الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ تراجم وشخصيات @ 1ـ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وموقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله حمدَ الشاكرينَ، والصلاةُ والسلامُ على خير المرسلين، وإمام المتقينَ، المصطفى من بينِ العالمينَ، نبيِّ الهُدى والنور، والبركةِ والحُبُور، والسلامةِ والسُّرور.
بعثَهُ الله تعالى على فترةٍ من الرسل، قد أظلمت فيها الدنيا بجاهليَّتِهَا، وضاق أهلُها بمظالمِهَا، وعمَّت فيها المفاسدُ بأنواعِها، حتى لم يعد للحق فيها مكانٌ، ولم يبقَ للعدل فيها ســلطانٌ. الإيمانُ عندَهُــم ما قَالهُ الكُهَّانُ، والعبادةُ فيهم تعظيمُ الأوثــانِ. لم يبقَ لهم من ملَّة إبراهيم إلا اسمها، ولم يبقَ من مناسِكِ إسماعيلَ إلا رسْمُها. قد عمَّ الشركُ أرضَ العربِ والعجمِ، وانتشرَ الظلـمُ فلحقَ القريبَ والبعيــد، فالحقُ عندهم ما أقرَّهُ الأقوياءُ، والباطلُ عندهم ما جَحَدَهُ الأثرياءُ، فحقوقُ الضعفاءِ مسلوبةٌ، وأموال المساكين منهوبةٌ. البنتُ أول المحرومينَ، والمرأةُ آخرُ الُمنْصَفينَ، والعبدُ المملوكُ مع المنبوذينَ.
في خضم هذا الظلامِ الدَّامِسِ، وفي معتركِ هذا الليلِ العابِسِ: أشرقَ فَجْرُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بأنوار الوحي، يُعلن للدنيا أفول الليل، وظهورَ النهار، لا ظُلْمَ ولا اضْطهاد، ولا شركَ ولا فساد, العدلُ دليلُهُ، والهُدى سبيلُهُ، جاءَ إلى الدنيا يُعلنُ الحقَّ, ويُزهِقُ الباطلَ. أقامَ الدينَ بأمرِ ربِّهِ على قاعدة التوحيد، وأسَّسَ السلوكَ على قاعدةِ الأخلاق، وحفظَ النفسَ بقاعدةِ العصْمَةِ، وضبط الاقتصاد بقاعدةِ الاعتدال، وأحكم العقل بقاعدةِ الفكر. فلا زيغَ ولا شَطَطَ، لا فوضى ولا عَبَثَ. عاملَ الناسَ بُحسنِ أخلاقِهِ، فالتواضعُ منه نَـبَعَ، والحياءُ إليه رَجَعَ، الشَّفقةُ من طبعه، والحِلْمُ من نهجِهِ. أعظمُ الناسِ كَرَمَاً، وأكثَرُهُم جُوداً. يبخلُ على نفسه بأقلِّ القليل، ويجودُ بالغالي للمسكينِ والفقير. إذا كانت الضراءُ كانَ أوَّلَ الناسِ، وإذا كانت السَّرَّاءُ كانَ أخرَ الناسِ، ليس للدنيا في نفسِهِ مكانٌ، وليس للهوى في قلبِهِ سلطانٌ، لقد طلَّقَ الدنيا بلا رجعةٍ، وأقبَلَ على الآخرةِ بلا أوبةٍ. حتى إذا اكتملَ البناءُ، وَرَسَتْ قواعدُهُ، وشُدَّت جنباتُهُ : أذنَ المولى عز وجل برحيل خيرِ الخلقِ، وحبيبِ الحق: فكان الزلزالُ الأعظمُ، والفتنةُ الكبرى، طاشت للخبرِ العقولُ، وتزلزلت للواقعةِ النفوسُ، وكأنَّها الصواعِقُ تخرِمُ الآذانَ، والسِّياطُ تُلهِبُ الأبدانَ. أيموتُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم كما يموتُ الناسُ، ويُوارى في