الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الأخلاقية @ 2ـ طبيعة الأمانة التي حملها الإنسان
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الواحدِ الأحد, الفرد الصمد, المحمود بكل لسان, القاضي بالحق بين الأنام, يفعلُ ما يشاءُ ويحكُمُ ما يريد. والصلاة والسلام على سيِّد الأمناء, وخيرِ النجباء, وإمام الأتقياء. صاحبِ الحوضِ المورودِ, واللواء المعقودِ, والمقامِ المحمودِ, نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. بلَّغ الرسالة للخلق, وأدى الأمانة بالحق. وترك أمَّته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها. خرج من الدنيا وقد أرضى ربه بأداء الأمانة, وأنصف الناس بالعدل والاستقامة, فالخير منه مأمول, والشر منه مأمون. وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, الإلهُ الحق المبين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, وارجو الله تعالى واليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( . ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (. ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( .
أيها الإخوة المسلمون: إن أعظم مُميِّزةٍ يتميَّز بها الإنسانُ عن سائر المخلوقات, وأجلَّ مسؤوليةٍ أُنيطت به, وأضخمَ عبءٍ باءَ به: هو حمْلُهُ للأمانة, تلك الأمانة التي أبت السماواتُ بأجرامها العظام, والأرضُ بأنهارها وأوديتها وسهولها, والجبالُ بقوتها وصمودها, أبيْنَ جميعاً أن يحملْنها، وأشْفقنَ من عِظَمِ خطرها, وجلالة قدرها, وعلمْنَ عجزَهنَّ عن القيام بحقِّها, والصمودِ لأمرها.
لقد أدركت هذه المخلوقاتُ العظيمةُ بما وضَعهُ اللهُ تعالى فيها من إدراكٍ خاص: أنَّ حمل الأمانة بحقِّها, والقيام بأَمرها: يرفعُ حامِلَها إلى أعلى الدرجات, ويبلِّغُهُ أسنى المقامات. وأن التفريط في حملها, والتقصير في واجب حقِّها: يحطُّ المخلوقَ إلى أحطِّ الدرجات, ويُرْديه أسفل الدَّركات. فلما رأت ذلك آثرت السلامةَ, واختارت الأمان, فلا تكليفَ ولا حسابَ ولا جزاء, وإنما هو التسبيح والتمجيد لله رب العالمين, كما وصفَ الله تعالى حالها بقوله: ) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا( .
إنَّ اختيارَ الأمان, وإيثارَ السلامةِ من هذه المخلوقات العظيمة: يدلُّ دلالةً واضحةً على خطر حملِ الأمانة, وصعوبةِ القيامِِ بتكاليفها, وشناعةِ التقصيرِ في حقِّها. فإذا بهذا الإنسان: الضعيف الظَّلوم, الجهول الجزوع: ينبري لها من بين المخلوقات, ويتصدَّى لحملها من بين الموجودات, ويتطلَّعُ لها من بين المصنوعات: يتعرضُ لخطَرِها, لعلَّه يفوزُ بكرامتها, فينالُ أعلى الدرجات, ويفوزُ بعظيم الحسنات. فإذا بهذا الإنسان ومع أولِ فتراتِ تكليفه بحمل هذه الأمانة, فإذا به يُخفقُ, ويُخطئُ مع أول عقباتِ التكليف, فإذا به يأكلُ من الشجرةِ التي نُهي عنها. وما أن نزل إلى الأرض, وبدأ بالتناسل والعمارة: حتى دبَّ فيه الشُّحُ, واستحكمَ فيه الحسدُ, واشْتاطَ به الغضبُ. فإذا بالقتل مصيرُ المحسود, وإذا بالظلم مصيرُ الضَّعيف, وإذا بالجوعِ مصيرُ الفقير, وإذا بالذلُّ مصيرُ المسكين. فأينما