الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية العقلية @ 7- العلم الديني أساس النهضة الحضارية


معلومات
تاريخ الإضافة: 28/6/1427
عدد القراء: 1423
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله  الرحيمِ الرحمن، الكريمِ المنان، خلقَ الإنسانَ علَّمَهُ البيان.  أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريكَ له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسلهُ ربُّهُ بالهدى والنور، فعلَّمَ الناسَ خيرَ العلوم، وبصَّرَ الناسَ خيرَ الدروب. فكان بحقٍ خيرَ معلِّمٍ، وخيرَ مربٍ، فصلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعدفاتقوا الله عباد الله، وتفقَّهوا في دينِكُم، حتى تعرفوا الطريقَ إلى ربِّكُم ، فإنَّ من يُريدُ اللهُ تعالى به خيراً يُفقهه في الدين، فيعرفُ الحقَ من الباطلِ، والحلالَ من الحرامِ، والصحيحَ من الخطأِ. واحرصوا على العلم، فإنَّ العلمَ نورٌ وهدى، والجهلُ ظلمةٌ وشقاء .فالعلم حياةُ القلوبِ، ونورُ الأبصارِ، وشفاءُ الصدورِ، ولذَّةُ الأرواحِ، به يستأنسُ المُستوحِشُ، ويسترشِدُ المتحيِّرُ، ويرتاحُ العليلُ. فهو ميزانُ العقلاءِ لصحَّةِ الأقوالِ والأعمالِ، وهو المفرِّقُ بين الشكِ واليقينِ، والحقِ والباطلِ . به تُعرف الشرائعُ، وتتميَّـزُ الأحكامُ، وبه يعرف العبد ربَّهُ، وطريقَ مرضاته، فيعبد ربَّهُ على علم.

أيها الإخوة الكرام: ليسَ هناك دينٌ من الأديانِ، أو شرْعَةٌ من الشرائعِ حثَّت على العلم، ورفعت منازلَ العلماء كدين الإسلام، وفي هذا يقول الله تعالى: ) قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (، ويقول أيضاً: ) يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُــــمْ وَالَّذِينَ أُوتُــوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم موضِّحاً مرتبةَ العلمِ وفضلَهُ: » من سلكَ طريقاً يطلبُ فيه علماً سَلَكَ اللهُ له طريقاً إلى الجنة، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحَتَهَا رضاءً لطالب العلم، وإنَّ العالمَ ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرضِ، حتى الحيتان ُ في الماءِ، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنَّ العلماءَ ورثـَةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يورِّثُوا  ديناراً ولا درهماً, وإنَّما ورَّثُوا العلمَ،فمن أخذه أخذَ بحظٍ وافرٍ« ، ويقول أيضاً: »الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها: إلا ذكرُ الله وما والاه, أو عالماً أو متعلماً «، ويقول: » طلبُ العلمِ فريضةٌ على كل مسلم « ,  ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: »إن فضْلَ العلمِ خيرٌ من فضلِ العبادة«، وقال عليه السلام مرَّةً لأبي ذر: » يا أبا ذر لأنْ تغدُوَ فَتَعَلَّمَ آيةً من كتاب الله خيرٌ من أن تصليَ مائةَ ركعةٍ، ولأنْ تغدُوَ فَتَعَلَّمَ باباً من العلم عُملَ به أو لم يُعمل : خيرٌ من أن تُصليَ ألفَ ركعةٍ « ، وقال أيضاً: » من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخيرٍ يتعلَّمُهُ أو يُعلِّمُهُ: فهو بمنزلة المجاهدِ في سبيلِ الله « ، وكان عليه السلام يقول عن فضل العلم بعد الممات: »إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عنه عملُهُ إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له« .