الترابِ كما يوارى الأنامُ، أيكون هذا مصيرَ خير الخلق، أتكونُ هذه نهايةَ من ازدهرت به الحياةُ، وعُمِرت به الدنيا، وأحيا الله به الموات، كيف تطيبُ النفوس بدفنه، ومن هذا الذي يتجرَّأُ فيحثو عليه التراب، إنها أسئلةُ المحبينَ، الذينَ تقطَّعت قلوبُهم لموته، وتفطَّرتْ أكبادُهُم لفقدِهِ، حتى طاشَتْ منهُمُ العقولُ، وطارت منهم النفوسُ. وحُقَّ لهم, فمن هذا الذي يطيقُ وقعَ خبر موتِهِ، ومن هذا الذي يستطيعُ أن يرى جُثْمَانَهُ بلا روح، وقد كان قبلَ قليلٍ ملءَ السمعِ والبصر. من هذا الذي تَطيبُ النفوسُ بصحبتِهِ فلا تملُّ من رؤيـتِهِ، ومن هذا الذي يتحمَّلُ البدويَّ بغلظتِهِ، والمنافقَ بخبثِ طويَّتهِ، والفاسقَ بجُرْأتِهِ، والجاهلَ بسَفَهِهِ. ومن هذا الذي يُسْلِمُ زِمَامَهُ للأمَةِ تسُوقُهُ بيدِهَا في الطريق, ومن هذا الذي يمتطى الطفلُ ظهرهُ، ويبولُ على ثوبه. من للمظلومِ بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنصِفُهُ، ومن للجائِعِ يُطْعِمُهُ، ومن للمسكينِ يرحَمُهُ، ومن لليتيمِ يُكْرِمُهُ. كيفَ ستواجِهُ الأمَّةُ الحياةَ بعده، وقد انقطعَ الوحيُ بموته. ومن هذا المؤهَّلُ ليقومَ في مقامِهِ، فيصلي في محرابه، ويخطبُ على منبره، ومن هذا الذي يمكِنُ أن تنقادَ له الأمَّةُ مُطيعةً بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: ولئن كان رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد مضى بشخْصِهِ، فقد خلَّفَ وراءَهُ كتابَ الله والسنَّـةَ، وخلَّفَ معهما أهلَ بيته النُّجَبَاءَ، وصحابَتَهُ الفضلاءَ. خلَّفَ جِيلاً من الناس لا يَعْرفُ الدَّهرُ لهم مثيلاً، ولم يَخْبُرِ الزمانُ لهم شبيهاً، إنهم أُعْجُوبَةُ الدنيا، ونادِرَةُ الحياة. الواحدُ منهم كالنجمِ في عليائِهِ، وكالكَوكَبِ في سمائِهِ. قد حازوا العلمَ والعملَ، و السيادةَ والشرفَ، لم يسبقهُم أحدٌ من الخلقِ إلا بدرجةِ النبوَّةِ, فقد فاتوا الأولينَ والآخِرينَ، وسبقوا غَيرَهُم من الأولياءِ والصالحين. إنهم مصابيحُ الهدى، يكشِفُ اللهُ بهم كُلَّ فتْنَةٍ مُظْلمةٍ، ويُعْلي بهم كلَّ رايةٍ مُؤمنة. أذلَّ اللهُ بهم الشركَ وأهلَهُ، وأعزَّ اللهُ بهم الإيمانَ وحزبَهُ، حتى كانت كلمةُ الله هي العليا، وكَلِمَةُ الذينَ كفروا السفلى. كانوا رضيَ اللهُ عنهم أبرَّ الناسِ قلوباً، وأعمقَ الناسِ علماً، وأقلَّ الناسِ تكلُّفاً، وأكثرَ الناسِ عملاً. قد اختارَهُم الله تعالى لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم حين علمَ أنَّ قلوبَهُم خيرُ القلوب، فجعلهم موضعَ كرامتِهِ، ومكانَ فضلِهِ، وألزمَ من بعدَهُم محبَّتَهُم، وجَعَلَها مقياسَ الإيمان، فمن أحبَّهُم فهو مؤمنٌ، ومن أبغَضَهُم فهو منافق.
