الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الأخلاقية @ 3ـ خلق المسلم بين الصدق والكذب


معلومات
تاريخ الإضافة: 8/9/1427
عدد القراء: 37330
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله الصَّادقِ في قِيلِهِ، الهادي إلى سبيله، مَدَحَ الصادقينَ في مُحْكَم تنزيله، وذمَّ الكاذبينَ في شرائِعِ دينه. حبَّبَ الصدقَ إلى النفوس الكريمة، وكرَّه الكذبَ إلى الطباع السليمة، فجعلَ الصدقَ صفةً لأوليائِهِ، وجعلَ الكذبَ طبيعةً لأعدائه، فخصَّ بالصدقِ الأنبياءَ والصلحاءَ الأتقياءَ، وكَبَتَ بالكذب الأشقياءَ والفجَّارَ الأدعياءَ.  فكان الصدقُ للأولياء كالدواء، والكذبُ عندهم كالداء.  أما الصدقُ عند الأشقياء فهو كالداء، والكذبُ عندهم كالدواء، فلا يستريحُ الوليُّ إلا بالصدق، ولا يستريحُ الشقيُّ إلا بالكذب. فسبحان مقدِّر الأقدار، ومسبِّبِ الأسباب، يخلقُ ما يشاءُ، ويفعلُ ما يريد، ويهدي من يشاءُ إلى أسبابِ مرضاته، ويُضلُّ من يشاء عن فضله ورَحَمَاته.

وأشهد أن لا إله إلا الله، القائلُ في كتابه: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّـهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (، وأشهد أنَّ محمداً عبـــده ورسوله، القائلُ: « عليكم بالصدق فإنَّ الصدقَ يهدي إلى البر، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، وما يزالُ الرجلُ يصدقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتب عند الله صدِّيقاً, وإيَّاكم والكذب، فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإن الفجورَ يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتبَ عند الله كذَّاباً » .

أيها الإخوة المسلمون: إنَّ من أجلِّ نعمِ الله تعالى على العبد المسلم، أن يُحبِّبَ إليه الصـــــدقَ، فلا ترتاحُ نفسُهُ، ولا يهــدأُ ضميرهُ إلا بالصدق، فإذا تردَّدَ في أمر: آثر الصمتَ على أن يقول قـولاً لا يدرى أفي حق هو أم في باطل، وفي الحديث: « دع ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ، فإنَّ الصدقَ طمأنينةٌ, وإن الكذبَ ريبةٌ » .

ولئن كان في الناس من لا ترتاحُ نفسُهُ إلا بالصدق، ولا يطمئنُ قلبُهُ إلا به: فإنَّ في الناس من لا ترتاح نفسُهُ إلا بالكذب، ولا يهدَأُ بالُـهُ إلا به، حتى يُصبحَ عند أحدِهِم كالإدمان، لا يكادُ ينفكُ عنه, فقد قيلَ لكذَّابٍ ما يحمِلُكَ على الكذب؟ فقال : أما إنَّك لو تغرغرت ماءَهُ ما نسيتَ حلاوته، وقيلَ لكذَّابٍ آخر: هل صدقت قط؟ فقال: أكره أن أقول: لا فأصدُق. يعني أن الكذبَ يُصبحُ عند من اعتادَ عليه طبعاً وخُلُقَاً لا خلاص منه. ولهذا قال لقمان لابنه:  « يا بُنيَّ احذر الكذبَ فإنه شهيٌ كَلَحْمِ العُصْفُور، من أكلَ منه شيئاً لم يصبر عنه» . ومن هنا جاءت الشريعةُ المباركةُ بإلْزام المربينَ بالصدق في تعامُلِهِم مع الأطفال حتى لايعتادَ أحدُهُمُ الكذبَ فيصبحَ طبعاً له، ومما يُروى في هذا قولُهُ عليه الصلاة والسلام: « إن الكذبَ لا يصلُحُ منه جدٌ ولا هزْل، ولا أن يعدَ الرجلُ ابنه ثم لا يُنْجزُ له » ، ورأى عليه الصلاة والسلام مرَّة امرأةً تقولُ لصبي لها : تعال حتى أُعطيكَ، وتشير له بيدها كأن فيها شيئاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أردت أن تُعطيه ؟ قالت: تمراً، فقال: إن لم تفعلي كُتبت عليك كَذْبَةٌ».  وهكذا عليه الصلاة والسلام يجتث الكذب من أصوله الأولى، فلا يدع بذرته تنمو من أول الأمر، لعلمه عليه الصلاة والسلام أنَّ الكذبَ أصلُ النفاق، وأنَّ الصدقَ أصلُ الإيمان. ومن المعلوم أنَّ الكذبَ ليس من الأخلاق الفطرية التي يمكن أن يُجْبَلَ عليها الإنسان، وإنما هو خلقٌ يتعلمُهُ من البيئة الاجتماعية، وفي الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « يُطبع المؤمنُ على الخــــلالِ كلِّها إلا الخيانةَ والكذب » .