ولقد أدركَ  السلفُ الصالحُ رضوان الله عليهم هذه الفضيلةَ للعلم، فلم يكونوا يقدِّمونَ على العلم شــيئاً إلا فريضةً لابدَّ منها، قال ابن وهبٍ رحمه الله: » كنتُ عند مالكِ بن أنــس، فوضعتُ ألْواحــي وقمتُ أُصلِّي يعني نافلة – فقال مالكٌ: ما الذي قمتَ إليه بأفضلَ مما قُمت عنه«، وفي هذا يقولُ الإمام الشافعي رحمه الله: »طلبُ العلم أفضلُ من صلاةِ النافلة« .

أيها الإخوة: لقد انطلقت أمَّةُ الإسلام في عصرِهَا الأولِ نحوَ العلم بكلِّ قوة وإخلاص، ينهلونَ من العلومِِ والمعارفِ، فالناس: إمَّا عالمٌ يُعلِّمُ الناسَ ويُرْشِدُهم، وإما مُتعلِّمٌ قد جلسَ لطلبِ العلم، وإمَّا مُحِبٌ مقلِّدٌ، قد شغلَهُ الكسبُ عن العلم، وليس في غير هؤلاءِ خير.

حتى إنَّكَ لتعجبُ: كيفَ تُركَ العلمُ في ذلك الزمن مُشاعاً بين الناس يأخُذُه كلُّ من طلبه، فلا يُمنعُ عن أحد من الناس: صغيراً  أو كبيراً، امرأة ً أو رجلاً، شريفاً أو وضيعاً، حرَّاً أو عبداً. الكلُّ في طلبِ العلمِ سواء. حتى نبغَ في الأمَّةِ الإسلاميةِ أناسٌ لم يعرفِ التاريخُ لهم قبل ذلك ذكْراً، فأينَ كانت مكانَةُ عبد اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه قبل العلم، وأين هي مكانَةُ أبي هريرة قبل حفظِ الحديث، وأين هي مكانَةُ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قبل الفقه. ثم أين كانت عالمةُ الدنيا عائشةُ رضي الله عنها قبل جمعها العلم.

ولئن كان نبوغُ مثلِ هؤلاء عجيباً، فإنَّ أعجبَ العجبِ أن ينبُغَ في الأمَّةِ المواليَ والعبيدُ، فتُتَاحُ لهم فرصةُ العلم والتعلُّم حتى خرجَ إلى الدنيا من أمثال الحسنِ البصري، ومسْروق ، ومجاهدٍ، وعطاءِ بنِ أبي رباح، وأناسٌ لا يُعرفُ لهم ذكرٌ أو نســبٌ غيرَ العلم.  ومما يُروى في هذا أنَّ  عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه لقيَ نافعَ بنَ عبد الحارث الخزاعي بعُسْفان وقد استعمله عمرُ على مكَّةَ، فقال له: »من استعملتَ على أهل الوادي ؟ فقال نافعٌ: استعملتُ عليهم ابنَ أبْزي, قال: ومن ابنُ أبْزي؟ قال: مولىً من موالينا , قال : فاستخلفت عليهم مولىً ؟ قال: يا أمير المؤمنينَ إنَّه قارئٌ لكتابِ الله عزَّ وجلَّ، وإنَّهُ عالمٌ بالفرائض، فقال عمرُ: أما أنَّ نبيَّـــكُم صلى الله عليه وسلم قد قال: إنَّ اللهَ يرفعُ بهذا الكتاب أقواماً ويضعُ به آخرين« .

