الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الإيمانية @ 8ـ المنافقون وخطرهم على الإسلام والمسلمين
الخطبة الأولى:
)تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الـْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(, الحمدُ لله الذي زكَّى بالقرآن القلوب, وأنار به العقول, وأضاء به الدروب, وثبَّتَ به المؤمنين, وقمع به الكافرين, وهتك به سترَ المنافقينَ الفاجرين. أحمده وأستعينه وأستغفره وأتوب إليه, وأسأله من فضله العظيم, وكرمه الجزيل, وعفوهِ الواسع, أن يقيلَ العثرات, ويعفوَ عن الزلات, وأن يُفرِّج الكرُبات, وأن يزيل الهموم الكَدَرَات.
أحمده على ما وضَّح في كتابه من أمرِ المؤمنين, والكافرين, والمنافقين, فقال سبحانه وتعالى في مطلع سورة البقرة في شأن المؤمنين:
) ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْـمـُفْلِحُونَ (.
وقال سبحانه وتعالى في شأن الكافرين:
)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّـهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(.
أما في شأن المنافقين فقال جلَّ وعلا:
) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّـهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّـهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُــوا يَكْذِبُـــونَ * وَإِذَا قِيـلَ لَـهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْـمُفْسِــدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ * اللَّـهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْـهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (.
أيها الإخوة الكرام: إنَّ الله عز وجل, لم يُنزلْ كتابه العزيز, ليكون تمائم في صدور المرضى, ولا تعاويذ في أعناق الصبيان, ولم يُنزلهُ لتُزيَّنَ به المجالسُ والدور, ولم ينزله ليُتْلى في المواسم والحفلات والمآتم. إنما أنزله هدىً للمتقين, ورحمة للمؤمنين, يستضيئون به في سيرهم إلى الله عز وجل, يؤمنون بما جاء فيه من أمر الغيب والرسل, ويتوجهون بعباداتهم وشعائرهم إلى الله سبحانه وتعالى, ولا يبخلون بشيء في سبيل الله, معتقدين بيوم الحساب, ولقاء الله عز وجل, فهؤلاء هُمُ المفلحونَ في ميزان الله العدل.
أما الكافرون, فهم على العكس من ذلك, أُغلقت قلوبُهُم عن سماعِِ الحق, ورغبت عن اتباع الهدى, فاختاروا طريق الضلالة على طريق الهدى, فهم مع كفرهم وضلالهم, لا يخادعون الناس, ولا يواربون, ولا يُكَنُّون, بل يُظهرون صفحتهم للناس, ويُعلنونَ تمرُّدَهُم على منهج الله بكل وضوح, فاختاروا طريق الغواية على طريق الحق, فأراحوا أنفسهم من الكذب والخداع, وأراحوا المؤمنين من عناء البحث والاستقصاء, فهم مستكبرون, ومعاندون, ومجاهرون بالعداء للمؤمنين في غير خداع.
أما الصنفُ الثالثُ, فهم محنةُ المؤمنين, ومصيبةُ المسلمين, مداخلُ الشر, ومنافذُ الشك, لا حقاً اتبعوا, ولا باطلاً اجتنبوا, لا هم أعلنوا إيمانــاً صحيحاً, ولا هم كفروا كفراً صريحاً. فهم مذبْذبون بين الفريقين, لا إلى هؤلاءِ, ولا إلى هؤلاء, هذا الصنف من الناس همُ المنافقون, يقول عليه الصلاة والسلام في وصفِ حالهم: « مثلُ المنافق كمثل الشاة العاثرة (أي الحائرة) بين الغنمين, تعيرُ إلى هذه مرة, وإلى هذه مرة».
