الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الإيمانية @ 5ـ مقام التقوى
الخطبة الأولى:
الحمد لله وليِّ المتقين، وخالق الخلق أجمعين. أحمدُهُ وحده لا شريك له في أُلوهيته، ولا ند له في ربوبيته، يُحب المتقين الأبرار، ويبغض الفاجرين الأشرار . رفع منازل الأتقياء الأخيار، ووضع مراتب الفاسقين الأشرار. قضى في كتابه لأهل التقوى بالفلاح، فجعلهم في الدنيا أكرم الناس، فلا يفضلهم أحد إلا بزيادة التقوى ، وجعل لهم بالتقوى من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، حتى مكَّن لهم في الأرض، وفتح لهم من كنوزها، وآتاهم العلم والحكمة، حتى أصبحوا أعز الخلائق أنفُساً، وأنورهم قلوباً، وأطيبهم عيشاً. يستأنسون إذا استوحش الناس، ويأمنون إذا خاف الناس. يزهدون فيما يطمع فيه الطامعون، ويطمعون فيما يزهد فيه الزاهدون. طمعُهم فيما يُقـرِّب من الله تعالى، وزهدهم فيما يباعد عنه سبحانه. لا يأنسون لما يُطرب الناس، فقلوبهم مملوءةٌ بحب الله تعالى. أنْسهم بذكره، فعنده يبثُّون همومهم، وعلى بابه يضعون رحالهم، وعند أعتابه يطلبون حوائجهم. فهو جلَّ جلاله مقصودَهم الأوحد،إليه يرفعون أيديَهم، فهو ملاذُهم عند الكروب، وسندهم عند الخطوب. قد نفضوا أيديَهم من الخلق, فلم يعد في قلوبهم تعلق بغير الله تعالى, صدورهم عامرة بحبه, وألسنتهم تلهج بذكره. قد تركوا محبوباتهم لمحبوبات الله تعالى, وهجروا شهواتهم لمراد الله تعالى, يتلمسون بالتقوى تفريج الكروب, والنجاة من المصائب والخطوب. فبالتقوى تُفتح الأبواب المغلقة, وبها تُقضى الحاجات المعطلة, فكم من فقير أغناه الله بالتقوى, وكم من ذليل أعزه الله بالتقوى, وكم من خائف أمنَّه الله بالتقوى، قال الله تعالى: ) إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ(, وقال: ) وَيُنَجِّي اللَّـهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(, وقال أيضاً: ) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّـهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (, وقال أيضاً: )إِنَّ الْـمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ(.
أيها المسلمون: إن خير ما يتواصى به الصالحون: تقوى الله عز وجل, فهي الزاد للمعاد كما قال الله تعالى: ) وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (. فاتقوا الله عباد الله, وارجو الله تعالى واليوم الآخر, وبادروا آجالكم بالأعمال الصالحة, وابتاعوا ما يبقى لكم في الآخرة بما يزول عنكم في هذه الحياة الدنيا, واستعدوا للموت فقد أظلَّتكم أسبابه, وأعدوا للآخرة فقد جاءتكم أشراطُها. واعلموا أن الدنيا ليست لكم بدار, وإنما الدار الجنة أو النار. فكم درج على هذه الأرض من الخلائق, وكم سلك سُبُلَها من البشر, وكم وطئ أوديتها من الناس, ثم مضوا جميعاً إلى دُورهم عند الله تعالى ، فلم يبقَ منهم إلا الآثار ، فها هي دورُهم شيَّدُوها وبنوْها, فلم يعمروها إلا قليلاً, حتى خرمتهم المنية, فأفلستهم بعد غنى, وأذلتهم بعد عز, وحطَّتهم بعد رفعة. فتقطعت عنهم الأسباب, وعجز عن نفعهم الأصحاب, ويئس منهم الأحباب. فلم يعد لأحدهم إلا زاد التقوى يرد به فواجع الغيب, ويخفِّف به من هول المطلع. فأعدوا أيها المسلمون لمقام بين يدي الله تعالى, قد عَنَت فيه الوجوه للحي القيوم, وخشعت فيه الأصوات, وذلَّ فيه الجبارون, وتضعضع فيه المتكبرون, واستسلم فيه الأولون والآخرون, وقد جمعهم الواحد القهار في مقام واحد ليس لأحد فيه علم, جمعهم بعد طول البلى في القبور, جمعهم للفصل والقضــاء, في يوم آلى الله فيه على نفســـه أن لا يترك أحداً من المكلفين إلا سأله عن عمله في سره وعلانيته, فانظروا عباد الله بأي بدن تقفون, وبأي قول تُجيبون. فأعدوا للسؤال جواباً, وللجواب صواباً، قال الله تعالى: ) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّـهُ الْـمـُـتَّـقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْـمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْـجَنَّـةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(.
