الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية العقلية @ 2ـ أهمية التفكير في حياة الإنسان
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي أنارَ بالفكرِ العقولَ, وأيقظَ بالنظرِ النفوسَ, ونبَّه بالتأمل القلوب. أحمده وأشكره على كل نعمة أنعم بها في قديمٍ أو حديث, أو سرٍ أو علانية, أو خاصة أو عامة. فهو أحق من شُكر, وأحق من عُبد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسَلَهُ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فأحيا به القلوب, وبصَّر به العقول. فعاد الناس أحياءً بعد موات, وعقلاءَ بعد جنون, ومبصرينَ بعد عمى. فالحمد لله على نعمه, والشكر له على آلائه. أما بعد:
فاتقوا الله عبادَ الله وارجوا الله تعالى واليومَ الآخرَ, ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (، ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (.
أيها الإخوة الكرام: إنَّ من أهمِّ وأحقِّ ما أصلحَ العبدُ من نفسِهِ: فكرَهُ وخواطرَهُ وهمَّه وإرادته. فإن التفكرَ مفتاحُ الأنوار, ومبدأ الاستبصار، ومصيدةُ المعارف والأفكار، وهو ضياءُ الإيمان ونورهُ, وحقيقته: التأملُ وإعمالُ الخاطرِ في الأمور, وهو ما يقعُ للإنسان من التردد في القلب مع الاعتبار . فكُلُّ أمرٍ تدبَّرتَهُ, وتأمَّلتَهُ: فقد تفكَّرت فيه. وأمرُ الحياة والممات, وأمر الدنيا والآخرة: لا يمكنُ أن يستقيمَ شأنُ المؤمن في كلِّ ذلك إلا بالتفكر, فهو يَدُ النفس التي ينالُ بها المتفكِّرُ المعلومات, كما ينالُ بيد جسمه المحسوسات.
ورغمَ أنَّ ميادين التفكر واسعةٌ بحيث يصعبُ حصرُها في مجال واحد, فإنَّ مجاريَها وفروعَها وأنواعَها كلَّها تجري في اتجاه واحد, وتتدفَّقُ نحوَ غايةٍ واحدة, لتتجمَّعُ في نهاية الأمر في ساحةِ الله تعالى الذي خلقَ كلَّ شيء جلَّ جلاله. فكلُّ تفكُّرٍ سليمٍ في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة, أو في أي باب من أبواب الوحي: لابد أن يُؤدي في نهايةِ المطافِ إلى الإيمانِ بالله تعالى, ومحبتِهِ, وخشيتِهِ, ومن ثمَّ إلى طاعتِهِ وعبادتِهِ.
فالمعارف الكونية التي بثَّها الله تعالى في جنبات هذا الكون من الأفلاك والكواكب, والبحار والأنهار, والجبال والأشجار, والسَّحاب والأمطار, والحيوان والنبات, والجواهر والمعادن كلُّ ذلك لا يعدو أن يكون آياتٍ تدلُ على الخالق المبدع, وإشاراتٍ تشير إلى الواحد الأحد. فكما أنَّ المؤمنَ يسترشد بآيات الله تعالى المقروءَةِ في كتبه المنزلة, فإنه أيضاً يستدل بآياته المنظورَةِ في كونه على وحدانيتِهِ, وكمالِهِ, وعظمتِهِ, ففي كلِّ شيء له آية تدلُ على أنه واحد.
والناظرُ في كتاب الله تعالى يجدُ التوجيه نحو التفكُّر واضحاً في كثير من الآيات, كقوله تعالى: ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(, وقوله أيضاً: ) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّـهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْـحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ(، وقوله سبحانه وتعالى: ) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّـهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا (.