إنَّ هذه الصورة الشاذة, التي يصوِِّرها القرآنُ الكريم عن هذه الفئة الخسيسة, نجدها نموذجاً مكرراً في جميع الأجيال البشرية, على مرِّ التاريخ, نجدُ هذا الصنف من الناس, قد استحكم الكفرُ على قلوبهم, وتغلغل الشكُ في صدورهم, وامتلك الوهمُ عقولهم, لكنَّهم لا يجدون في أنفسهم الشجاعة الكافية, لمواجهة أهل الحق بكفرهم الصريح, فيعلنوا عن معتقداتهم بكل وضوح وصراحة, لكنهم اختاروا أسلوب المواربة, والمخاتلة, واختاروا طريق اليرابيع, فيسلكون بأنفسهم أنفاقاً بين صفوف المسلمين, يُنفِّذون من خلالها مخططاتهم الهدامة, ويبثون من خِلالها معتقداتهم الباطلة, ومذاهِبَهمُ الخبيثة, متسترين بدعوى الإيمان, خداعاً وتضليلاً للمؤمنين, )اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّـهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّـهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(, يظنـون أنهم يخدعون المؤمنين, وإنَّما هم في الحقيقة يخدعون أنفسَهُم, فالله عزَّ وجلَّ وليُّ المؤمنين, فاعتبر سبحانه وتعالى خداع المنافقين للمؤمنين: خداعاً له عز وجل, وهذا من عظيم كرمه, ورحمته بالمؤمنين, إذ جعل صفَّهُم صفهُ, وأمرهم أمره, وشأنهم شأنه, يأخذهم سبحانه وتعالى في كنفه, ويجعل عدوَّهم عدوه. فهو سبحانه وتعالى يتولى المعركة بنفسه,فالمؤمنون لا يستطيعون أن يردوا الكيد والمكر بأنفسهم, بل الله عز وجل هو الذي يكيد لهم ويمكر لهم, ) وَيَمْكرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْـمَـاكرِينَ(,)إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُم رُوَيْدًا (.
والعجيبُ في أمرِ المنافقينَ, أنهم – مع شدة فسادهم وضلالهم – يزعمون الإصلاح فيما يقومون به من أعمال الضلال, والكفر, والجرائم, فيصفون قتلهم للشعوب المخالفة لهم: نضالاً, ويصفون نبذهم للشريعة الإسلامية, وإقصاءها عن الحكم: تقدماً, ويصفون الالتزام بالسنة النبوية, والتقيد بالآداب والأخلاق الإسلامية : رجعية, ويصفون دعاة الإسلام من علماء الأمة: بالعملاء, ويسبغون الألقاب الفضفاضة على كل رذيلة وقبيحة يعملونها, وبعد ذلك يزعمون أنهم مصلحون. ) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْـمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (, ) قَاتَلَهُمُ اللَّـهُ أَنَّى يُؤْفَكُون(.
وعلَّةُ القومِ, المستحكِمَةُ فيهم, والتي تسوقهم إلى أعمال الضلال والنفاق: مرضٌ في القلوب, استحكم عليهم, لا يستطيعون الخلاص منه. فلا يرون الحق إلا باطلاً, ولا يرون الميزان إلا مقلوباً, ولا يعرفون من الخير إلا ما أُشربَ من هواهم, ولا يعرفون من الشر إلا ما ضرَّ بمصالحهم, فالحق ما يُحبون, والباطـل ما يكرهون, فلا عقل لهم, ولا ميزان, ولا شرع, ولا حق.
إنَّ هذا المرضَ المستَحكِمَ, وهذا الداء المستشري في قلوبهم لا علاج لـه إلا في جهنم وبئس المصير, حيث النار التي تُزيل الشكوك, وتُذيبُ الرانَ الذي عَلِقَ بالقلوب, حين لا ينفع نفـــساً إيمانُهـــا لم تكـــــن آمنت من قـــبل أو كسبت في إيمانها خيراً, )إِنَّ الْـمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْــفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَـهُمْ نَصِيرًا ( , ) إِنَّ اللَّـهَ جَامِعُ الْـمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً(.