شَهِدوا الوحيَ والتنزيلَ، وعَرَفُوا التفسيرَ والتأويلَ، فلم يسبقْهُم أحدٌ بعلمٍ، ولم يَفُتْهُم أحدٌ بعمل. انطلقوا بعد وفاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يجُوبُون الأرضَ، مبشرينَ ومنذرينَ، واعظينَ ومذكِّرينَ، هادينَ مهتدينَ. لم تُعِقْهُمُ الجبال ولا القِفَارُ, ولا البحارُ ولا الأنهارُ عن تبليغِ رسالةِ الإسلامِ، والحرصِ على هدايةِ الناس.
أيها الإخوة الكرام: إنَّ ما أصابَ الصحابةَ من الصَّدمة بسببِ وفاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا ساعةً من نهار, لم تحتمِلْ النفوسُ وقعَ الفاجِعَةِ عليها, وعظيمَ المصيبةِ فيها, حتى ظهرَ من بينِ جموعِ المكْلُومِينَ, ومن بين فئاتِ الُمصابينَ: إمامُ عصرِهِ, وسيِّدُ زمانِهِ, شمسُ النهار, وقمرُ الليلِ, صاحبُ الغار, ورفيقُ الهجرة: أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه وأرضاه, لم يكن أَقَلَّ منهم مُصاباً, ولا أقلَّ منهم حُزناً, إلا أنَّ اللهَ اختارَهُ ليكونَ رَجُلَ الساعةِ, وشخصيةَ الوقت, وصاحبَ الموقفِ، أنزلَ اللهُ السكينة في قلبِهِ, واليقينَ في صدرهِ, والثباتَ في أركانِهِ, والحجَّةَ على لسانه. فَوَقَفَ للجموعِ المنكُوبةِ, وقلبُهُ قد مُلئَ حُزناً, وكبدُهُ تتفطَّرُ ألماً. وَقَفَ لهم وحُزنُهُ أعظمُ من حُزْنِهِم, ومصيبتُهُ أكبَرُ من مصيبتِهِم, ومع ذلك فقد كانَ أعظَمَهُم يقيناً, وأثبَتَهُم جَنَاناً, في موقفٍ تتزلزلُ له الأبطالُ, وتَخِرُّ لَهُ قوى الرجالِ. وقف رضي الله عنه بين الجموعِ الحائرةِ يقول: »منْ كانَ منكم يعبدُ محمداً فقد مات, ومنْ كان يعبدُ الله، فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يموت«, ثم تلا قولَ الله تعالى: ) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (, ثم قال في مناسبة أخرى، يثبِّتُ المؤمنينَ : »إنَّ اللهَ عمَّرَ محمداً صلى الله عليه وسلم وأبقاهُ حتى أقامَ دينَ الله، وأظهرَ أمرَ الله, وبلَّغَ رسالةَ الله, وجاهدَ في سبيلِ الله, ثم توفاهُ اللهُ على ذلك... فاتقوا الله أيها الناسُ، واعتصموا بدينِكُم، وتوكَّلُوا على ربِّكُم, فإنَّ دينَ الله قائمٌ, وإنَّ كلمَتَهُ تامَّةٌ, وإنَّ اللهَ ناصرٌ من نَصَرَهٌ, ومُعِزٌ دينَهُ, وإنَّ كتابَ الله بينَ أظْهُرِنا, وهو النورُ والشفاءُ, وبه هدى الله محمداً صلى الله عليـــه وسلم, وفيه حلالُ الله وحرامُــهُ, والله لا نبالي من أجلَبَ علينا من خلقِ الله, إنَّ سيوفَ الله لمسلولَةٌ, ما وضَعناها بعدُ, ولنجاهِدَنَّ منْ خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلا يبغينَّ أحدٌ إلا على نفسه «.