نظرتَ من تاريخ الإنسان في القديم والحديث وجدتَ ظلْمَهُ واضحاً, وجهلَهُ بادِياً. ظلْمَهُ لنفسِهِ ولأخيهِ الإنسانِ بتضييعِ الأمانة, وجهلِهِ بعواقبِ الأمور يوم القيامة. ولم يسْلَمْ من هذا الوصف إلا عبادُ الله المخلصون, الذين اصطفاهُمُ اللهُ تعالى لحملِ الأمانة, ونشر الهداية, من الأنبياء الكرام, والرسل العظام, ومن الأولياء الأتقياء, والصالحينَ الأصفياء, الذين بثَّهُم الله تعالى بين خلقه من أولِ الدَّهر إلى آخره, فما من طبقةٍ من طبقاتِ الناس, ولا فئةٍ من فئاتهم إلا وتجدُ من بينهم قائماً بالأمانة, فتجدُهُم في علْيةِ القومِ من الملوكِ والأمراءِ والوجهاءِ, وتجدُهُم في أواسطِ الناسِ من العلماء والمؤدِّبينَ والموظفينَ, وتجدُهُم أيضاً في مساكينِ الناسِ من العمَّال والمستخدمينَ والفقراء. قد جَمعهم سلامةُ الاعتقادِ من الشرك والشك والزيغ, وسلامةُ العملِ من الفسق والانحراف والبدعة. فالباطنُ مُشْربٌ بالإيمان والتقوى, والظاهر مُسْبَغٌ بالمروءة والأدب. فلا الاعتقاد مشُوبٌ بالشبهات, ولا السُّلوكُ متعثِّرٌ بالشهوات. فمحبَّـةُ الله عَمَرت قلوبَهم, وسنَّةُ نبيه صلى الله عليه وسلم زيَّنت سلوكَهم. الخوفُ دافِعُهُم, والرجاءُ حافِزُهم. يتقلَّبونَ في جميع أمورِ دنياهم بين الخشْيةِ والأمل؛ خشيةٍ يشعرونَ معها بالتقصير في حمل الأمانة, وأملٍ يرجون به العفوَ ودارَ الكرامة. فلا الخوفُ يدعوهم إلى القنوطِ من رحمة ربهم, ولا الرجاءُ يُقعدُهُم عن الخدمة في طاعة ربهم.
أيها الإخوة الكرام: إنَّ هؤلاءِ الأمناءَ الذينَ عمرَ الإيمانُ قلوبَهم, وزيَّنتِ الاستقامةُ سلوكَهم: خلْقٌ من خلق الله تعالى, لم ينقرضوا, ولن ينقرضوا. بل هم من الفئة الظاهرة, والفرقة الناجية, لا يزالون بارزين مدى الدهر, لا يضرُّهم من خالفَهُم, ولا يكترثُونَ بعددِ من ناوأَهم. فقد يكثرون في زمان, ويقلُّون في آخر, وقد ينعدمونَ في فئةٍ ويتوافرونَ في أخرى, إلا أنهم لا ينقرضون أبداً. فقد تجدُهُم في فئةِ الحكَّامِ وأهل السلطة ممن حملوا أمانة الحق، والحكمَ بالشرع، وتجنَّبوا الظلمَ، والحيفَ عن القسط؛ لما علموا من الوحي أنَّ السلطانَ يأتي يوم القيامة وقد غُلَّتْ يداهُ إلى عنقه لا يفكُّها إلا العدل، وأنَّ العادلَ منهم على منابرَ من نورٍ في ظلِّ عرشِ الرحمن. كما تجِدُهم في فئةِ العلماء والمعلمين والمؤدِّبين، ممن ملأ العلمُ قلوبَهم بالخشيةِ, فألزموا أنفسهم العمل بالعلم خوفاً من مقت الله تعالى, بأن يقولوا مالا يفعلون, ورجاء أن يكونوا من معلمي الناس الخير الذين تستغفرُ لهُم الدوابُ وتدعو لهم. كما تجدُهُم من فئةِ الشبابِ والطلاب، ممن نشأوا في عبادةِ الله تعالى، وطلبوا العلمَ للعمل، فلم تفتِنُهُم الشهادات، ولم تنحطَّ بهم الأمانيُّ الساقطات، أبصارُهُم مغضوضةٌ، وفروجُهُم محفوظةٌ، أملُهُم في رحمة الله، وخوفُهُم من غضبه.
كما تَجِدُهُم في فئاتِ التُّجَّار والصنَّاع والأطباء والمهندسين ونحوهم، قد شغلتهُم أمانةُ إتقانِ العمل، والإحسان فيه, عن حظوظِ أنفسهم بطلب المزيد بالغشِّ والخداع والكسب الحرام. حين علموا أن السماحة أساسُ التعاملِ، وأن الإتقان سبيلُ الفلاح.