أيها الإخوة: إذا تقرَّرَ قبح الكذب: فإن أخبثَ أنواعه: التكذيبُ بالدين، من خلال التصديق بالباطل، والإنكار للحق. فهذه الأممُ السابقةُ التي كذَّبت الرسل ، وأنكرت الحق: أخذهُمُ الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، فمنهم من خسف به الأرض, ومنهم من أغرقه, ومنهم من أرسلَ عليه الريح، ومنهم من أخذه بالصيحة.  وكلُّ هذا بسبب التكذيب.  وفي هذا يقصُّ المولى عز وجل علينا خَبرَهم فيقول: ) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (،  وقــال : ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ(، وقال أيضـاً: ) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْـخَاسِرِينَ (.

ومن قبيح الكذب وشنيعه، مما يُعدُّ كفْراً والعياذ بالله تعالى: الكذبُ على الله تعالى، والكذب على رُسُله، من خلال ما ينسبُهُ الدجالون إلى الله وإلى رسله من التحليل والتحريم ونحو ذلك، وفي هذا يقول المولى عز وجل: )وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّـتَـفْـتـَـرُواْ عَلَى اللَّـهِ الْكَــذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْــتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَـذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (،  ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « إن كذباً عليَّ ليس ككــذب على أحد، من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعدَهُ من النار » ،  ويقول : « من حدَّث عني حديثاً وهو يرى أنَّه كذبٌ فهو أحد الكاذِبين» . ولما كان خطرُ هؤلاء عظيماً على الدين : توعَّدهم الله تعالى بالعذاب يوم القيامة فقال: ) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّـهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (.

وأما الكذب بين الناس فهو وإن لم يصل إلى درجةِ الكفرِ فإنه من المحرمات الممنوعة، ومن المسالِكِ المذمومة التي تأباها النفوسُ الكريمة، وتترفَّعُ عنها الطباعُ الحميدة، ولهذا لم يكن خُلقٌ أبغضَ إلى رسول الله صلى عليه وسلم من الكذب، وكذلك السلفُ الصالح، فإن بعضهم كان يحذر من الكذب ليس لكونه حراماً وخداعاً، ولكن لكونِهِ مخالفاً للمُروءة، فإن حياةَ الكذب: موت للمروءة، ومن عُرف بالصدق قُبل كذبُهُ، ومن عُرف بالكذب: كُذِّب وإن صدق. فالصدق أعز من السيف القاطع في يد الرجل الشجاع، حتى وإن كان فيه ما يكره، والكـــذب ذلٌ وإن كان فيه ما يُحب . فالصدق ميزان الله الذي يدور عليه العدل، وهو عماد الأمر، وبه تمامُهُ، وفيه نظامه. وهو تالي درجة النبوة، كما في قوله تعالى: ) وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ(.  وما يظنُّهُ بعضهم من مصلحةٍ يحققها من وراء الكذب، فإنَّ المنفعةَ الدنيويــة ولو كانت مُلك الدنيا بحذافيرها لا تعدِلُ الضَّرر الحاصلَ من أدنى الكذب.  وفي الحديث: « أربعٌ إذا كنَّ فيكَ فلا عليك ما فاتَكَ من الدنيا: حفظُ أمانةٍ، وصدقُ حديثٍ، وحسنُ خليقةٍ، وعفةٌ في طُعْمـــة » . وفي حديـث آخر: « اضْمَنوا سِتاً من أنفسكم أضمن لكُمُ الجنة: اصدقوا إذا حدَّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا ائتُمِنْتُم، واحفظوا فروجَكُم، وغُضُّوا أبصارَكم، وكفُّوا أيديَكُم » .

