الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الأخلاقية @ 4ـ الظلم خطره ومفاسده


معلومات
تاريخ الإضافة: 8/9/1427
عدد القراء: 36017
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله الملكِ العدل, أَمَرَ بالقسط, ونهى عن الظلم, كتبَ العِزَّةَ والرفعة للمقْسطينَ العادلين, وكتبَ الذِّلة والصغار على الفاجرينَ الظالمين. أيَّدَ بالعدل أولياءَهُ المؤمنين, وخذلَ بالظلمِ أعداءَهُ الكافرين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى والعدل وتحريم الظلم, فبلَّغ الرسالة, وأدَّى الأمانة, وأقام الدين, فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أن خيرَ الكلامِ كلامُ الله تعالى, وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم, وشرَّ الأمور محدثاتها, وكلَّ محدثة بدعة, وكلَّ بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة: إن من أشدِّ المظاهر الاجتماعية فتكاً بالإنسان, ومن أرذلها مسْلكاً, ومن أقبحها موْرداً, ومن أعنفها تأثيراً في الحياة الإنسانية بصورة عامة: ظاهرةَ الظلم, سواءٌ كان الظلم في حقوق الله تعالى, من وجوب إخلاص العبادة له وحده جلَّ شأنُهُ, والخلوص من الشرك, كما قال سبحانه وتعالى: ) إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(، أو كان الظلم بين الناس, بتعدي بعضهم على بعض في الحقوق والواجبات, كما قال الله تعالى: ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ(، أو كان الظلمُ بين العبد وبين نفسه, كما قال الله تعالى: ) فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّـنـَـفْسِهِ(.  فكل صور الظلم محرمةٌ على العباد, كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: « يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ».

وقد توعَّد الله تعالى الظالمين في كتابه بما يخلَعُ القلوبَ, ويكُفُّ النفوس عن الظلم فقال سبحانه وتعالى: ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (.

) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْـمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا (. 

) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (.

) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ *  مِن دُونِ اللَّـهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْـجَحِيمِ (.

) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (.

) وَاللَّـهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (.

) إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (.

) وَاللَّـهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (.

) أَلاَ لَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (.

وفي الحديث القدسي يقول الرَّب عز وجل: « اشتدَّ غضبي على من ظَلَمَ من لا يجدُ له ناصراً غيري » .  ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم محذِّراً من الظلم: « اتقوا الظلمَ فإنَّ الظلم ظُلماتٌ يوم القيامة», ويقول: « إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلتْهُ ».

أيها الإخوة : إنَّ منشأَ الظلم من أصل الأمر: ظلمةٌ في القلب, تُعمي صاحِبَهَا عن استبصار الحق, وإدراك العواقب, وتدفعُهُ إلى التمادي في الباطل. فلا يجد في نفسه وازعاً يُوقظُهُ, ولا يجد من المجتمع رادعاً يقمَعُهُ. ولهذا غالباً ما يقعُ الظلمُ على الضعفاء والمساكين, الذين لا يجدون مالاً يدفعونَ به عن أنفسهم, ولا يجدون من قوى المجتمع ما يحميهم من الظلم. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم محذراً المجتمع المسلم: »إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعُمَّهم الله بعقاب منه«، وقال أيضاً: »إذا رأيتَ أمَّتي تهابُ الظالمَ أن تقول له: إنك ظالم: فقد تُوُدِّعَ منهم«؛ أي لا خير فيهم, ويقول أيضاً: « ما من مسلم يخذل امرأً مسلماً في موضع تُنتـهكُ فيه حُرمتُهُ, ويُنتقصُ فيه من عرضـه إلا خذله الله في موطن يُحبُ فيه نُصرتـه »، ويقول: « لا تظلموا فتدعوا فلا يُستجابَ لكم, وتستسقوا فلا تُسقوْا, وتستنصروا فلا تُنصروا» , ويقول: « إنَّ الله لا يقدِّس أمةً لا يأخذ الضعيف فيها حقَّهُ غيرَ مُتعتع »، وقال أيضاً: « انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً, فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً , أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصرهُ؟ قال: تحجُزُهُ أو تمنعهُ عن الظلم فإن ذلك نصْرُهُ ».

أيها المسلمون: إن ظلم بعض أفراد المجتمع لبعضهم لا يقتصرُ ضررُهُ على الظالم والمظلوم، وإنما يتعدى ذلك الضررُ على المجتمع بأسره، حين يستجلبون غضب الرب عز وجل، فلا يبالى سبحانه وتعالى بهم في أي وادٍ هلكوا.