كما تَجِدُهم أيضاً في فئاتٍ من بسطاءِ الناس،من العمال والمسْتَخْدَمينَ والأجراء، ممن يبيت أحدُهم كالاً من عمل يده، قد شغلهُ الحلالُ عن الحرام، إذا وجد قوتَ يومه أَكَلَ وشكر، وإذا لم يجده صامَ وصبر، قد آثر الجوعَ على أن يمدَّ يده فيسأل، أو يتطاولَ بها فيسْرِق، أملُهُ في خزائِنِ الله كبيرٌ، ورجاؤه فيما عند الله عظيم.
كما تَجِدُهم في فئاتِ النساء ممن عبدتْ ربَّها، وأطاعتْ زوجَها، وحفظت نفسَها. فهي في بيتها راعيةٌ، وعلى ولدها حانيةٌ، وعلى ما في يد زوجها مشفقة، لم يشْغَلْها الأحمرُ ولا الأصفرُ عن ذكر ربها، ولم يُغرِها الشباب بالتبرج والسفور، رجاؤها أن تكون من أهل الفوز والحبور.
أيها الإخوة: هذه هي الأمانةُ، أمانةُ التكاليف التي عَجَزت عن حملها السمواتُ والأرضُ والجبالُ، وأنَّى لها أن تحملها فإنها لم تُهيأ لها، فما ضاقت السمواتُ والأرضُ عن حملِهِ واستيعابه من معاني الإيمان، وأنواع العمل: قد استوعَبَها قلبُ المؤمن وسلوكُهُ. فسبحان من أعطى كلَّ شيء خلْقَهُ ثم هدى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ) إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّـهُ الْـمُنَافِقِينَ وَالْـمُنَافِقَاتِ وَالْـمُشْرِكِينَ وَالْـمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّـهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا(. أقول ما سمعتم وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسلام على سيِّدِنا محمدٍ النبي الكريم المجتبى، وعلى آله الأخيار، وأصحابه الأبرار، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين، أما بعد فقد تحدَّث القرآن الكريم عن الأمانة وحثَّ عليها، ونهى عن الخيانةِ وحذَّر منها وفي ذلك يقول المولى عز وجل: ) إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ (، ويقول أيضا: ) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّـهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْــــتَغْفِرِ اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُـــونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُـــونَ مِنَ اللَّـهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّـهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (، ويقول أيضاً: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّـهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( .
وقد حذَّر الرسولُ صلى الله عليه وسلم من التفريط في الأمانة فقال: « لكلِّ غـادرٍ لــواءٌ يوم القيامة يُرفعُ له بقــدْر غـدْرِهِ » ، ويقـول: « ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً، يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌ لرعيته إلا حرَّم اللهُ عليه الجنة »، ويقول: « من استشاره أخوهُ المسلمُ فأشارَ عليه بغير رَشَدٍ فقد خانه« ، ويقول: « أدِّ الأمانةَ إلى من ائْتَمَنَكَ، ولا تَخُنْ من خانَك » ، ويقول: « إذا حدَّث الرجلُ الحديثَ ثم التفتَ فهي أمانة » ، ويقول: « المستشارُ مؤْتَمن » .
وفي الجانب الآخر فقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من ضياعِ الأمانة في آخر الزمان فقد قال عليه الصلاة والسلام: «كيف بكم وبزمانٍ يُوشكُ أن يأتي، يُغربَلُ الناسُ فيه غربلةً، ثم تبقى حُثالةٌ من الناس قد مَرِجَتْ عهودُهُم وأماناتُهُم، فاختلفوا هكذا– وشبَّكَ بين أصابعه » ، وقال أيضاً: « سيأتي على الناس سِنُونَ يُصدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادقُ، ويُخوَّنُ فيها الأمينُ، ويُؤْتَمن فيها الخائِنُ » .
اللهم إنا نعوذ بك من الجوع فإنه بئسَ الضجيع، ونعوذ بك من الخيانةِ فإنها بئْسَتِ البطانة، سبحانك ربنا لا حول لنا ولا قوة إلا بك على حمل الأمانة وتكاليفها، اللهم أعنَّا بفضلك ورحمتك على أداءِ أمانةِ قلوبنا بصدق الإيمان، وأداءِ أمانةِ سلُوكِنا بصلاح العمل.