وهذا الصنف من الناس, يُعاملون في الحياة الدنيا بما يظهر من أحوالهم, فإن أظهروا الإسلام, عُومِلوا بالأحكامِ الظاهرةِ, وأما إن أظهروا النفاق, ومالوا على سرح الناس, وسفكوا الدماء, كان واجباً على المسلمين قتالهم. فالخوارجُ الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتالهم وقال: « فأينما لقيتمـــوهم فاقتلوهم, فإنَّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة »، وقال أيضاً: « لئن أدركتُهُم لأقتلنَّهُم قتلَ عاد », وسبب استباحة قتالهم أنهم كانوا يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان, لهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتالهم, علماً بأنهم كانوا يصلون, ويصومون, وكانوا أهل عبادة وتبتل, حتى قال عنهم عليه الصلاة والسلام: «يحقر أحدُكم صلاته مع صلاتهم, وصيامه مع صيامهم, وقراءته مع قراءتهم», ورغم هذا استبيح قتلُهم, وسفكُ دمائهم, وذلك لأنهم استباحوا قتل مخالفيهم من المسلمين. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: « أجمعَ علماءُ الأمَّةِ, على أنَّ كلَّ طائفةٍ من المسلمين امتنعت عن الالتزام بشريعة من شرائع الإسلام, كالصلاة, أو الصيام, أو الزكاة, أو الحج, أو امتنعت عن تحريم الدماء, والخمر, والزنا, وإن كانت مُقرَّةً بحكمها, فإنها تُقاتل على امتناعها, حتى تعود إلى الحق » ، هذا ملخص كلامه رحمه الله, فكيف بمن جمع بين استباحة دماء المسلمين, ونبذ الشريعة الإسلامية جملة وتفصيلاً, ولم يُعرفُ عنهم إقامة صلاة, ولا إيتاء زكاة, ولا تعظيمٌ لحرمات الله, كيف بمن عُلم يقيناً كفرُ مذهبهم, وضلالُ عقيدتهم, إنهم بلا شك أولى بالقتال من الخوارج المذمومين, وأضرُ على الأمة من اليهود والنصارى, وسائر الكفرة الأصليين.
اللهم نعوذ بك من النفاق والشقاق, وسوء الأخلاق, أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين، ورسول رب العالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد ..
فيقول الله عز وجل في كتابه العزيز: )الْـمُنَافِقُونَ وَالْـمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمَـعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّـهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْـمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّـهُ الْـمُنَافِقِينَ وَالْـمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّـهُ وَلَـهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ(, ويقول أيضاً: )وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُـكَ قَوْلُهُ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّـهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْـحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّـهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّـهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَاد(, ويقول الرسول صلي الله عليه وسلم: « يخرج في آخر الزمان، رجالٌ يختِلُون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، وألسنَتُهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب»، ويقول أيضا: « أخوف ما أخافُ على أمتي كُلُّ منافق عليمُ اللسان » ويقول: « إن شر الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هولاء بوجه، وهولاء بوجه » .
أيها المسلمون: إن المؤمنين الذين حباهُمُ الله بهذا القرآن، وجعله فرقاناً يميزون به بين الحق والباطل، واختارهم لحمل رسالته، ونشر هدايته، لم يكونوا ليرتابوا في أمر المنافقين، أو يلتبس عليهم أمرهم، فصفاتهم واضحة، وأفعالهم بيِّنة، وحقيقتهم واضحة في نظر المؤمنين أكثر من وضوح الشمس في وسط النهار، بل النفاقُ في هذا الزمان أوضح بكثير من ذي قبل، يقول حذيفةُ بن اليمان رضي الله تعالى عنهما: « إن النفاق اليوم شرٌ منهم على عهد النبي صلي عليه وسلم، كانوا يومئذ يُسرون، واليوم يجهرون » ،ويقول أيضا: « كان النفاق على عهد النبي صلي الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان » ، وصدق رضي اللـه عنه، فأصبح الكفرُ، في القوانين والدساتير، وفي المنشورات والشعارات، بكل صفاقة وتبجُّح، فأيُ بيان بعد هذا، وأيُ وضوح أكثر من هذا، ) وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّـهُ لَـهُ نُورًا فَمَا لَـهُ مِن نُّورٍ(.
ولا يستغربُ المؤمن: تفانيَ المنافقين في سبيل الدفاع عن مبادئهم الهدامة، والموت في سبيلها، فإن المتوقع من المنافقين في سبيل إخفائهم حقيقة أمرهم أكثرُ من ذلك، فقد كانوا يُصلون مع الرسول صلي الله عليه وسلم في مسجده، ويعظون الناس، ويحجون،بل ويشاركون مع الرسول صلي الله عليه وسلم في المعارك دفاعا عن الإسلام، وهم أكفرُ الناس بالإسلام ، فهؤلاء لا حد لنفاقهم، وقد أشار عليه الصلاة والسلام في الحديث أن المنافق يمكن أن يقاتل في سبيل الله حتى يموت، وهو منافق، فقال عليه الصلاة والسلام: « القتلى ثلاثة، مؤمنٌ جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، إذا لقي العدو قاتل حتى قُتل، فذلك الشـــــهيد الممتحن، في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضُلُه النبيون، إلا بدرجة النبوة، ومؤمنٌ خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، إذا لقي العدو قاتل حتى قتل، قال النبي صلي الله عليه وسلم: فيه مصمصةٌ محت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محَّاءٌ للخطايا، وأُدخل الجنة من أي أبواب الجنة شاء، ومنافقٌ جاهد بنفسه وماله، فإذا لقي العدو قاتل حتى قتل، فذاك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق », نعم إن السيف لا يمحو النفاق، فلا هم سَعِدوا في الدنيا، ولا هم نجوْا في الآخرة، )أُوْلَئِكَ هُمُ الْـخَاسِرُونَ(.