كما أنَّ مظاهر الظلم إذا تفشَّت في مجتمع ما: لابد أن تصل إلى كلِّ واحد من أفراد المجتمع في صورة من الصور، حتى تقع بينهُمُ البغضاءُ، وتُثارُ بينهم الشحناء، فتتفرَّق القلوب، وتكثرُ الهموم، فلا يكون همُّ الواحد منهم إلا الانتقام بعنف، أو الكيدَ بخبث. حين تكونُ شريعةُ الغاب نظام المجتمع، وحبْكُ المكائد علامة ذكائه، وكثرة الدسائس صور حكْمته, وعندها يكون المجتمع قد وصل إلى الهاوية السحيقة فلا خير فيه.

أيها المسلمون: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تكونوا إمعةً، تقولون إن أحسن الناسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم: إن أحسنَ الناسُ أن تُحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا » . إن انتشار الظلم الاجتماعي لا يبرر للناس التظالم، وإنما للمظلوم أن يدفع عنه الظلمَ ما استطاع بغير تعدٍ، فإن لم يستطع فليعلم أنَّه منصور، وأن الله تعالى لن يخذله، وفي الحديث : « ثلاثةٌ لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمامُ العادلُ, ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنَّكِ ولو بعدَ حين » . كما أن صبره على الظلم في غير ذلةٍ لا يزيدُهُ عند ربه إلا عزاً، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثٌ أُقسم عليهن وأحدِّثكم حديثاً فاحفظوه, قال:  فأما الثلاثُ الذي أقسم عليهن: فإنه ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلم عبدٌ بمظلمةٍ فيصبرُ عليها إلا زاده اللهُ عز وجل بها عزاً، ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر » .

اللهم إنا نعوذ بك من أن نظلم أو نُظلم، ونعوذ بك من الظلم والظالمين، أقول ما سمعتم وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله الواحدِ القهَّار، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى المختار، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد...

أيها الإخوة: إنَّ قضيةَ الظلم لا تنتـــهي بزوالِ هذه الحياة وانقضائها، و إنما هي أرصدةٌ مدخرةٌ لأصحابها، يُوفَّوَن بها يوم القيامة، في صحائفَ لا تغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصتها، فيأتي الرجل يومَ القيامةِ فيرى من بياض صحيفته، ونقائها ما يظنُّ معه أنَّه ناجٍ من العذاب، فإذا بمظالمِ بني آدَمَ تتكالبُ عليه من كلِّ صوب، فهذا يُطالبه بمال، وهذا يطالبُهُ بعرض, وهذا يطالــبه بدم. فما يمضي عليه الحسابُ إلا عادَ مفْلساً من كلِّ خير، محمَّلاً بأوزار العباد، لا يعرفُ منها خلاصاً، وفي الحديـث قال رسـول الله صـلى الله عليه وســـلم: « اتقوا الظلـــم ما استطعتم، فإن العبد يجيءُ بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستنجِّيه، فمازال عبدٌ يقول : يا رب ظلمني عبدك مظلمة، فيقول: امحوا من حسناته، ومازال كذلك حتى ما يبقى له حسنةٌ من الذنوب » ، ويقول أيضاً: « من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلَّلْهُ منه قبل أن لا يكونَ دينارٌ ولا درهم، إن كان له عملٌ صالحٌ أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فَحُمِلَ عليه » .

فاتقوا الله عباد الله وكُفُّوا أنفسكم عن الظلم في كلِّ صُوره، وألْجِموا رغباتكم بلجام التقوى، فإذا ما دعت أحدَكُم نفسُهُ إلى الظلم: فليتذكر قدرة الله تعالى عليه، وليعلم أن الله قادرٌ على حماية المظلوم، وإنما هو ابتلاءٌ للظالم وللمظلوم، لينظر سبحانه وتعالى كيف تفعلون، فمن الظَّلمَةِ من يُعجِّلُ اللهُ له العقوبة في الدنيا فينتقمُ منه، ومنهم من يُؤخِّره ليومٍ تشخص فيه الأبصار, فلا تزول قدمُهُ من عند ربِّه عز وجل حتى يردَّ الحقوقَ من حسناته أو من سيئاتهم، ثم يرى سبيله بعد ذلك إلى الجنة أو النار.

لا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتــــــدراً          فالظلمُ آخِرُهُ يأتيـــــــكَ بالندمِ

نامت عُيونُك والمظلومُ منتــــــبِهٌ           يدعو عليكَ وعـــينُ اللهِ لم تنــمِ

أكثروا من الصلاة والسلام على خير الأنام.