أيها الإخوة الكرام: إنَّ التقوى التي وعد الله تعالى أهلها بالفوز والفلاح ليست دعوى يدَّعيها المرء, أو أمنية يرجوها, وإنما هي حقيقة قلبية, وترجمة سلوكية, فهي مشاعر من الخشية يجدها المؤمن في نفسه, تدفعه إلى مرضاة الله تعالى. فظاهرها المحافظة على حدود الله تعالى, وباطنها: صدق النية والإخلاص. فالتقي قائم بأوامر الله تعالى, متجنب لمناهيه ومحرماته, يصون نفسه عما تجب به العقوبة: بفعل المأمور, وترك المحظور. فهو عامل بطاعة الله تعالى على نور من الله, يرجو ثوابه, ويخاف عقابه.
فالتقي أيها الأخوة مُلْجمٌ بلجام الشرع, مربوطٌ بحبل التوحيد, هواه فيما أحب الله تعالى وشرع, وبُغْضه فيما نهى الله عنه وزجر. إذا أصابته السراء شكر, وإذا أصابته الضراء صبر, قلبه عامر بالرضى, ولسانه يفيض بالثناء. لا يفرح من الدنيا إلا بالطاعة, ولا يحزن إلا على المعصية. شره بعيد, وخيره قريب. قد أمِنَهُ الناس على أنفسـهم وأعراضهـــم وأموالهـــم, فلا يصلهــم منه إلا الطيب, ولا يسمعون منه إلا الحسن.
أيها المسلمون: اعلموا أنَّ أدنى مراتبِ التقوى: القيامُ بالفروض والواجبات، واجتناب المناهي والمحرمات, مع إيمان صادق, وعقيدة صحيحة. وأما أعلى مراتبها: فاجتناب المكروهات, والحذر من المُشتبهات, وتوقِّي كثير من فضول المباحات. فإن العبد لا يبلغ مبلغ الأتقياء الأبرار حتى يدعَ ما لا بأس به حذراً مما به البأس. والله عزَّ وجلَّ أَمَرَ عباده المؤمنين بأن يتقوه حق التقوى, وهذه المرتبة العظيمة لا ينالها العبد إلا أن يداوم على طاعة الله تعالى فلا يعصيه, وأن يذكره في كل أحواله فلا ينساه, وأن يشكره على كل نعمة فلا يكفره, وأن يرضى بقضائه فلا يسْخطه.
أيها الإخوة المؤمنون : إنَّ ميادينَ التقوى ليست مقصورة على العبادات, وشيء من المعاملات, وأنواع من السلوكيات؛ بل هي في الحقيقة شعورٌ شاملٌ ينتظم كلَّ مرافق الحياة الدنيا, ويدخل في كلِّ ميادينها ونشاطاتها. بحيث يجدها المؤمن في كل باب من أبـواب الحيــاة, وفي كلِّ جزئيــــة من جزئياتها, حتى إنَّهُ لا تواجهه قضيةٌ من قضايا الحياة, أو عبادة من العبادات, حتى خاطرة من الخواطر: إلا ويجد موقعاً للتقوى, يشعر به في قرارة نفسه. فينفع الله بهذا الوازع النفسي السعداء من عباده, فيوفقهم إلى مسلك التقوى, فلا يخطو أحدهم بقدمه إلا فيما يُرضي الله تعالى, ولا يبطش بيده إلا في سبيل الله, ولا ينظر بعينيه إلا إلى ما أباح الله, ولا يسمع بأذنيه إلا ما يجوز من الحق والخير. فما يزال أحدهم يجاهد في هذه الدروب, ويتصبَّر في هذه المسالك, حتى يكتب الله له رضوانه إلى يوم القيامة.