أيها الإخوة :  ولئن كان ثوابُ الصدق: نجاةَ العبد في الآخرة، فإنَّ أقلَّ ما يحصِّلُهُ في الدنيا: حلاوةً في منطقه، وملاحةً في منظرة، وهيبةً في مطْلعه. وأما الكذَّابُ فمع ما ينتظره في الآخرةِ من أليم العقاب، فإنه في الدنيا موقع شكِّ الناس وريبتِهِم، إذا شكَّكْته في حديثه تشكَّكَ حتى لربما رَجَعَ عنه، وإذا طالبته بالدليلِ تلعْثَم، وإذا نظرت إلى عينيه تردَّد، كأنه يقول خذوني. وفي القديم قالت الحكماءُ : « الوجوهُ مَرايا تُريكَ أسرارَ البرايا » . وقبيحٌ جداً أن يُحدِّثَ الرجلُ أخاه بالكذب هو له مصدِّق؛ فإن المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبُهُ.

ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وعليكم بالصدق حتى وإن رأيتم أنه يضرُّكم، فإنه لابد أن ينفعَكُم، واجتنبوا الكذب حتى وإن رأيتم أنه ينفعُكُم فإنه لا بد أن  يضرَّكم.

واعلموا أن حقيقةَ الصدقِ:  أن تصدقَ في موطنٍ لا يُنْجيكَ منه إلا الكذبُ  .

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وهدانا الله وإيَّاكم إلى سبيل سيِّدِ المرسلين. أقول ما سمعتم وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين...

أما بعد فإنَّ دوافعَ الكذب غالباً ما تنحصرُ في استجلاب منفعةٍ أو دفعِ مضرةٍ, فترى الكذَّابَ إذا أرادَ أن يتقرَّب إلى صاحب جاهٍ أو مالٍ: زعم له أنَّه رآه في رؤيا حسنة، وإذا أرادَ أن يصْرِفَ وجوهَ القوم إليه: تحدَّث بالحديث الكذبِ حتى يُضحِكَ الناسَ، وإذا أراد أن يكونَ ظريفاً في المجلس أكثَرَ من المِزاحِ والكلامِ ، وإذا أراد أن ينتقمَ من شخص: حَلَفَ اليمين ليقتطِعَ من ماله، وينتقم لنفسه، وكلُّ ذلك قبيح من المسلم.

أيها الإخوة : إن واجبَ المسلم اليوم ليسَ أن لا يكذب فقط ، ولكن يجب عليه أن لا يصدِّق بالكذب، وأن لا يكونَ مطيةً للكذَّابينَ والخادعين، فإنَّه في آخر الزمانِ يكثُرُ الكذبُ، ويقِلُّ الصدقُ، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان دجَّالونَ كذَّابونَ يأتونَكُم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤُكُم فإيَّاكُم وإيَّاهُم، لا يُضلُّونَكم ولا يفتنُونَكم » ، ويقول أيضا: « أُوصيكُم بأصحابي، ثم الذين يلونَهم، ثم الذين يلونَهم، ثم يفشو الكذبُ حتى يحلفَ الرجلُ ولا يُسْتحلف، ويشهدُ الشاهدُ ولا يُسْتشهد » .

إنَّ الكذبَ اليومَ لم يعد مسألةً فردية، أو قضيةً محلية، بل هو اليوم طبيعيةٌ عالمية، ومسْلَكٌ عام، يتعاطاهُ العالمُ بلا نكير عبر وسائلِ الإعــلامِ والاتصال، فالخداعُ السياسي والتعتيم الإعلامي أصبحا سمة عامة للإعلام المعاصر، وأما الجانبُ الاقتصادي فالغشُ التجاري، والاحتكارُ للسلع من خلال الدِّعاية الكاذبة، والترويجِ الساقط للبضائعِ الفاسدة، والموادِ الضارة. حتى إنَّك لتتعجَّبُ كيف تواطأ العالمُ على الدعاية للربا، والخمور، والدخان وغيرها من المحرمَاتِ دونَ نكير، رغبةً في الاستكثار من السُّحت الحرام، وأكلِ أموالِ الناسِ بالباطل. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الطبيعةِ الخسيسةِ في بعض التجَّار فقال: « إن التجَّارَ هُمُ الفجار، فقيل:  يا رسول الله أليسَ أحلَّ اللهُ البيع؟ قال: نعم، ولكنهم يحلفُونَ فيأثمونَ، ويحدِّثونَ فيكذبون » .

ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واحذروا الكذبَ وأهلَهُ، ولا يكن أحدُكم مطيةً للكذَّابين والمخادعين، فيصدِّقُهُم أو يُعينُهم.