الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية العقلية @ 3ـ خطر التمادي في اتباع الهوى
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هاديَ له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فإن كلَّ محدثةٍ بدعة وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (.
أيها المسلمون: داءٌ عظيم, وبلاءٌ جسيم, وفتنةٌ كبيرة , من نجا منها فقد نجا, ومن وقع فيها فقد هلك, حذَّر الله تعالى منها , وحذَّر منها رسولُهُ صلى الله عليه وسلم, ألا وهي الهوى، شرُ داءٍ خالطَ القلب, وأقبحُ صـفةٍ ظهــرت على الســلوك, إذا تمكَّن من المرء: أذهب عقلَهُ, فلا يعرف من الموازين العقليــة, والضوابطِ الفكريةِ إلا ما وافق هواه, فلا يُبْصِرُ بعينيه إلا ما يهوى, ولا يسمع بأذنيه إلا ما يحب, فيُعميه الهوى عن استبصار الحق, والنظر في العواقب, ويُصِمُّهُ عن سماع الخير, والإذعان للحق. فهو كالبهيمة في تصرُّفاتها تسعى أبداً لإشباع شهواتها, وتحقيق ملذاتها. حتى إذا ملأ قلبَهُ الهوى, فملَكَ جوارحَهُ: قلَّ حياؤه من الله تعالى, فأقحــم نفســه في معاصيــه, فلا يُميِّزُ بين حلالٍ أو حرام, ولا يفرِّقُ بين حق أو باطل. وكثرتْ مع ذلكَ جُرْأتُهُ مع عباد الله, فلا يعرفُ لأحدٍ حقاً عنده, أو حرمةً يتجنَّبُهَا, فإذا به لا يبالي بأعراضِ الناس وحقوقهم, فيطعن في هذا, ويشتم هذا, ويأكلُ مال هذا, فينطلق في الحياة كالمسعور لا يلوي على شيء , إلا ما كان منفعةً له, بإكْثار ماله, أو راحةِ نفسهِ. فأما دينُ الله تعالى, وحدودُهُ, ومحارمُهُ فآخرُ ما يفكِّرُ فيه, وأما حقوقُ الناس, وأعراضُهُم, وحرماتُهُم, فلا يكترث لها, ولا تخطُرُ له ببال فلاحقاً اتبــع, ولا باطــلاً اجتــنب, ولا خيراً فـعل, ولا شراً تـرك, ولا معروفاً أسْدى , ولا منكراً أنكر, يقولُ الله تعالى في أمثال هؤلاء ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم أسباب النجاة, وأوقعهم في أسباب الهلاك, يقول سبحانه وتعالى: ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ * مَن يَهْدِ اللَّـهُ فَهُوَ الْـمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْـخَاسِرُونَ * وَلَقَد ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلـــُوبٌ لاَّ يَفْقَهــــُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (.
أيها الإخوة: لو كانت داعيةُ الهوى تنتهي بصاحبها، عند حدِّ الخطأ فيقع فيه ثم يعود بعد ذلك إلى صوابه ويتوب، فإن الأمر في ذلك هيِّنٌ، وإنما المشكلةُ تكمنُ في تداعى الأهواء، حينما تكثرُ موارِدُهَا، وتتوسعُ منابِعُهَا، فلا يكاد أحدهم يخرجُ من فتنةٍ إلا ويقع فيما هو أشدُّ منها، فما يزالُ كذلك تتقاذفُةُ الأهواءُ، وتتداعى عليه الفتن،حتى تُسيطرَ على عقلِهِ الشبهات، وتسيطرَ على قلبه الشهوات، فتصبحُ كالرَّانِ, تُغلِّفُ قلبَهُ وعقلَهُ, فلا يعرف معروفاً, ولا ينكر منكراً, إلا ما أُشربَ من هواه. فإذا بالعقائدِ الباطلةِ, والنحلِ الفاسدةِ تجدُ لها في عقله موقعاً, وإذا بالانحرافات الخلقية, والقبائحِ السلوكية تجد لها في قلبه موطِئاً, فلا يَركنُ عقلُهُ إلا للمذاهب الهدامة, والمبادئ الباطلة, ولا يأنَسُ قلبُهُ إلا بالملاهي المنكرةِ, والمناظِرِ المحرمَةِ. فإذا تمكَّنَ منه الهوى على هذا النحو, وبلغَ مبْلغَهُ من عقلِهِ وقلبِهِ: انطلق في الأرض بالفســاد, فما مـن معْلَـمِ خيرٍ إلا وضعه, وما من معْلَمِ شر إلا رفعه, يبتهج للمنكر, ويألَمُ للمعروف, فإذا تكلَّمَ تكلَّمَ بالباطل, وإذا سكت سكت عن الحق, وإذا أَعْطى أعطى في شهوة, وإذا منعَ مَنَعَ عن خير. فإذا كانت الدولة للباطل كان رأساً في كلِّ شرٍ, وإذا كانت الدولةُ للحق كان ذنباً في كل خير.
