يلي:
· الأدب مع أهل العلم وتوقيرهم ، ومعرفة مكانتهم ومقامهم.
· خدمة أهل العلم ، والقيام على أمورهم ، لتفريغهم لما هو أهم وأجل.
· عدم الالتفات للمثبطة عن العلم ، فالعلم يحصل بالتعلم والمثابرة.
· التواضــع للعلماء للأخذ عنهم ، فإن العالم لا يُعطي علمه للمتكبرين ، وإنما يبذله للراغبين المتواضعين.
· التوسع في المعرفة ، فقد كان ابن عباس رضي الله عنهما لا يكتفي بسؤال واحد من الصحابة في المسألة الواحدة ، بل يسأل الجميع ليستوعب العلم.
· أيها الإخوة : ماذا أخذ طلاب العلم في هذا الزمان من سيرة هذا الصحابي ؟
· نحن في حاجة لمراجعة سير عظمائنا ، ليكونوا قدوة صالحة للناشئة، بدلاً من إبراز الساقطين والهالكين, ممن لا ترفع الأمة بهم رأساً.