الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الروحية @ 3ـ ذكر الله بين الغافلين
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله أنيسِ المسْــتوحِشين, وأمــانِ الخائفـــين, وملاذِ الهاربــــين, لا يملُّ من ذكره الذاكرون, ولا ييأسُ من رحمته المذنبون. العُبَّاد بتسبيحه منْشغلون، والعُصاةُ باستغفاره يلهجون. أسْهرَ الصالحين تسبيحُهُ, وشَغَلَ المتفكرين تعظيمُهُ, فكان الذكرُ لأوليائه شفاءَ الأسقام, ودواءَ الآلام, قد كفاهم عن كثير الطعام, وأغناهم عن مخالطة الأنام . قُلوبُهم بتحميد الله معمورة, وصُدورهم بحمده مشْروحة . قد تزكَّتِ الأرواح بذكره, وطابتِ النفوسُ باسمه. حبْلُهم بالله موصول, ورجاؤهم في فضْله مأمول. لا يهرعون للشهوات, ولا يفرحون بالملذات, قد أغناهمُ اللهُ عن الشهوات بحُبِّهِ, وكفاهم عن الملذات بذكره. فهم أسعدُ السعداءِ بين التعساء, وأذكى الأذكياء بين الأغبياء, قد عرفوا الطريق فلزِموه, وأبصروا الدْربَ فسلكوه. أبصارُهُم إلى السماء مرفوعة, وحاجاتُهم عند باب خالِقِهم موضوعة. الدنيا بزُخْرُفـــــها لا تســــاوي عندهم تسبيحـــة ، والحياةُ بأجمعها لا تعدل في حسِّهم تهليلة. الغنى قد ملأ صدورَهُــــــم, والرضا عمر قلوبهـــــم. لا يعرفون من الجرائم إلا الغفلـــة, ولا يعرفون من الخطايا إلا السَّهوة. حسراتُهم على الزمان أن يمضي بلا ذكر, ومخاوفهم على النعم أن تكثر بلا شكر.
أيها الإخوة الكرام: أين هؤلاء الصالحونَ من أولئكَ الغافلين، الذين نسوا الله فأنساهم أنفُسَهم، ممن عَمِيَتْ أبصــارهم عن الهدى، فسلكوا سبيل الردى. لا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا يسبحونه بكرة وأصيلاً، قلوبُهُم مشحونةٌ بالشهوات، وعقولُهم مشغولةٌ بالشبهات. قد استحوذ عليهم الشيطان، فأنساهُم ذكرَ الرحمن، وسَلَكَ بهم طريق الحرمان، حتى اسودَّت قلوبُهُم، وعَمِيَتْ عيونُهم، فلم يعد أحدُهم يُدركُ بقلبه إلا الشهوات، ولا يُبْصر بعينِهِ إلا الملذات. ألسنتُهُم عن ذكر الله مقطوعة، وفي حديث اللغو مشغولة. لا صيام ولا صلاة، ولا حجَّ ولا زكاة. وكأنما خُلقوا عبثاً، وكُلِّفوا شططاً. لا ينزجرون بالوعيد، ولا يكترثون للتهديد، قد ملكت أوقاتهم الغفــلات، وملأت أزمانَهم التُّرهَات، فلا تسبيح ولا استغفار، ولا تأمُّل ولا استحضار. قد نسوا الرحيلَ إلى دار القرار، وتغافلوا عن طول الأسفار، فما أعدوا للسفر عدته، ولا أخذوا للخطر أُهْبَتَه حتى داهمهم الموت بشدَّته، واحتواهم القبر بكرْبته. وجاءتهُمُ الساعةُ أدهى وأمر، وقامت القيامة أعظمَ وأشرَّ. فوُضِعت الموازين، ونُشرت الدواوين، وانكشف المكنون، وبان المضمون، فانْتبه الغافلون، واستيقظ النائمون. فإذا بصحائِفهم محشوةٍ بالخراب، فقيرةً من الحق والصواب، لا ذكر فيها ولا استغفار، وإنما هي الغفلة والاغترار. فأين الأزمانُ التي انقضت، وأين الأوقات التي انتهت. مضى العمر في قيل وقال, وفات الوقت في الغفلة والضلال. شغلتهم مكاسبُ الدنيا الرخيصة، وألْهتهم زخارفُ الحياة الحقيرة، حتى ثقُلَ عليهم القرآن أن يقرأوه، وقصُرَ عنهم الزمان أن يستغفروه. فلا يجد أحدُهُم في يومِهِ ســـــاعة اســــتغفار, ولا لحظةَ تذكر أو اعتبار. وإنما هو اللهث تُجَاه السراب، والجريُ وراءَ الدنيا الخراب، حتى ذهب الزمانُ بلا جدٍ ولا عمل، ومضت الدنيا بلا خوفٍ ولا وجل.