أيها الإخوة: ما أقبحَ الإنسانَ الذي لا يعرفُ من الحياة إلا أن يجوعَ فيأكُلَ, وينعُسَ فينامَ, ويشتهيَ فيُجَامــعَ, ويغضبَ فيخاصـمَ. ثم لا يتعدى هذه السلوكيات إلى ما يكونُ به إنساناً, وإنما يقبَعُ في مسالك تشبه مسالك الحيوان, فلا يتخطاها إلا إلى مزيد من الشهوات والـمُتَع الحسِّية التي تحصرُهُ في دائرة الماديات. فإن قُدِّر له أن يفكِّر, فلا يفكِّرُ إلا في الشهوة, فإن نظر فإنه لا ينظر إلا للمتعة, وإن عمل فإنه لا يعملُ إلا للذة. حتى تستحوذَ عليه الشهواتُ, وتملِكَ زِمامَهُ الملذات. فلا يكونُ له همٌّ إلا فيها, ولا فِكْرٌ إلا لها, ولا عملٌ إلا من أجلها. فما يزال كذلكَ يتنقَّلُ من شهوة إلى شهوة, ومن لذة إلى لذة, فما يستفيقُ إلا بداعي الموت, يهدِمُ لذاته, ويبدد آماله. حين تكونُ التسبيحةُ أغلى عنده من كنوز الأرض, وتكونُ الركعتان في حسِّهِ أجلَّ مافي الوجود. وعندها يُدركُ حقارةَ نفسِهِ, وسفاهة رأيه, وضعفَ نظره. حين لا ينفعُهُ نظرٌ صحيح, ولا عملٌ صالحٌ, وإنما يُقَال له: ) كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (.
أيها الإخوة: لقد أدرك السلف الصالح أهميةَ التفكر والنظرِ, فنبَّهوا على ذلك, فهذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: »التفكُّرَ في الخير يدعو إلى العمل به, والندمُ على الشَّر يدعو إلى تركه «، ويقول عمر ابن عبد العزيز رحمه الله: » الفكرةُ في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة«, ويقول الحسن البصري رحمه الله: »تفكُّر ساعةٍ خيرُ من قيام ليلة«، وقال أيضاً: »من لم يكن كلامُهُ حكمةً فهو لغو, ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو, ومن لم يكن نظرُهُ اعتباراً فهو لهو«، وقال مرةً: »إن من أفضل العملِ الورعَ والتفكُّرَ«، وقال وهب بن منبه رحمه الله:
»ما طالت فكرَةُ امرئ قطُّ إلا عَلِمَ, وما علمَ امرؤٌ قطُّ إلا عَمِلَ«. وقال بشر الحافي رحمه الله: »لو تفكَّرَ الناسُ في عظمةِ الله ما عَصَوا اللهَ عزَّ وجل«.
أيها الإخوة: لم تكن لتخفى على السلف ميادينُ التفكُّرِ المتنوعةُ, ومجالاتُها المختلفةُ. ولكنهم أدرَكُوا أنَّ كلَّ تفكرٍ لا يؤدِّي إلى القربِ من الله تعالى فهو باطل, فعملوا على تحرير قلوبِهِم من الطَّمع, وتخليصِ عقولهِمِ من الترف. فوجَّهوا طاقاتِهِم الروحيةَ والعقليةَ للانتفاع بها في تزكية النفس من الشوائب, وتطهير القلبِ من القبائح, وحفظِ الجوارحِ من المثالب. فجنَّدوا قواهم المختلفة, وملكاتِهِم المتنوعةَ للاعتبار بآيات الله تعالى المقروءة في كتابه, أو المنظورةِ في كونِهِ, مع الاستفادة من مواقفِ الحياةِ الدنيا وتقلباتِهَا. فما تمرُّ عليهم آيةٌ من آيات الله تعالى إلا وجدوا فيها حكمةً, ولا يمرُّ بهم موقفٌ من مواقفِ الحياةِ إلا وجدوا فيه عبرةً. فقد كان جلُّ أوقاتِ بعض السلف تمضي في النظر والتفكيرِ؛ فقد سُئلت امرأةُ أبي ذر رضي الله عنه: عن عبادته, فقالت: »كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر«. وسُئلت أمُّ الدرداء: ما كان أفضلُ عبادة أبي الدرداء رضي الله عنه؟ فقالت: »التفكُّرُ والاعتبار«.
بكى أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ عبد العزيز يوماً, فقيل ما يُبكيكَ؟ قال: »فكَّرتُ في الدنيا ولذَّاتِها, فاعتبرتُ منها بها, ما تكادُ شهواتُها تنقضي حتى تكدِّرَهَا مرارتُها, ولئن لم يكن فيها عبرةٌ لمن اعتبر، فإنَّ فيها موعظةً لمن ادَّكر«. وجلس مرة أبو شُريح رحمه الله يبكي, فقيل ما يُبكيكَ؟ قال: »تفكرت في ذَهَابِ عمري وقلَّةِ عملي واقتراب أجلي«. وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: »إني لأخرجُ من منزلي فما يقع بصري على شيءٍ إلا رأيت لله فيه نعمةً, ولي فيه عبرة«.