أيها الإخوة المسلمون: لقد نتجَ عن هذا الانفتاحِ العلمي نهضةٌ حضاريةٌ كبيرة ، شَمِلت كلَّ مرافقِ الحياة الدينية والدنيوية، فقد أدرك السلف أن الدنيا مزرعةُ الآخرة، وأن الدينَ لا يقومُ إلا بعمارةِ الأرضِ، فربطَ السلف بين الدين والدنيا، فانطلقوا يعمرونَ الأرضَ على منهج الله تعالى، يحرثونَ ويحصدونَ، ويبنونَ ويشيِّدونَ . انطلقوا يبحثونَ عن سُننِ الله تعالى في الكون، متلمِّسينَ خيوطَ علومِ المواد، وخواصِ الأشياء، حتى وقفوا على معارف جليلةٍ في جميع العلوم الطبيعية، كالفيزياءِ، والكيمياءِ، والفلكِ، والطبِّ ونحوها. فأسَّسوا النواةَ الأولى للعلمِ التجريبي، الذي قامت عليه نهضة العالمِ المُتحضِّر اليومَ.

أيها الإخوة : لم يكن للمسلمينَ الأوائل أن ينهضوا نهضَتَهُمُ الأولى لولا هذا الدين ، فقد كانَ الدينُ مُرشدَهم الأولَ لكلِّ هذه المعارفِ الكونيةِ، فقد كان الرباطُ وثيقاً بين العلومِ الشرعيةِ والعلومِ الطبيعيةِ، حتى إنَّكَ لا تكادُ تجدُ عالماً من علماءِ الهندسةِ، أو الطبِّ، أو الفلكِ، أو الكيمياءِ إلا وقد نبغَ قبلَ ذلك في علم من العلومِ الشرعيةِ، حتى إنَّكَ لتستغربُ: كيف يكونُ طبيباً ومفسِّراً، أو كيميائياً وفقيهاً.

إنَّ المسلمينَ الأوائلَ جمعوا بين هذه العلوم منطلقينَ من اعتقادِهم بوجوبِ فرضِ الكفايةِ ووجوب فرضِ العين، إذ لابد لكلِّ علمٍ من علومِِِ الدين أو الدنيا أن يتخصَّصَ فيها عددٌ من المسلمينَ يكفونَ غيرَهُم، في الوقت الذي يجبُ فيه على الجميع الخاصَّةِ والعامةِ – أن يحوزوا من العلمِ الشرعي: فرضَ العينِ الذي لا يُعذرُ المسلمُ بجهله: من أصولِ الاعتقادِ، وفروضِ العبادة، وأصول المعاملات. فإذا قصَّرَ المسلمُ في تعلُّم فرضِ العين أثِمَ ، وإذا قصَّرتِ الأمَّةُ في فرضِ الكفايةِ أثمت.

أَبـَعْدَ هذا يأتي سفيهٌ من السفهاء يتَّهمُ دينَ الإسلام أنَّه المسؤولُ عن تخلُّف المسلمينَ اليوم، أو أنَّه السببُ في تقاعُسِ المسلمينَ عن النهوض بالصناعات والتجارات.

أيها الإخوة: إن ديناً يجعلُ: الفلاحةَ، والحِياكَةَ، والحسابَ، والهندسةَ، والطبَّ ونحوها: فروضَ كفايَةٍ على الأمَّةِ، بحيثُ يُلْحِقُ الإثمَ بكلِّ من قصَّر فيها وهو قادرٌ عليها، أو يكونُ هذا الدينُ هو المســـــؤولُ عن تخلف أهلِهِ وانحطاطِهِم ؟  إنَّ أزمة الأمَّةِ الحقيقيةَ لا تكمن في تخلُّفها التقني والمادي؛ وإنَّما تكمنُ في تخلُّفـها الديني و الشرعي.  فإنَّ مما لا شكَ فيه: أنَّ تقدمَ الأمَّةِ وتفوقَها مرتبطٌ بدرجةِ رُسُوخها الديني؛  فبقدر إيمانها، وقيامِهَا بفروض دينها: ينعكسُ ذلك على تفوقِها الحضاري، وتقدُّمِها المادي. وهذا من فضلِ الله تعالى على البشريةِ إذْ ربطَ بين تقدُّمِ المسلمينَ وبين تمسُّكِهم بدينهم، فلو صحَّ أن يتقدمَ المسلمونَ بغير دينهم لكان ذلك فتنةً للبشريةِ عن دينِ الإسلام، ولكانَ حالُ المسلمينَ كحالِ النصارى الذين ما تقدَّموا ونهضوا إلا بعدأن نبذوا دينهم المحرَّفَ، وتنكَّروا لكنائسهم ورهبانِهم.

