الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية العبادية @ 3ـ وداع رمضان
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلِّه ولو كره المشركون, فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة, ونصح الأمة، وتَرَكَنَا على المحجَّة البيضاء, ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلا هالك.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله, وارجو الله واليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (، ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (، ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(.
أيها الإخوة المسلمون : بالأمس القريب كنا ندعو في ختامِ شهرِ شعبان: أن يبلِّغنا ربُنا شهرَ رمضان, وها نحن قد بلغْنا الشهر الكريم, وختمنا أكثرَهُ، وذهبت أيامُهُ ولياليه مسرعةً كأنها لم تبدأ, فما أن دخل الشهر الكريم, حتى أخذت أيامه تتتابع, وأخذت لياليه تنقضـي, حتى ما أفاق الصائمون إلا على ختامِ الشهر يودِّع أحبابه الذين طارت قلوبُهُم حُزناً على فراقه, فلا يدرون أيُدركونه مرةً أخرى أم يكونون في عِدَادِ أهل القبور.
لقد ذهب الشهرُ شاهداً لأهل الخير والفضل بالصيام والقيام والدعاء, وذهب شاهداً على أهل الشر بالتقصير والتفريط, فهنيئاً لمن صامَ وقام إيماناً واحتساباً.
أيها الإخوة: لقد عاش المسلمون هذا الشهر على غير عادتهم, فمن كان منهم مُقصِّراً في صلاته, مفرِّطاً في واجباته: رأيتَهُ في هذا الشهر حريصاً على الصلاة, ملتزماً بالواجبات, ومن كان في غير هذا الشهر مجتهداً في الطاعات, مواظباً على الفرائض والواجبات: رأيتَهُ في هذا الشهر أكثرَ اجتهاداً, وأعظم التزاماً. إنها فضائل هذا الشهر, وبركاتُ هذه الليالي المباركة, فالأعمال في هذا الشهر ليست كالأعمال في غيره, فالنافلةُ فيه كالفريضةِ فيما سواه, والفريضةُ فيه كسبعين فريضةً فيما سواه. فهو موسمٌ تُعرضُ فيه السلعُ بأرخصِ الأثمان, وتُعرض فيه سلعةُ الله الغالية, ألا إن سلعة الله الجنة, فتتيسَّر أسبابها, بصيام, أو قيام, بل ربما كتبَ اللهُ تعالى جنته ورضوانه لعبدٍ على تمرة, أو شربة ماء, أو مذْقة لبن يقدمها المؤمن لأخيه في الله تعالى طيبةً بها نفسُهُ.
إن انقضاء هذا الشهر يُعدُّ من أعظم المآسي التي يُصاب بها المسلمون, فلو تعزى الناس عند انقضائه لم يكن غريباً, فأيُّ شهرٍ هذا الذي تُصفَّدُ فيه الشياطين غيرَ رمضان, وأيُّ شهر هذا الذي تُضاعف فيه الأجورُ والحسناتُ إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله, وأيُّ شهر هذا الذي تعدِلُ فيه التمرةُ الواحدةُ مغفرةَ الذنبِ وعتقَ العبد من النار, وأيُّ شهرٍ هذا الذي يصلي فيه الناس عشراتِ الركعات دون ملل, وأيُّ شهرٍ هذا الذي يُختم فيه القرآن, وأيُّ شهر هذا الذي تتزين فيه الجنة, وتتهيأ للنزلاء, وأيُّ شهر هذا الذي يصومُهُ الناس فلا يعلم عِظَمَ أجورِهِم إلا الله تعالى, وأيُّ شهر هذا الذي فيه ليلةُ هي خيرٌ من ألفِ شهر.
أيها الإخوة : إن انقضاء شهر رمضان يفوتُ به كثيرٌ من الثواب, فمهما اجتهد المجتهدون, ومهما حَرَصَ الحريصون فإنهم لا يستطيعون أن يبلغوا الثواب الذي يبلغونه في رمضــــان, ولهــذا فإن الصالحين لشدة ما يرونَهُ من فضائل هذا الشهر يتمنونَ أن تكون السنةُ كلُّها رمضان.
أيها المسلمون : لقد أنعمَ اللهُ تعالى بهذا الشهر على كثير من الناس نعماً قد لا يستطيعونها في غيره, فكثير من أهل المعاصي, ممن اعتاد بعض الكبائر تجده في رمضان قد تخفَّف منها, ومن كان مقصراً في عبادته في غير رمضان تجده حريصاً عليها في رمضان, حتى إنك لتجد بعض الناس ممن اشتهر بالفسق, والانحراف الفكري والسلوكي تجده في شهر رمضان من النُّساك المتعبدين, بل إنَّ بعضهم ممن لا يُظنُّ به الخير: تجده في بعضِ ليالي أواخرِ الشهر حريصاً على الصلاة في الصفوف الأولى, بل ربما وجدته في درجةٍ عاليةٍ من الروحانيةِ والصفاء وكأنه من النُّسَّاك المتزهِّدين.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل: « أنا عند ظنِّ عبدي بي, وأنا معه إذا ذَكَرَني, فإنْ ذَكَرَني في نفسه ذكرته في نفسي, وإنْ ذَكَرَني في ملأ ذكرتُهُ في ملأ خير منهم, وإن تقرَّب إليَّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً, وإن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً, وإنْ أتاني يمشي أتيتُهُ هرولة ».
