الصفحة الرئيسة @ الخطب المكتوبة @ التربية الإيمانية @ 2ـ معرفة مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
الخطبة الأولى :
الحمدُ لله الذي بعث في الأُميينَ رسولاً منهم, يتلو عليهم آياته ويزكيهم, ويعلمُهُم الكتاب والحكمة, وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. أتمَّ ببعثته النعمة على المؤمنين, وأقام برسالته الحجَّةَ على الكافرين. خلَقَهُ فأحسن خِلْقته, وأدَّبه فأحسن أدبه, حتى كان عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق روحاً وعقلاً, وأقومهم بدناً ورسْماً, وأعلاهم قدْراً وذكراً, وأرفعهم فضلاً ونبلاً, وأشرفهم مجداً وعزاً, وأحسنهم خلْقاً وخُلُقاً, وأصدقهم قولاً وفعلاً, وأصفاهم طوية وقلباً, وأطهرهم نيَّةً وقصداً, وأهداهم طريقاً وهدياً, وأرشدهم سلوكاً ونهجاً, وأسدَّهم مسلكاً ورأياً, وأنبلهم غاية ومقصداً.
اصطفاه اللهُ تعالى نبياً ورسولاً وآدم في طينته, فطهَّر نسبه من سفاح الجاهلية, فاصطفى كِنَانَة من ولد إسماعيل, واصطفى قريشاً من كِنَانة, واصطفى بني هاشم من قريش, ثم اصطفاه من بني هاشم. فاختاره ربه عز وجل من خير بطون العرب, من أعرقها في النسب, وأشرفها في الحسب, وأفصحها في اللسان, وأوضحها في البيان. فهو خيارٌ من خيار.
خرج إلى الدنيا يتيماً فآواه ربُّه إلى كنفه, وهداه من حيرة تعبُّده إلى نور نبوته, وأغناه بفضله عمن سواه, فلم يُحوجه إلى غير جوده. أنزل عليه خير كتبه, وأعظم شرائعه, فختم به النبوات, وأبطل به الشرائع السابقات. ففتح الله به أعيناً عمياً, وأسمع به آذاناً صماً, وهدى به قلوباً غلفاً.
أيَّده بالمعجزات, والآيات الباهرات, والعلامات البينات, حتى شق له القمر, وفجَّر له الماء, وكثَّر له الطعام. فآمن به من آمن ممن أراد الله هدايته فبصَّره بنور نبوته, وجلالة منزلته. وكفر به من كفر ممن أراد الله غوايته فأعماه عن أنوار نبوته, وعظيم منزلته. فأعز الله به المؤمنين, وأذل به الكافرين.
أيَّده اللهُ تعالى بالصحابة الصالحين, من الأنصار والمهاجرين, فعرفوا قدره, وعظموا أمره, فكانوا أعظم الخلق محبة له, وأكثر الناس طاعة له. حتى إن أحدهم لا يجد لنفسه حقاً مع حقه, ولا قولاً مع قوله, ولا رأياً مع رأيه. فهو المقدم والمبجل والمعظم في كل حال, فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله, واعلموا وتيقَّنوا أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وخير الطرق طريقه الأقوم، ) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (، ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ (.
أيها الإخوة الكرام: إنَّ شخصيةَ الرسولِ محمد صلى الله عليه وسلم هي الحقيقةُ الكبرى للإنسانية المستخلفة في الأرض, تستمد الأجيال في كل عصر من هديه نُوراً يُضيءُ لها آفـــاق الحياة. فمازالت سيرتُهُ العطرةُ معيناً لا ينضب, ونهراً لا ينقطع. تحملُ في طياتها للبشرية في كل حين بصائر للعقول, وسكناً للنفوس, وبهجة للأرواح. فما زال العلماء في كل عصر, يغترفون من سيرته, وأخباره ومواقفه: ما يجدد الدين, ويقوي الإيمان, ويبطل الشك. فهو عليه الصلاة والسلام الكمال البشري المطلق, في أسمى وأكمل وأبهى صوره. فإذا جئت إلى وصف خلْقه: عجز عن ذلك الواصفون, وتلعثم عن ذلك الفصحاء المتكلمون, فلم تُسعفهم الكلمات, ولم تغنِ عنهم المعاني والعبارات, حتى قال قائلهم في وصفه: »لو رأيته: رأيت الشمس طالعة«, وقال آخر: »لقد رأيته, فلم أر شيئاً أجمل منه«.
وأما إن جئت تسأل عن شمائله وخُلُقه, وسمْته وطبعه: فمن ذا الذي يُحصي ذلك, أو يُحيطُ به غير من خلَقَه سبحانه وتعالى؛ فقد بلغ النهاية في كل ذلك, وحاز الكمال من كل جانب, ونال المجد من كل باب: حتى بلغ القمة وحده. وكأنما الخُلُق ثوبٌ فُصِّل له, فلا يصلح لغيره.
وأما إن جئت تسأل عن حكمته, وكمال بصيرته, وقوة حنكته في شــؤون الدنيا والديــــن : وجدته الســـيد الذي لا يُبارى, والإمـــام الذي لا يُجارى: أسر القلوب بحكمته, وأخضع الناس لدعوته, حتى عجب من ذلك أعداؤه. فأقام الدين, وأرسى العدل, وأوضح النهج حتى ما طائر يطير في السماء إلا وعلَّم أمته خبراً عنه.