فلا غرابة في تناديهم بالجهاد، وتفانيهم في سبيل العروبة، وزعمهم أنهم يحاربون ويجاهدون الصهيونية والقوى الاستعمارية، وهم في حقيقة أمرهم أذنابُ الاستعمار وأدواته، أليسوا هُمُ الذين نفذوا مخططات الاستعمار، فنحَّوا الشريعة الإسلامية عن الحكم والهيمنة, واستبدلوها بالقوانين الوضعية، ونشروا الإباحية، والخمور، والدعارة في بلاد المسلمين، أليسوا هُمُ الذين يعلنون في دساتيرهم أن الإسلام رجعية لا يصلح للحياة المعاصرة، وبعد ذلك يتبجَّحون بأنهم المجاهدون في سبيل الله، المدافعون عن حقوق الأمة.
أيها الاخوة الكرام: إنه لا مجال لتفسير الأحداث والمواقف، والتصريحات المحيرة التي تصدر عن المنافقين، إلا من خلال معرفة أساليب المنافقين، التي استفاض في بيانها القرآن الكريم والسنة المطهرة، فهي البلسم الشافي، والعلاج الناجع للمشكلات المستعصية.
أيها الناس: إن المؤمن يعيش في هذا الزمان، وسط هذه الأحداث الملاحقة، وفي خضم الحروب الطاحنة، وقد أيس من كل أحد إلا الله، ومن كل شعار إلا الإسلام، ومن كل دستور إلا القرآن، ومن كل طريقة إلا السنة المطهرة. فالبشريةُ في يومها هذا هي أحوج ما تكون إلى البديل الإسلامي، إلى نور الإيمان، إلى إشراقة الروح بمنهج الإسلام، فمن لهذا الدين يعرضه من جديد، غضاً طرياً كما أُنزل، ينفي عنه غلوا الغالين ، وتأويل المبطلين، ويُعيدُ لنا أمجادنا الماضية، يُعيدُ لنا نخوة المعتصم، وشجاعة صلاح الدين، وعزة العز بن عبد الإسلام، وجهاد ابن تيمية، إن الأمل في الله عز وجل، ثم في شباب الإسلام، في شباب الأمة الإسلامية العبَّاد الصالحين، الذين لا يرون للإسلام بديلاً، بعيدين عن التطرف والغلو، قريبين من العدل والإنصاف، الله هو الذي يرعاهم ويحفظهم.
اللهم لا منجى منك إلا إليك، اللهم أنت الغني ونحن الفقراء، وأنت القوي ونحن الضعفاء، وأنت العزيز ونحن الأذلاءُ بين يديك، اللهم نشكو إليك ضعف قوَّتنا، وقلة حيلتنا، وهـواننا على الناس، اللهم أنت ربُّ المســتضعفين، لا تكلنا لأنفسنا فنهلك، ولا إلى أحد من خلقك فنضيع، اللهم إن حالنا لا يخفى عليك، وأمرنا ظاهرٌ بين يديك، لا مخرج لنا إلا إليك، اللهم نشكو إليك ضعف المؤمنين، وجلد المنافقين، وكثرة الأعداء، وقلة النصير.
اللهم أنزل نصرك على من نصروا دينك، وأيدوا شريعتك، وحموا حماك، وأنزل بأسك وسخطك على المنافقين والكافرين، الذين يصدون عن سبيلك ويبغونها عوجاً، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم اهتك ستر المنافقين، وافضح أحوالهم، واكشف عوراتهــم، اللهم لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، ولا تســــلِّط علينا بذنوبنا من لايخافك فينا ولا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وفق ولاة أمورنا إلى كل خير، وأيدهم بالحق يا أرحم الراحمين .
اللهم صل وسلم وبارك على خير البرية أجمعين نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهم عن الصحابة و القرابة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين .
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكرون الله يذكركم واشكروه على نعمه الكثيرة يزدكم، ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون .