الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الروحية @ 11ـ المسلم المعاصر بين الخلطة والإعتزال


معلومات
تاريخ الإضافة: 12/9/1427
عدد القراء: 1224
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

·          لم يعد يخفى على أحد أن الأمة المسلمة تعيش في زمن الفتن, واختلاط الأمور, وانتشار الأهواء.

·    فأينما نظرت وجدت ظلماً اجتماعياً, أو قتلاً ذريعاً, أو هوىً متَّبعاً, أو نفاقاً صريحاً, وقلَّما تجد حقاً يُعمل به, وصدقاً يُقال به.

·    والمسلم في هذه الأحوال المظلمة المختلطة يعيش حيرة من أمره: فإن خالط الناس ضاع, ووقع فيما وقعوا فيه من المحظور، وإن اعتزلهم: حزن لوحدته، وفاته كثير من أمر الدنيا.

·    فالاختلاط بالناس أمر شديد قلَّما يسلم فيه دين المسلم وأخلاقه, والوحدة والاعتزال أمر صعب قلَّما يصبر عليه المسلم.

·    والراجح للمسلم المعاصر إن كان فيه جَلَدٌ وقوة, وعلم وفقه, ونظر صحيح يميز به بين الخير والشر : الاختلاط بالناس, والصبر على أذاهم, ودعوتهم إلى الخير, ومجادلتهم بالتي هي أحسن فإنه الأفضل والأحسن والأرجح في حقِّه, وهو عمل الأنبياء عليهم السلام.

·    وأما إن كان في المسلم ضعف ورقَّةٌ في دينه, وليس له من العلم والفقه ما يميز به بين الخير والشر فالاعتزال هو الراجح في حقه.

·    فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: » يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبــع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر, يفر بدينه من الفتن « .

·    ويقول أيضاً: » الزم بيتك ، واملك عليك لسانك ، وخذ بما تعرف، ودع ما تُنكر ، وعليك بأمر خاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة «.

·    ولقد استحب جمع من السلف العزلة وترك المخالطة حتى قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما : » والله لوددت أن لي إنساناً يكون في مالي, ثم أغلق عليَّ باباً, فلا يدخل عليَّ أحد, حتى ألحق بالله عزَّ وجل«.

·    وكان الإمام أحمد رغم اختلاطه بالناس في العلم والتعليم يقــــول :  » اشتهي ما لا يكون, اشتهي مكاناً لا يكون فيه أحد من الناس «.

·          وكان رحمه الله يقول: » الخلوة أروح لقلبي«, يعني أريح لقلبه من المخالطة.

·          وكان بعض السلف يقول: » عُزلتي أنسي «.

·    وكان بعضهم يقول عن الأنس هو: » أنْ لو مات كلُّ الناس
ما استوحشت «.

·          إن هذا الأنس الذي يحكيه بعض السلف عن العزلة إنما حصل لهم بالإيجابية وليس بالسَّلبية كما يظن البعض.

·    إنها عزلة للعبادة والتنسُّك والتفكُّر, وطول القيام, وسرد الصيام, واتصال الفكر والذكر, وليست هي عزلة العكوف على مشاهدة القنوات الفضائية, والتمتع بالزوجات, والأنس بالأولاد, والتفريط في الواجبات.

·    إنها عزلة الأذكياء الفطناء, الذين إن حضروا لم يُعرفوا, وإن غابوا لم يُفقدوا, كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : » إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي « .

·    إن العزلة التي يُنصح بها زمن انتشار الفتن هي العزلة للعبادة التي يقول عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: » العبادة في الهرج كهجــرةٍ إليَّ «.

·    أما عزلة البطالة والفراغ فهي قبيحة نهى عنها السلف, يقول
ابن مسعود رضي الله عنه : » إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً, لا في عمل الدنيا, ولا في عمل الآخرة «.

·    كم هو جميل أن يعتزل الرجل الناس: فيطيل في الصلاة, فيصلي يومه أجمع, وربما صلى ليله كلَّه, ويصوم فيسرد الصوم سرداً, ويعتمر ويحجُّ يتابع بينهما, قد شغله الذكر والتسبيح عن حديث الناس, وأيقظه القرآن عن طول النوم.

·    كم هو جميل أن يعتزل الناس فيعتكف في المساجد, ويُحيي
ما بين العشائين, ويذكر الله من الفجر إلى طلوع الشمس, ويسبح من العصر إلى غروب الشمــــس, لا يجلس إلا على وضوء, ولا يذكر إلا على طهارة ونقاء.

·          كم هو جميل أن يعتزل الناس فيعكُف على إصلاح قلبه, وتطهير نفسه من النفاق والبدعة والحسد والغِلِّ والشح.

·          كم هو جميل أن يعتزل الناس فيتعلم الصمت عن الغيبة والنميمة, والسخرية ، وفاحش القول ، وبذاءة اللسان.

·    كم هو جميل أن يعتزل الناس ثم يلتفت إلى إصلاح ولده وأهله, وخدمة والديه, وصلة رحمه, والإحسان إلى المساكين والأرامل.

·          إنها عزلة الفطناء الإيجابية, وليست عزلة الجهلاء السلبية.

^   ^   ^

·    أيها المسلمون : إن من اختار العزلة فلابد من شيء من الخلطة في الجمعة والجماعات والجنائز والصلة ونحوها، مما لابد منه من الواجبات.

·    ومن اختار الخلطة فلابد من شيء من العزلة يهذِّب فيها نفسه, ويراجع فيها عمله, فإن عمر رضي الله عنه كان يقول: »خذوا حظَّكم من العزلة«.

·    إن أفضل فئات المسلمين من كان له علم وفقه وبصيرة يخالط بها الناس ساعة, فيأمر وينهى ويعلم , وله ساعة أخرى يعتزل فيها فيتعبد ويطيل العبادة ويتفكَّر ويطيل التفكُّر ، وهذا حال الكاملين من السلف, يطيل العبادة كأشد ما يكون ، ولا يترك مخالطة الناس.

·    فاتقوا الله أيها الناس, وعليكم بالصبر فإنه خير زاد لآخر الزمان, فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقـــول: » لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة «، فأعدُّوا للبلاء صبراً ، وللفتنة ثباتاً .