فاتقوا اللهَ عبادَ الله، واحرصوا على دينكُم, واعلموا أنَّه سبيلُكُمُ الوحيدُ إلى سعادةِ الدنيا، والنجاةِ في الآخرة، واحذروا كلَّ موْتورٍ فاجرٍ يُزهِّدُكُم في دينِكُم, فإنما هو شيطانٌ في صورةِ إنسان.

أقولُ هذا القول وأستغفر اللهَ تعالى لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله علَّام الغيوبِ, الحمدُ للهِ فارِجِ الهمِّ والكروب, أحمده وأستعينه وأستغفره, وأسألُهُ من فضلِهِ العظيم , وكرمِهِ الواسعِ: وأن يجعلَ للمسلمينَ من كلِّ همٍ فرجاً , ومن كلِّ ضيقٍ مخرجاً, وأن يُغنيَهم بفضله عمن سواه , إنه سميع قريب.

أيها المسلمون: إذا تقرَّرَ أنَّ جميعَ العلوم ضروريةٌ لقيام النهضة الإسلامية؛ فإنَّ من الضروري, الذي لابد أن يعرفَهُ المسلمُ: أنَّ العلومَ الدينيةَ مقدَّمَةٌ على غيرها؛ لكونها تحملُ فرضَ العينِ الذي لابدَّ منه لكلِّ مسلمٍ, ولكونها معْنيةً بالحثِّ على العلم, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من يُردِ اللهُ به خيراً يفقِّهه في الدين«. وقوله: »ما اجتمعَ قومٌ في بيت من بيوت الله, يتلونَ كتابَ الله, ويتدارسُونَهُ بينهم إلا نزلت عليهمُ السكينةُ, وغشيتْهُمُ الرحمةُ, وحفَّتهُمُ الملائكةُ, وذكَرَهُمُ اللهُ فيمن عنده«،  وقوله أيضاً: »خيركُم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ«.  والعلمُ الشــــرعي هو العلمُ الذي لا يجوز كتمانُهُ عن طالبيه كما قال عليه الصلاة والسلام: » من سُئل عن علم ثم كتمه أُلْجِمَ يومَ القيامة بلجامٍ من نار«.  ولهذا كان حرصُ الرسول صلى الله عليه وسلم على نشر العلم الديني عظيماً, فلم يكن يمنعهُ عن أحد من الناس حتى إنَّهُ كان يعلِّمُ الأعرابَ والنساءَ والصبيانَ, ومن أعجبِ ما يُنقلُ عنه في ذلك, ما رواه أبو رِفَاعةَ العدوي رضي الله عنه حيث يقول: »انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطبُ, قال: فقلــت: يا رســولَ الله رجلٌ غريبٌ جاء يسألُ عن دينـه, لا يدري ما دينُهُ, قال: فأقبلَ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبتهُ حتى انتهى إليَّ, فأُتِيَ بكرسيٍّ حسبتُ قوائمَهُ حديداً, قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يُعلِّمُني مما علَّمَهُ الله, ثم أتى خطبتَهُ فأتمَّ آخِرَهَا«.

فاحرصوا أيها المسلمــونَ على العلم, واعلموا أنَّ العلمَ لا مُنتهى له, فإنَّ الله أدَّبَ نبيَّــه عليه الصـلاة والسلام بقوله: ) وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا(, والنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: » منهومانِ
لا يشبعانِ: منهومٌ في علمٍ لا يشبعُ, ومنهومٌ في دنيا لا يشبعُ« ، وكان بعضُ السلف يقول لتلميذه: »اكتُب فإن استطعت أن تلقى اللهَ