أيها الإخوة الكرام: إنَّ هذه الشخصيةَ النبويةَ العظيمةَ هلك فيها صنفان من الناس: أحدُهُما كافرٌ معاند, أعمى الله بصيرته, فأعرض عن الهدى, ورغب عن التقى فلم يختلف في كفرهم اثنان. وأما الصنف الآخر: فقومٌ أَسَرَتْهُم شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ما عادوا يُميِّزون بين ما يجب لله تعالى من الاعتقاد والعبادة, وما يليق برسول الله صلى الله عليه وسلم من التوقير والإجلال. فخلطوا في الحقوق بين الخالق والمخلوق, حتى نعتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ من صفات الربوبية, وصرفوا له شيئاً من مظاهر العبودية. في صورٍ مختلفةٍ من مظاهرِ الغلوِّ التي لا يرضاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لنفسِهِ, ولا يرضاها له ربُّهُ. فهو عليه الصلاة والسلام لا يعدو أن يكون عبداً من عبيد الله تعالى, إلا أنَّهُ مع ذلك أفضلُ العبيدِ وأعظَمُهُم قدراً عند الله تعالى. كما أنه لا يعدو أن يكون بشراً من البشر إلا أنه مع ذلك أكمل البشر وأجلُّهم عند ربه عز وجل؛ قال الله تعالى: )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ(، ) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّـهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْـخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيــرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُـــــونَ(، ) قُلْ سُــبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (، ) الْـحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي أَنـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَــــابَ وَلَمْ يَجْعَــل لَّهُ عِوَجَا (, ) سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إِلَى الْـمَسْجِدِ الأَقْصَى( ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنَّما أنا بشرٌ مِثْلُكُـــــم ، أذكرُ كما تذكرون وأنسى كما تنسون »، وقال أيضاً : « لا تطروني كما أطرتِ النصارى ابنَ مريمَ, وإنما أنا عبده, فقولوا عبد الله ورسوله »، ولما قال له رجل: « ما شاء اللهُ وشئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني والله عدْلاً, بل ما شــاء الله وحده». ولما جاءه رجل فقال: « يا محمد, يا سيِّدَنا, وابن سيِّدِنا, وخيرنَا, وابنَ خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بقولِكُم, ولا يستهوينَّكُمُ الشيطانُ, أنا محمــد بن عبد الله, عبدُ اللهِ ورسوله, والله ما أُحِبُّ أن ترفعـوني فـوق منزلتي التي أنزلنيَ اللهُ عز وجل »، وهكذا الرسول صلى الله عليه وسلم يضع الحد الفاصل في قوله البليغ المحكم بين الحق والباطل، بين الجفاء والغلو، وبين الإفراط والتفريط.
أقول هذا القول وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيِّدِ الأولينَ والآخِرينَ ، ورسولِ ربِّ العالمين, وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه ، وسلك سبيله إلى يوم الدين ... أما بعد:
فإنَّ محبَّةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من ضروريات الإيمان, ومن مستلزمات العقيدة, كما قال عليه الصلاة والسلام: « فوالذي نفسي بيده لا يؤمنُ أَحَدُكُم حتى أكـونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين ».
وأقلُّ درجاتِ هذه المحبة: تلك المحبة التي تقتضي القبولَ منه باعتباره رسولاً من عند الله تعالى, والتسليم له, وعدم الإعراض عنه, مع الالتزام بالواجبات، وترك المحرمات.
وأما أعلى درجات المحبَّةِ فالشوقُ الشديدُ إلى لقائِهِ, والتطلع إلى رؤيته, مع كمالِ التأسي به في أخلاقهِِِ وشمائِلِهِ, وحسن سمته, وأسلوب حياته, ونصرة دينه, ونشر سنته, والإكثار من الصلاةِ والسلامِ عليه دون ملل, مع التلذذ بذكر أخباره وأحواله في كل حين.
أيها الإخوة الكرام: إنَّ من أعظمِ حقوقِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على أمته بعد الإيمان به وتصديقه: طاعته فيما أمر, واتباعه فيما رسم، فلا يصح التذرع بالمحبة القلبية دون اتباع؛ فإن الله تعالى يقول: ) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا(، ويقول : ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ(، ويقول أيضاً: ) من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ( . ويقول: ) وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا (.
فكيفَ يسوغُ لمن يدَّعي الإيمان بالله, ويُعلن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يكونُ له في باب المتابعة شيءٌ, بل ربما كان له في باب المخالفة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم النصيب الأكبر, والحظ الأوفر، والنبي صلى الله عليه وســلم يقـــول: «كل أمتي يدخلــون الجنَّـةَ إلا من أبي, قالــوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة, ومن عصاني فقد أبى ».
فاتقوا الله عباد الله واعرفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقَّه, وتعرَّفوا على سنته, واتبعوه تهتدوا ، وتفلحوا.
واعلموا أنَّ الله أَمَرَكُم بالصلاة والسلام عليه فقال : )إِنَّ اللَّـهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(. اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, وارض اللهم عن الصحابة والقرابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع هداك طالباً رضاك يا رب العالمين. اللهم أصلح أحوال المسلمين وفرج عنهم، وانصر المجاهدين, وفكَّ أسر المأسورين, واقضِ الدين عن المدينين بفضلك يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.