وأما التُعساءُ الذينَ لا ينتفعونَ بوازع التقوى في نفوسهم, فلا يجدون لها موقعاً في حياتهم, فلا يبالي أحدهم في عباداتـــه: صحيحــــة كانت أو باطلة, ولا يكترث لمعاملاته: مشروعة كانت أو محرمة, إنما همُّه الدنيا, يفرح بعَمَارها, ويحزن لخرابها. فهذا الصنف من الناس لا يبالي الله تعالى به في أي وادٍ هلك, أو في أي دربٍ ضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْـهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, أحمده وأستعينه وأستغفره, وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أما بعد: فاتقوا الله عباد ا لله, واعلموا أنَّ مقام التقوى شامل لجميع المؤمنين, لا يخصُّ فئةً دونَ فئةٍ, فكل فرد مكلَّف في المجتمع عليه أن يتقي الله تعالى قدر استطاعته, فإن الله تعالى لا يكلف عباده فوق طاقاتهم. فليست التقوى خاصة بالأنبياء, أو العلماء, أو الدعاة, أو بمن يُسمَّون بالمتدينين, أو المطاوعة. وإنما التقوى دينٌ يشمل جميع المكلفين, كلاً بحسبه, لا يُستثنى منهم أحد. سواء كان غنياً أو فقيراً, متعلماً أو أمياً, عالماً أو متعلماً, رئيساً أو مرؤوساً. فالكل مطالبٌ بالتقوى, بقدر ما آتاه الله من المعرفة بحدوده, وبقدر ما أقام عليه من حجَّتِهِ في القرآن أو السنة. فليست التقوى مقصورة على أناس دون أناس. فكم من غني فتح الله تعالى عليه كنوز الأرض, وآتاه من الأموال والجاه, ومع ذلك فاق كثيراً من الفقراء في التقوى. وكم من أمِّي لا يعرف القراءة ولا الكتابة, ومع ذلك يحمل في نفسه من آثار التقوى أضعاف ما يحمله كثير من المتعلمين والمثقفين. وكم من مسؤول رفيع المستوى, نال أعلى المناصب, ومع ذلك تعصمه التقوى من المظالم, وتضييع الحقوق. في الوقت الذي تجد فيـــــــه بعض صغار الموظفين لا يبالي أحدهم بواجباته, ولا يكترث لحقوق الناس. بل ربما وجدت الفقير من الناس يحمل في نفسه من معاني البطش والكبر والغرور, ما قد يفوق كثيراً من ظلمة الأغنياء. وربما وجدت في بعض الجهلة من الأميين من الزهو والاستعلاء والفخر ما يفوق المفتون بالعلم ممن حاز أعلى الشهادات، وحصل على كثير من المعارف.
ومن هنا أيها الأخوة ندرك أنَّ التقوى ليست خاصةً بأناس دون آخرين، إنما هي حقيقة مستقرة في قلب المؤمن الصالح, تعكس آثارها الخُلُقية في سلوكه, سواء كان ذلك في عباداته, أو معاملاته, بحيث تشمل التقوى كلَّ تفصيلات حياته, المعلنة منها والخفية, الظاهرة منها والباطنة, فلا يعرف لأعماله إلا قالب التقوى يصبُّها فيه, ويزنها به.
اللهم املأ قلوبنا من خشيتك, واستر عيوبنا برحمتك, واجعل التقوى سبيلنا إلى جنتك.
أكثروا من الصلاة والسلام على أتقى البرية أجمعين, فقد أمركم الله تعالى بذلك: ) إِنَّ اللَّـهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم ارض عن الصحابة والقرابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع هداك طالباً رضاك يا رب العالمين.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكِّها أنت خير من زكاها أنت وليُّها ومولاها.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان, واكشف عنهم كلَّ شدة وكربة, وابدلها رخاء ونعمة برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.