أيها الإخوة: إنها كلماتٌ عظيمةٌ, وعباراتٌ صادقةٌ جليلةٌ: ثبَّتَ اللهُ بها قلوبَ المؤمنين, وقمعَ بها آمالَ المنافقين, وأظهرَ اللهُ بها فضلَ أبي بكرٍ على سائرِ الصحابة, فما كان منهم إلا أن بايعُوهُ على الخلافة. ولئن كانَ موقِفُهُ يومَ وفاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عجيباً؛ فإنَّ موقِفَهُ يومَ الردَّةِ أعجبُ وأغرَبُ. وذلك حين ارتدت كثيرٌ من قبائلِ العربِ، واختلطت في أذهانِ بعضِهِم أصولُ الدينِ وأحكامُهُ. فإذا بالصحابةِ يتردَّدُونَ في أمرِهِم, ويلينُونَ في شأنِهِم, رغبةً منهم في تأليفِ القلوبِ, وجمعِ الكلمةِ. فإذا بهذا الرجلِ النحيلِ في بدنِهِ, الضعيفِ في صوتِهِ, الرقيقِ في طبعِهِ, ينبري لهذا الموقفِ وحدَهُ, وكأنَّه الأسدُ يدافعُ عن عرينِهِ, فصَاحَ في الناس: »والله لأقاتلنَّ من فرَّقَ بين الصلاةِ والزكاة«, »والله لو مَنَعُوني عِقالاً كانوا يُؤدونَهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهُم عليه«, حتى رُوي أنَّه قال: »والله لو خالفتني شمالي لقطَعْتُها«, فكان رضيَ الله عنه يرى الحقَّ في هذه المسألة كما يرى الشمسَ في النهار. فكان رأيُهُ هو الرأي, وقولُهُ هو الحق. فوحَّدَ اللهُ الجزيرةَ من جديد, وعادَ الناسُ إلى صوابِهِم, وزَهَقَ الباطلُ بفضلِ الله تعالى, وانطلقَ الناسُ أمَّة واحدةً, كأقوى ما يكون, بعد أن كان هلاكُها وشِيكاً, وذهابُ الإسلامِ قريباً. فأيُّ مِنَّةٍ خلَّفها أبو بكر رضي الله عنه في رقاب المسلمينَ من بعده, وأيُّ فضلٍ نالَ الأمَّةَ بخلافتِهِ, وأيُّ نعمةٍ أنعمَ اللهُ تعالى بها على الأمَّةِ بهذا الرجل. فاعْرفوا أيها الإخوة لهؤلاءِ الفضلاءِ مكانَتَهُم, واحفظوا لهم حُرْمَتَهُم, فإنَّ أحَدَكُم لو عُمِّر عُمُرَ نوحٍ عليه السلام في طاعةِ الله وعبادتِهِ, ما بلغَ ساعةً منْ عُمُرِ أحَدِهِم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله تعالى لي ولكم, فاستغفروه إنَّهُ هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وكفى, والصلاةُ والسلام على نبيه المجتبى, سيِّدِ الخلقِ, وحبيبِ الحقِ. بلَّغ الرسالة, وأدَّى الأمانةَ, ونصحَ الأمةَ, وتَرَكَهَا على المَحجَّةِ البيضاء النقية, لا غبشَ ولا عمــى. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فيقول الله تعالى عن أصحاب النبـــــي صلى الله عليـــه وسلم: ) وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَـهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (، ويقولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: »لا تسبُّوا أصحابي فلو أنَّ أحَدَكُم أنفقَ مثلَ أُحدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أَحَدِهِم ولا نَصِيفَه«، وقال عليه الصلاة والسلام عن أبي بكرٍ خاصة: »إنَّ أمنَّ النَّاسِ عليَّ في صحبتهِ ومالِهِ أبو بكر« ، ولما غَاضَبَهُ بعضُ الصحابةِ قامَ الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: »إنَّ اللهَ بعثني إليكم فقلتم كذبتَ وقالَ أبو بكرٍ صدقَ, وواساني بنفسِهِ ومالِهِ, فهل أنتم تاركو لي صاحبي «، وقال عليه الصلاة والسلام مرةً لأصحابه: »من أصْبَحَ مِنكُمُ اليومَ صَائماً؟ قال أبو بكر : أنا, قال: فمن تَبِعَ منكمُ اليومَ جنازة ؟ قال أبو بكـر : أنا, قال: فمن عادَ منكُــمُ اليومَ مريضاً؟ قــال أبو بكر: أنا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعنَ في امرئٍ إلا دخلَ الجنَّة«.
أيها الإخوة : هذا جهدُ هؤلاءِ الكرام, وهذه إنجازاتُهُم, وهذه تَرِكَةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد وصلتكُمْ عن طريقِهِم, ومن خِلال جُهودِهِم وجِهَادِهِم, وصلتكم نقيةً كما هي, صافيةً خالصةً: فما أنتم فاعلون بها؟.