وعن هذه الشاكِلــةِ من خلق الله تعالى يقـــول المولى عزَّ وجـل: ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّـهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْـحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّـهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّـهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (, ويقولُ سبحانه وتعالى عن آخِرِ مراتبِ الضلالِ التي ينحطُّ إليها أهل الأهواء, حين لا يعرفون من الحياة إلا الهوى, يقول عنهم سبحانه وتعالى: ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّـهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (، نعم من هذا المؤهَّلُ لإنقاذ هؤلاء من دركات الضلال, وظلماتِ الغيِّ إنه الله تعالى, هو وحدَهُ القادر على إنقاذهم, من خلال منهجه القويم, وشِرْعتِهِ المباركة, التي أنزلها ليُخرجَ الناسَ من الظلمات إلى النور, ومن الضلالةِ إلى الهدى. إنه المنهج القويم, وهو السبيلُ الوحيدُ الذي ينجو به الناسُ من الغواية, وسلطان الهوى, فلا سبيل إلا بالاتباع, ولا نجاة إلا بالانقياد, وفي هذا يقول الله تعالى: ) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْـحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْـهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ لَـهُمْ عَذَابٌ شَــــدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (، ويقول أيضاً: ) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْـحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً (، ويقول أيضاً: ) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِن كِتَابٍ (.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم محذِّراً من الهوى: »إن مما أخشى عليكم شهواتِ الغيِّ في بطونِكُم وفروجِكُم ومُضِلاتِ الهوى«، ويقول أيضاً: » وأمَّا المُهلكات: فشحٌ مطاع, وهوىً مُتَّبع, وإعجابُ المرءِ بنفسه«، ويقول أيضاً: »ألا إنَّ منْ قبلكم من أهلِ الكتابِ افترقوا على ثنْتينِ وسبعينَ ملَّةً, وإنَّ هذه الملة (يعني الإسلام) ستفترق على ثلاثٍ وسبعين, ثنتان وسبعونَ في النار, وواحدةٌ في الجنة, وهي الجماعة, وإنه سيخرجُ من أمتي أقوامٌ تَجَارى بهم تلكَ الأهواء, كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه, لا يبقى منه عرقٌ ولا مِفْصلٌ إلا دخله« . ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: »إن أخوفَ ما أخافُ عليكم اثنتان: طولُ الأمل, واتباع الهوى, فأما طولُ الأملِ فيُنسي الآخرة, وأما اتباع الهوى فيصُدُّ عن الحق «.
ألا فاتقوا الله عباد الله, واحذروا الهوى والأهواء، وادعوا بقلوبٍ مخلصةٍ: اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء, اللهم استعملنا في طاعتك وجنِّبنا يا ربنا بفضلك معصيَتَكَ إنك سميعٌ قريبٌ مجيبٌ.
أقول هذا القول وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله يُوفِّقُ من شاء إلى مرضاته, ويُضلُّ من شاء عن رحماتِهِ, أحمدُه وأشكره, وأعبده, وأتوكَّلُ عليه, لا إله إلا هو, يأمر بالعدل, ويحكُمُ بالقسط, فالحق فيما أمر, والباطلُ فيما نهى. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه, والمُحذِّرُ من نيرانه, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
أيها الإخوة: لم يذكر اللهُ تعالى الهوى في موضعٍ من كتابه إلا ذمَّهُ, ولا ذكرَهُ رسولُهُ صلى الله عليه وسلم إلا حذَّر منه, وما سُمِّيَ هوىً إلا لأنَّهُ يهوى بصاحبه في دركاتٍ لا يعلم مداها إلا الله. فالعاقل ينهى نفسه عن لذةٍ يعقُبُهَا ألم, وشهوةٍ تُورثُ ندماً, ورغبةٍ يتبعُهَا حسرة, فإن النار حُفَّت بالشهواتِ والملذات, كما أن الجنةَ حُفَّت بالمكاره والصعوبات. فالداء كلُّ الداء في اتباع الهوى, والشفاء كلُّ الشفاء في مخالفة الهوى. ولن يكمُلَ أحدٌ حتى يقدِّمَ دينه على هواه, فيكونُ هواه تبعاً لدينه, فإنَّ أعدل الناس من أنصفَ عقلَهُ من هواه, وكان له من عقله رقيبٌ على شهواته وأهوائه, سُئل أحدهم: »من أصحُّ الناس عزْماً؟ قال: الغالِبُ لهواه«, وقيل أيُّ الجهاد أفضل: »قال: جهادُك هواك«.
أيها الإخوة المسلمون: إذا تقرَّرَ خطرُ الهوى, فإنَّ على العاقل أن يجاهد نفسه, وأن يدافعَ هواه, وأن يتمرَّنَ على ذلك, ولْيستعن بالله, ثم ليُمعِنِ النظرَ في حقارة أهل الأهواء, وانحطاطِ مكانتِهِم, ولْيرتفعْ بنفسه عن خسيس أحوالهم, وقبيح طِبَاعِهِم, ولْينظرْ إلى مواقع هزائمهم أمامَ الشَّهوات, وأماكنِ مصارعِهِم عند الملذات, وسفاهَةِ عقولِهِم أمام الشبهات, فلا عزيمةٌ تحكُمُهُم, ولا عقلٌ يضبطُهُم. فهم أسرعُ ما يكونون إلى مهالِكِهِم, وأبعدُ ما يكونونَ عن مصالِحِهِم, حتى إن البهيمةَ العجماءَ أهدى منهم إلى مصلحتها, وأبعَدُ منهم عن مفسدَتِها, يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: »إنكم في ممرِّ الليلِ والنهار, في آجالٍ منقوصةٍ, وأعمالٍ محفوظة, والموتُ يأتي بغتةً, فمن زرعَ خيراً فيوشكُ أن يحصدَ رغبةً, ومن زرعَ شراً فيوشكُ أن يحصدَ ندامةً, ولكل زارع ما زرع«. فاتقوا الله عباد الله واحرصوا على ما ينفعُكُم, وتجنبوا ما يضرُّكُم.
أكثروا من الصلاة والسلام على خير الأنام.