أيها الأخوة الكرام: إنها حسراتُ الغافلين، وآلامُ المفرِّطين، الذين أسرفوا على أنفُسِهم بالمعاصي والمنكرات، وتمادوا في اللهو والمحرمات. حين يقدَم أحدهم يومَ القيامةِ فقيراً من الحسنات، مُثقلاً بالجرائم والسيئات. يتمنى أحدُهم ساعةً ليعود فيها إلى الدنيا، ليُسبِّح ويستغفر، ويتوبَ ويستشــعر. لسانُ حاله يقول : خذِ الدنيا بأجمعها وأعطني تسبيحة، وخذِ الحياةَ بأكملها وأعطني تهليله. لم تعد الدنيا في حسِّه تساوي لحظة ذكر، ولم تعد الحياةُ تعدلُ في نظره برهة فكر. فأين مشاغلُ الدنيا التي شغلتك، وأين ملاهي الحياةِ التي ألْهتك. لم يبقَ معكَ اليومَ منها إلا الحسرات، ولم تجْنِ منها إلا عظيمَ الكُرُبات . فأينَ العقلاءُ، وأصحابُ الفهمِ النبلاء، الذين عمروا حياتَهم بالذكر والدعاء, وملأوا أوقاتهم بالعمل والعطاء، لم تشغلهم الدنيا بزُخرُفها، ولم تُلْهِهِمُ الحياة بزينتها، فأكثروا من الباقيات الصالحات، والكلمات المفضَّلات. طهَّروا بها سرائِرَهم، وحشوْا بها صحائِفَهم، حتى رقَّت منهُمُ القلُوب، ودَمَعَتْ منهم العيون. إذا ذُكِّر أحدُهم بالله تذكر، وإذا وُعِظَ في الله تدبَّر. السكينة عليهم قد علتْ، والبشرى في وجوههم قد بدت. حدائِقُهُم في صدورهم, وبساتينُهم في عيونِهم. لو يعلمُ الملوكُ ما عندهم من السعادة لجالدوهم، ولو يعلمُ الكبراءُ ما عندهم من الأنسِ لنازعُوهم . فهم بذكر الله سعداء، وبحمد ربهم شرفاء. أغنى الأغنياءِ بذكر ربهم، وأفقرُ الفقراءِ إلى عفوِ خالقهم، يذكرون ربهم ويخافون، ويعبدونه ويهابون، فربُّهم لا يتقبَّل إلا من المتقين، ولا يغفر إلا للمهتدين الصادقين. قد أحْيَوا الليلَ بالأذكار, وأداموا النظر والاعتبار. هُمُ الذاكرون الأبرار، المرابطون الأخيار, قد كمُلْت منهم الخصال، وحَسُنَتْ منهم الفِعال. لا يُذكَرونَ بين الناس إلا بالجميل، ولا يجمعون من الدنيا إلا القليل. قد طابت أرواحهم بالذكر، واستنارت عقولهم بالفكر.
أيها الإخوة الكرام: هؤلاء هُم الذاكرون الله كثيراً في زمن الغفلة والنسيان, المنْتبهون في زمن السَّهو والعصيان, قد اختارهم الله لعبادته, ووفَّقَهم لطاعته, هم أهلُهُ وخاصتُهُ, وأصفياؤه وخيرتُهُ. الذاكرون بين الغافلين, المتيقِّظون بين النائمين. لا يخوضون مع الخائضين, ولا يلْهُون مع العابثين. قد حزموا أمرَهم, وضبطوا شأْنَهم. ينتظرون الموت على الهُدى, ويخافون من مصير الردى. إذا بات أحدهم بات على طهارة وذكر, وإذا استيقظ استيقظ على دعاء وشكر. قد يئس الشيطان من إضْلاله, وقَنَطَ من إغوائه, فهو محفوظٌ في ذمة الرحمن, مكْلُوءٌ بعناية الديان.
أيها الإخوة: إلى متى هذه الغفلةُ المستحكمةُ في حياتنا, وإلى متى هذا الإعراضُ الشاملُ في سلوكنا, أما آن الأوان لننزَجر, ونعودَ إلى ربنا وندَّكر. ينشطُ أحدُنا أمام آلاتِ اللهو والعبث, فيقضي أمامها الساعات الطوال, فإذا حانَ وقتُ الذكر والاستغفار: تكاسلَ وانهزم, وتقاعسَ وانخذل. كيف يجتمع أيها الإخوة في قلب المؤمن حُبُّ القرآنِ ومزاميرُ الشيطان, وكيف يُمكنهُ أن يُوفِّق بين صور الخلاعة وأنوار الإيمان, إن هذا لا يمكنُ أن يكون, فإنَّ القلب لا يتَّسعُ إلا لأمرٍ واحدٍ, فإما مرضاةُ الرحمن, وإما ضلالاتُ الشيطان. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـخَاسِرُونَ(.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله المتفرِّد بالكمال, العظيمِ ذي الجلال. أحمده وأستعينه وأستغفره, وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضلُ الذاكرين, وأعظمُ الشاكرين. صلى الله عليه وعلى آله وصحـــبه أجمعـــين أما بعد ... فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابـــه العزيز: ) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (, ويقول أيضاً: ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ(, ويقول أيضاً: ) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْـجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ(, ويقول أيضاً: )الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْر ِاللَّـهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(, ويقول أيضاً: ) وَالذَّاكِرِينَ اللَّـهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَـدَّ اللَّـهُ لَـهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (، ويقول الرسـول صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبرُكم بخير أعمالِكم وأزكَاها عند مليككُم وأرفَعِها لدرجاتِكم وخيرٍ من إنفاق الذهب والورِق, وخيرٍ لكم من أن تلْقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا : بلى، قال: ذكر الله ». ويقول أيضاً: « أكثروا الكلام بذكر الله عز وجل, فإن كثرةَ الكلامِ بغير ذكر الله يقسِّي القلب, وإن أبعدَ الناسِ من الله عزَّ وجل القلبُ القاسي ». ويقول عُبيد بن عُمير رحمه الله: « تسبيحةٌ بحمد الله في صحيفة مؤمن خيرٌ له من جبالِ الدنيا تجري معه ذهباً ». وفي الأثــر قال موسى عليه الســلام: « يا رب كيف لي أن أعلمَ منْ أحببتَ ممن أبغضت ؟ قال: يا موسى إني إذا أحببت عبداً جعلتُ فيه علامتين, قال يا رب وما هما؟ قال أُلهمُهُ ذكري لكي أذكُرَهُ في ملكوت السماوات والأرض, وأعصمُهُ من محارمي وسَخَطي كي لا يحلَّ عليه عذابي ونقمتي، يا موسى وإني إذا أبغضتُ عبداً جعلت فيه علامتين, قال: يا رب وما هما؟ قال: أُنْسيه ذكري وأُخلِّي بينه وبين نفسه لكي يقع في محارمي بسُخْطي فيحلَّ عليه عذابي ونقمتي » .
فاتقوا الله أيها الناس واحرصوا على ذكر الله, فإن السعيد من ألهَمَهُ الله ذكره, وإن التعيس من أنساه الله ذكره فكان موقعَ سخَطِهِ ونقمتهِ.