أيها الإخوة : أوَ يسوغ للمؤمن الذي فتحَ اللهُ تعالى له أبواب رحمته, وأسبغَ عليه ثوبَ كرامته, وساقه إلى أطهر بلاده, ووفَّقه للصيام, وهداه للعبادة, فحبَّب إليه الصلاة في رمضان, ورقَّق قلبه على الفقراء والمساكين, حتى هداه للصدقة والزكاة, وحبَّب إليه قراءة القرآن, ووفقَّه إلى الاجتهاد في ختمه, وهداه إلى كثْرةِ ذكره, أوَ يسوغُ له بعد كلِّ هذا أنْ ينقلبَ هذا المتبتلُ المتنسِّكُ من عابدٍ خاشع قانت إلى: جاحِدٍ عاصٍ مفرِّط, فمن الصلاة إلى الفواحش والمنكرات, ومن الصيام عن الطعام والشراب: إلى أكْلِ أموال الناس بالباطل, ومن القرآن إلى الغناءِ والمزامير, ومن المســاجدِ إلى الملاهـي. أو تكون هذه المسالكُ ممن غَفَرَ اللهُ تعالى له ما تقدم من ذنبه, أو تكون ممن وفَّقَه الله تعالى لقيام ليلة القدر.
إن من أدلِّ الدلائل على القبول عند الله تعالى: الاستقامةَ بعد شهر رمضان, فتجدُ الشخصَ الذي تقبَّل اللهُ تعالى منه: قد حَسُنَ حالُهُ, وتجدَّدَ عزمُهُ, وتنوَّر قلبُهُ, وقويت بصيرتُهُ: إذا فُتحت أمامَهُ أبوابُ الخير كان من أسرع الناس فيها, وإذا فُتحت أمامه أبواب الشرِّ كان من أبعد الناس عنها, لقد فعل الصيامُ فيه فعْله, فلم يعد قاسيَ القلب, غليظَ الطبع, هذَّبه الصيام, وطهَّره القيام, ونوَّر بصيرته القرآن, حتى عاد رقيق القلب, قريب الدَّمع, حسنَ المعشر, يُحبُّ الطاعةَ, وينفرُ من المعصية. يومُ عيده: كلُّ يومٍ أطاعَ فيه ربَّهُ, ويومُ حُزنه: كلُّ يومٍ عصى فيه ربه. فلا يعرفُ من العيد إلا الطاعة, ولا يعرف من الحزن إلا المعصية، فإذا انشغلَ بلهوٍ: كان في مباح, وإذا مالَ إلى لذةٍ: كان في حلال, لا يعرفُ من لهوِ الناس في شوالٍ إلا ما أجازه ربُّ رمضان, فالأيامُ كلُّها عنده أيامُ الله, والأزمان كلُّها مواضعُ لطاعةِ الله, فالسَّنةُ كُلُّها في حِسِّه رمضان, يعيشُ أثرَ الشهرِ طَوال السنة, يدعو ستة أشهرٍ بأن يتقبَّل الله تعالى منه رمضان, ويدعو ستة أشهرٍ أخرى بأن يبلِّغَهُ الله تعالى رمضان ، فهو في فضائل الشهر وبركاته طَوال السنة. اللهم كما بلغتنا رمضان: فتسلَّمه منا مقبولاً يا رب العالمين, وأتـمَّـهُ علينا بالعتق من النار يا أرحم الراحمين.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريمِ المنان, والصلاةُ والسلامُ على خير ولد عدنان, سيِّدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فاتقوا الله عباد الله, وراقبوه مراقبة من يعلمُ أنَّهُ يراه, وتحققوا أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله, ولا يفرِّقُ ولا يجمع إلا الله, فمن نالَ خيراً, فإنما ناله بفضل الله تعالى, ومن اقترف شراً, فإنما فعله بعلم الله وقَدَرِهِ, ولو شاء لهدى الناس أجمعين, فليس لأحد عند الله تعالى حجة, فالناس جميعاً صالِحُهُم وطالِحُهُم إنما يتقلبون بين فضله وعدله. فمن أحسنَ في هذا الشهر: فصام وقام, فإنما هو فضل الله تعالى عليه أنْ اختاره لرحمته وفضله, فحبَّبَ إليه الطاعةَ والاستقامة, وكرَّه إليه المعصية والانحــراف. ومن فرَّط في هذا الشهـــر, فلا صامَ ولا صلى, فإنما هو مكرٌ مكرَ اللهُ به, فأعماه عن الخير, حتى يكونَ موضعَ سخطِهِ وعذابِهِ.
أيها الإخوة المسلمون: لو كان لمآذنِ المساجدِ رؤوسٌ لتنكَّست في شوالٍ, ولو كان لها أعينٌ لبكت, ولو كان لها ألْسُنٌ لقالت: أيها الصائمون أينَ تذهبونَ عني, أبعد أن عمرتموني الشهر كاملاً, وقرأتم القرآن, ودعوتم الله, تذهبون عني.
أيها الإخوة: إنَّ فرحةَ العيد لا تعني هِجران المساجد, ولا تعني التفريط في الواجبات الشرعية, ولا تعني الخروجَ عن حدود الله تعالى, التي رسمها للمسلم, وإنما حقيقة العيد: فرحةٌ تغمرُ قلبَ المؤمن لإتمام الشهر, وإكماله العدَّة, وتكبيرٌ صادق من القلب واللسان والفكر: بأن الله تعالى هو الأكبرُ والأعظمُ في شـعور المؤمــــن, فلا يقوم في الكون شيءٌ – مهما كان عظيماً– يضاهي محبة المؤمن لربه عز وجل.
اللهم يا كريم يا رحيم تقبل منا صيامنا وقيامنا, وأتمَّ علينا الشهر برضوانك, والعتق من نيرانك، اللهم أعد علينا رمضانَ أعواماً عديدة, وأزمنة مديدة, وأعدْه على الأمة الإسلامية وقد تحقق لها النصر والتمكين في الأرض برحمتك يا أرحم الراحمين.
أكثروا من الصلاة والسلام على خير الأنام.