أقول هذا القول وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيِّدِ المرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإنَّ أنفعَ مجاري الفكر وأعظَمَهَا على الإطلاق ما كان في مصالحِ الآخرةِ وفي طرقِ اجْتلابها, وفي دفع مفاسد الآخرة وفي طرق اجتنابها. ثم التفكُّرُ في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها, وفي مفاسدِها وطرق تقليلها, وعلى هذه المصالح دار فكر العقلاء. فالمتفكر في أمر الآخرة وعظمتها, وهوان الدنيا وحقارتِهَا أورثَهُ ذلك رغبةً في الآخرة وزهداً في الدنيا. والمتفكِّر في قصرِ الأملِ وضيق الوقت أورثَهُ ذلك جداً واجتهاداً في اغتنام الوقت وبذل الوسْع. والمتفكر في وعدِ الله تعالى بالثواب, وما أعدَّه لعباده الصالحين: أورثه ذلك شوقاً ولهفةً لما عند الله, فلو اطَّلعت قلوبُ الصالحينَ بفكرها إلى ما ادَّخره الله تعالى لها في الغيب من الخير والنعيم: لم يطِبْ لهم في الدنيا عيشٌ, ولم يقرَّ لهم فيها قرار. وكذلكَ المفرِّطُ في جنب الله تعالى, لو تفكَّر فيما توعَّد الله تعالى به العصاةَ من العذاب والنَّكال, وسوء المآل: لانخلعَ قلبُهُ, واشتدَّ حزنُهُ, وعظُمَ همُّـه, فــلا يقرُّ له قرار, ولا يهنأُ بطعامٍ أو شرابٍ حتى يُحدث لله توبةً, ومن غَيِّهِ أوبةً.
أيها الإخوة الكرام : إن الحازمَ العاقلَ لا يترك مواقف الحياة تمر بغير اعتبار, ولا يغفُلُ عن آيات الله تعالى بغير ادِّكار. فنهارٌ يحول, وليلٌ يزول, وشمسٌ تجري, وقمرٌ يسْري, وأناسٌ يحيونَ, وآخرونَ يموتونَ.
ما خلقَ الله تعالى هذا باطلاً, وإنما وراءَ ذلكَ حشرٌ ونشرٌ, وثوابٌ وعقابٌ. فليتفكر العبد في ذنوبه, ثم لْينظرْ في الموت وسكراته, ثم فيما بعده من سؤالِ منكرٍ ونكير, وعذابِ القبرِ وأهوالِهِ, ثم لْيتفكرْ في نفخةِ الصورِ, وهولِ المحشرِ عند اجتماع الخلائق وازدحامِهِم, ثم مناقشةِ الحسابِ, ثم الصراطِ ودقَّتِهِ وعظيمِ خطره. ثم لْيتفكر في أيِّ فريق هو: من أصحابِ اليمين الناجينَ, أم من أصحابِ الشمالِ الهالكينَ. ثم لْيتفكَّر في هولِ جهنَّمَ ودركاتِهَا, وعِظَمِ مقامِعِهَا وسلاسِلِهَا وأغلالها, وقبيحِ زقُّومها وصديدها, وأنواع العذاب فيها, ولْيتصوَّر أشكالَ زبانيتها, وقسوةَ قلوبِـهِم, وكيفَ أنَّ الناسَ فيها يصيحون فلا مُجيب, ويستغيثون فلا مُغيَثَ. كلَّما نضجت جلودُهُم بُدِّلوا جلوداً غيرها, وكلَّما أرادوا الخروج أُعيدوا فيها. ثم لْينظرْ العاقلُ مقابلَ ذلك الشقاء: ما أعدَّهُ الله تعالى لعبادِهِ الصالحينَ من النعيم المقيم, والبهجةِ والفرحةِ, والرحمةِ والفضلِ, والرضا والسرور. ثم لْينظر لنفسه ماذا يختار : الجنةَ أو النار.
اللهم ربَّ السماواتِ والأرضِ نسألك بوجهك العظيم أن تجعلنا من أصحاب الجنة, اللهم ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ نعوذ بك من النار. اللهم اجعلنا بفضلك من السعداء, ولا تجعلنا يا ربنا من الأشقياء. اللهم اجعلنا من الذين إذا أحسنوا استبشروا, وإذا أساءوا استغفروا.
أكثروا من الصلاة والسلام على خير البرية فقد أمركم الله تعالى بذلك: ) إِنَّ اللَّـهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (.