الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الإيمانية @ 14ـ المؤمن بين الإعتماد على عمله وبين اعتماده على رحمة الله
· لقد درج الصالحون بعد انتهائهم من الأعمال العبادية الكبرى كالحج والصيام والجهاد أن يراجعوا أنفسهم ضمن ثلاث قضايا رئيسة:
· أما القضية الأولى: فهي الرغبة إلى الله في قبول العمل, وعدم ردِّه, فقد اجتهد المسلم في أداء العبادة, وحرصَ على المتابعة وموافقة السنة, واجتهد في محاربة الرياء والسمعة, وعمل على إخلاص العمل لله تعالى.
· فهو مع كلِّ هذا لا يدري أقُبل عملهُ أم لم يُقبل, وهكذا المسلم دائماً في خوف من رد العمل وحبوطه.
· وأما القضية الثانية: فهي شكر الله على التوفيق للعمل الصالح, بحيث يعتقد المسلم أن ما قام به من العمل الصالح إنما هو بفضل الله تعالى وحده, فهو المقدِّر له, وهو الذي أعان عليه, ومن ظنَّ أنه يعمل باجتهاده وقدرته فقد خاب وخسر.
· وأما القضية الثالثة: فهي عدم الاعتماد على العمل, بحيث يشعر المسلم أن أعماله ليست بشيء, فهو دائم الشعور بالتقصير في جنب الله, يحتقر عمله, ويزدري نفسه, ولا يرى نفسه أهلاً لثواب العمل.
· وفي الحديث: » لن ينجِّي أحداً عملُهُ, قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدنيَ اللهُ برحمته «.
· فهذا سيِّدُ الخلق عليه الصلاة والسلام إنما يدخل الجنة برحمة الله وفضله, وليس بالعمل, فإن رحمة الله أوسع وأعظم من الأعمال.
· وأعمال العباد مهما بلغت لا يمكن أن تقابل ثواب الله تعالى في الجنة, فثواب الله أعظم بكثير من أعمال العباد، وإنما أعمال العباد سبب لدخول الجنة وتفاوت درجاتهم فيها, وليست الأعمال مكافئة لثواب الله في الجنة.
· فإن الله تعالى لو عامل عباده بعدله لم يبقَ لأحد حسنة, وإن عاملهم بفضله لم يبقَ لأحد سيئة.
· وفي الخبر أن الله أوحى إلى نبيِّه داود عليه السلام : » يا داود بشِّر المذنبين وأنذر المصَّدقين, فعجب منها داود، وقال : يا رب أبشِّر المذنبين وأنذر المصَّدقين؟ قال : نعم, بشر المذنبين أنه لا يتعاظمني ذنب أغفره, وأنذر المصَّدقين أني لا أضع عدلي وحسابي على عبد إلا هلك «.
· أيها المسلمون : ولو شاء الله أن يعذِّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم, ولو رَحِمَهُم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم.
· ومن هنا ندرك أيها المسلمون أن الفضائل ليست بكثرة الأعمال وإنما بدرجة خُلُوصها لله تعالى ، وسلامتها من شوائب الشرك والرياء, وموافقتها للسنة.
· وفي الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : » سددوا وقاربوا, واغدوا وروحوا, وشيء من الدلجة ، والقصدَ القصدَ تبلغوا «, يعني اجتهدوا في سداد الأعمال والاعتدال فيها, مع شيء من التعبُّد في أول النهار وآخره, وبعض الليل ، مع الاعتدال في كل ذلك يبلغ العبد آماله.
· وفي الحديث: » إن هذا الديـن يُســـر ، ولن يُشـــادَّ الديـنَ أحــدٌ إلا غلبه «, وفي الحديث أيضاً : » إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة «.
· ولهذا لم يبلغ السلف ما بلغوا بكثرة الأعمال وإنما بمتابعتهم وقصدهم, وبأشياء وقرت في قلوبهم.
· فليس العجب فيمن قام بالأعمال الصالحة الكثيرة, وإنما العجب فيمن اقتصد في الأعمال وسبق ا لركب بشيء وقر في قلبه، كحال أبي بكر رضي الله عنه.
· وفي الحديث: » إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم« , ينظر إلى ما وقر في قلوبكم من درجات الصدق والإخلاص, وينظر إلى موافقة أعمالكم للسنة وليس إلى كثرتها.
· أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم: ) تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (.
^ ^ ^
· أيها المسلمون : إن سفر الآخرة يُقطع بسير القلوب, وليس بسير الأبدان, فرب صائم قائم ليس له من جهده إلا الجوع والتعب, وربَّ طاعم نائم قد بلغ أعلى المنازل.
· يقول مطرِّف بن عبد الله: » لأن أبيتَ نائماً, وأُصْبحَ نادماً أحبُ إليَّ من أن أبيت قائماً وأُصْبحَ معْجباً «.
· لقد رتب الله لهذه الأمة خاصة عظيم الأجر على قليل العمل, ما دام العمل خالصاً لله تعالى, فإن من صلى الفجر والعشاء في جماعة فكأنما قام الليل كلَّه, ومن صام ثلاثة أيام من كلِّ شهر فكأنما صام الدهر, والطاعِمُ الشاكر له أجر الصائم الصابر.
· فحريٌ بالمسلم أن يقوم بالفرائض كما أمر الله، ويجتهد في شيء من النوافل في غير ابتداع, ثم يلتفت بعد ذلك إلى إصلاح قلبه.
· بارك الله في عبد كفَّ عن المحرمات والتزم الواجبات, ثم عكف على قلبه يصلح فساده, فهذا خير له من كثير عمل.