الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ السيرة النبوية @ 2ـ الشخصية المحمدية الكاملة
· لقد مرَّ على الحياة الإنسانية خلق كثير, وقد كان لبعضهم أثرٌ في التاريخ الإنساني.
· إلا أنه لم تمر على الحياة الإنسانية شخصية كشخصية محمد صلى الله عليه وسلم , ولا يمكن أن تأتي في المستقبل شخصية كشخصيته.
· لقد صنعه ربُّهُ عز وجل, فجمَّله, وكمَّله, وأدَّبه, حتى كان ومازال بلا مثيل, كأنما خُلق كما يشاء.
· لقد خرج محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحياة يتيم الأب, حتى إذا بلغ السادسة فقد أمَّه, فكان عند جده, ثم كان عند عمه في آخر الأمر.
· لقد نشأ حياة الجد, لا كما ينشأ الصبيان, رعى الغنم, ثم عمل في التجارة والكسب, فنشأ مكافحاً في الحياة.
· تزوج بخديجة بنت خويلد رضي الله عنها لما أراد الله كرامتها, وهي المرأة في الأربعين, وهو الشاب في الخامسة والعشرين, فكانت حياتهما أجمل قصة حبٍ عرفها التاريخ، ملئت بالوفاء، والذكرى الحسنة.
· ولما بلغ الأربعين أو نحوها حُبِّبَ إليه الخلاء, فكان يتحنَّث في غار حراء يتفكَّر وينظر, وكانت الرؤيا الصالحة لا تفارقه, بل إن الحجر ليسلِّم عليه, يتهيأ بذلك لمقام النبوة العظيم.
· حتى إذا كان اليوم السعيد فإذا بالملك يقرأ عليه القرآن, ويبشِّره بالنبوة والاصطفاء من الله تعالى, وبذلك يدخل محمد صلى الله عليه وسلم تاريخ الشخصيات والمشاهير, لا ليكون شخصاً منهم, ولكن ليكون الأعظم والأكبر والأجل , بل ليكون الشخصية المحورية في الحياة الإنسانية.
· إنها الشخصية الكاملة والتامة ، التي قدَّر الله أن يصل إليها شخصٌ واحدٌ من الناس , إنها الشخصية التي طالما بشَّر بها الأنبياء عليهم السلام ، وألزموا أقوامهم الإيمان بها, إنها الشخصية التي خُتمت بها النبوة, وانقطع بها الوحي, وقربت بها الساعة, ودنت بها الدنيا من النهاية.
· لقد فتح الله به أعيناً عمياً, وأسمع به آذاناً صماً, وهدى به قلوباً غُلفاً, أيده بالمعجزات والآيات الباهرات, فشقَّ له القمر, وكثَّر بدعائه الطعام, ونبع من بين أصابعه الماء, وأخبره بالمغيَّبات, وأمدَّه بالقرآن العظيم معجزة المعجزات.
· أيها المسلمون : إن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي الحقيقة الكبرى للإنسانية المستخلفة في الأرض, تستمد الأجيال في كلِّ عصر من هديه نوراً يُضـيء لها آفــاق الحياة, ومازالت سيـرته معيناً عَطِراً لا ينضب, ونهراً جارياً لا ينقطع, فمازال العلماء في كلِّ عصر ينهلون من معين أخباره, ويغترفون من كريم سيرته, ولقد أسرت شخصيته كثيراً من غير المسلمين, واعترف له جمع كبير من المستشرقين بأنه أعظم شخصية في التاريخ الإنساني, ويكفي محمداً صلى الله عليه وسلم أن يشهد له أعداؤه بالفضل والمكانة والشرف.
· لقد جمع محمد صلى الله عليه وسلم في شخصيته الفضائل التي تناثرت في غيره, فحاز الفضل والمجد والرفعة من كلِّ جانب, فهو بحق الإنسان الأول.
· فأين ما نظرت في شخصه الكريم ، وجدت الكمال البشري المطلق, فقد حاز في خِلْقته أسمى وأجمل صورة, فقد عَجَزَ عن وصفه الواصفون, حتى قال قائلهم: » إذا رأيته رأيت الشمس طالعة «.
· وأما خُلُقه وشمائلُه فقد بلغ النهاية في كلِّ ذلك, وحاز الكمال من كلِّ جانب, وكأن الخلُق ثوبٌ فُصِّل له, لا يصلح لغيره.
· وأما جانبُ حكمتِهِ وكمال بصيرته وقوة حنكته في شؤون الدنيا والدين والسياســـة , فهو السيِّــدُ الذي لا يُبـارى والإمــام الذي لا يُجارى, أسر القلوب بحكمته, وأخضع الناس لدعوته, حتى عجب منه أعداؤه, لعظيم حنكته.
· أيها المسلمون : لقد خصَّ الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بالشفاعة الكبرى, والحوض الأعظم المورود, والمقام المحمود, وليس أحد يدخل الجنة قبله, فالكلُّ خلف لوائه, لا يتقدم عليه أحد.
· أيها المسلمون: هذه الشخصية النبوية العظيمة هلك فيها صنفان من الناس, أحدهما كافر معاند، أعمى الله بصيرته عن رؤيا أنوار محمد صلى الله عليه وسلم , والآخر غالٍ, قد أسرته هذه الشخصية العظيمة حتى لم يعد يميِّز بين ما يجب لله تعالى من الاعتقاد والعبادة, وما يليق برسول الله صلى الله عليه وسلم من التعظيم والإجلال والتوقير.
· لقد خلطوا في الحقوق بين الخالق والمخلوق, والحقيقة الكبرى التي لابد أن تستقر في نفوس أهل التوحيد المحبين بصدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أن الألوهية واحدة لا تتعدد, هي ألوهية الله تعالى, وأما العبودية فهي كلُّ ما سوى ذلك من المخلوقات بما فيهم محمد صلى الله عليه وسلم, فأيُّ إجلال وتكريم يحتاجه الرسول صلى الله عليه وسلم من الناس بعد أن قال الله تعالى له: ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا(, فماذا يريد الرسول صلى الله عليه وسلم من غلوِّ الغالين بعد أن رفعه الله تعالى إلى هذه المرتبة العظيمة.
^ ^ ^
· أيها المسلمون : ولئن كان الغلو في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ ، فإن الجفاء خطأ أيضاً, فما بال أناس لا يرقُّون عند سماع اسمه وأخباره وسيرته, لا يشعرون بالشوق لرؤياه, والحبِّ لشخصه الكريم, ويقفون بالحبِّ عند حدِّ الاتباع فقط, والصحيح أن محبته عليه السلام تفوق حدَّ الإتباع إلى الشوق لرؤياه, والتلذذ بسيرته, والأنس بالتفكر في شخصه ، إلى مقامات عالية من المحبة في غير غلو وإفراط.
· وقسم آخر من الناس ليس لهم من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا المحبة فقط والاحتفالات ، أما الاتباع فلا يتبعونه إلا فيما وافق أهواءهم, فأخلاقهم مرذولة, وأموالهم مخلوطة, ونساؤهم متبرجات, لا يعرفون من دين محمد صلى الله عليه وسلم إلا صوراً بلا حقائق , وتماثيل بلا روح ، فهذا ليس من المحبَّة في شيء.