الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ جريمة المستبدِّين في رفض المبدعين


معلومات
تاريخ الإضافة: 5/1/1435
عدد القراء: 4361
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر محرم 1435هـ

جريمة المستبدِّين في رفض المبدعين

           الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، وخاتم النبيين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد .. فإن عمارة الأرض ، وازدهار الحياة ، لا تتوقَّف على القوى العددية فحسب – رغم أهميَّتها – وإنما تتجاوزها إلى القوى الإبداعية ، التي تعتبر سرَّ الإنجازات الحضارية الكبرى ، ومنطلقها الضروريِّ والأهم في الحياة البشرية .

         وعلى الرغم من الأهمية العددية للقوى البشرية ، إلا أنها تبقى متأخِّرة في المرتبة الثانية ، في مقابل قوى الإبداع العقلي ، وطاقات المواهب الفائقة ، وقدرات الابتكار والتطوير ؛ فإن الحاجة إلى العناصر المبدعة هو الأهم ؛ لأنهم يمثلون قيادات النهضة : الفكرية ، والاقتصادية ، والسياسية ، في حين تنحصر القوى العددية غالباً في مجالات تنفيذ خطط التنمية وتطبيقاتها .

         ولقد أدركت الأمة الإسلامية في زمن عافيتها هذا العنصر المهم في البناء الحضاري ، الذي من شأنه تحرير إرادة الأمة ، وتمكينها من حرية الاختيار ؛ إذ لا بد للحرية من إرادة ماضية ، وقوَّة داعمة ، فإنه لا مكان بين الأمم للإرادات المتردِّدة ، ولا للقوى الخائرة ؛ فإن الأمة التي لا تستند إلى عناصر القوى الحضارية : يصعب عليها أن تملك قرارها .

         والعجب كلُّ العجب في واقع أمة الإسلام المعاصرة ، حين لم تعد تميِّز هذه المعاني الحضاريَّة الضروريَّة ، التي تقف عليها أسباب نهضتها ، وتتأكَّد بها عزَّتها ، وتنال بها حريَّتها ، فإذا بفئة المبدعين ، من موهوبي الأمة وأذكيائها : يأتون في آخر اهتماماتها ، حتى إن الناظر في الواقع العربي والإسلامي ليتعجَّب من حجم الرفض : الاجتماعي ، والاقتصادي ، والسياسي ، الذي ينال المبدعين ، في مجتمعات أنهكها التخلُّف ، وأرهقتها التبعيَّة ، وكأنها في غنى عنهم للخروج من أزماتها الخانقة ، ونكباتها المتلاحقة ، قد استمرأت التكفُّف والسؤال ، ورضيت بالذل والصغار ، حتى غدت خير أمة أخرجت للناس عالة على المجتمع الدولي في حاجاتها الضروريَّة ، ومقوِّمات حياتها الأساسية ، حتى بلغ من انحطاطها أن تعجز عن صناعة طعامها ، وإعداد شرابها ، وحياكة لباسها ، فضلاً عن أن تستقلَّ بما هو فوق ذلك من عناصر التمدُّن الحضاري ، في المراكب والمساكن والمشافي ، وأنواع الصناعات والمنتجات التجارية ، مما يعدُّ القوى الحقيقية في عرف العصر ، التي تُكسب الأمم مكانها ، وتحرر قرارها .

         إن النظم السياسية الاستبدادية لا تسمح للمبدع بالنمو الطبيعي لموهبته ، وفق مسارها الفردي الملائم لشخصيَّته ، إلا ما كان خدمة لتوطيد النظام السياسي ، وضمن حدود نطاقه المأذون فيه ، وهذا من شأنه تعطيل نمو الموهبة ، بتضييق مجالاتها ، وحصر ميادينها ، وربما أغلق المبدع ، وانحبست موهبته في نفسه ؛ لأن الفكرة الإبداعية تتعارض تعارضاً تماماً مع الاتجاه الاستبدادي ؛ إذ إن الحرية – في أسمى صورها – هي الهواء الذي يستنشقه المبدع ، والنسائم التي تحيا بها شخصيَّته ، وبغيرها تتعثر موهبته ، وربما ذبلت واضمحلَّت ، ومهما قدَّم المبدع من العطاء الفكري والعملي في ظلِّ الاستبداد ؛ فإنه لن يبلغ مداه المأمول منه .

        وأما الرفض الاقتصادي ، فهو أداة الاستبداد لخنق المبدعين ، وكبت الموهوبين ، ضمن تكرار الاعتذارات الممجوجة : بشحِّ الموارد ، وضعف الميزانيات ، وكثرة النفقات ، حتى غدت تكاليف المبدعين المسلمين عبئاً ثقيلاً على أوطانهم ، وهمًّا وغمًّا على أنظمتها الاستبدادية ، فكان لابد من الخلاص منهم ، بالتقتير والتحقير ، ثم التنفير ، فإنه لا مكان في مجتمع الاستبداد للمشاغبين ، حتى وإن كانوا مبدعين وموهوبين ، فإن تخلُّف قرن من الزمان ، أهون من عتاب عبقري لحضرة الاستبداد !!  

          وأما الرفض الاجتماعي للمبدعين ، فصورته البشعة تكمن في تمكين السفهاء من الفضلاء ، وتسليط الأغبياء على الأذكياء ، فتعود مقدَّرات الموهوب بيد المعطوب ، وقرارات المبدع بيد المدقع ، فإذا بالأرجاس الأنذال يعلون الناس ، فيتصدَّرون بحديثهم الساذج المجالس ، ويتنادون بآرائهم السمجة في العامة ، وإذا بالشرفاء النبلاء يُؤخَّرون عن المنابر ، ويُدفعون عن المجالس ، وكأن حالهم كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول : ( والذي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ : لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَظْهَرَ الفُحْشُ والبُخْلُ ، ويُخَوَّنَ الأَمِينُ ، ويُؤْتَمَنَ الخَائِنُ ، ويَهْلِكَ الوُعُولُ ، وتَظْهَرَ التَّحُوتُ ، قالوا : يا رسولَ اللهِ وما الوُعُولُ وما التَّحُوتُ ؟ قال : الوُعُولُ : وجُوهُ الناسِ وأَشْرَافُهُمْ ، والتَّحُوتُ : الذينَ كَانُوا تَحْتَ أَقْدَامِ الناسِ لا يُعْلَمُ بِهمْ ) ، فإذا بالاستبداد يظهر من جديد في الواقع الاجتماعي ، ليمكِّن السفهاء ( التَّحوت ) من إدارة الحياة الاجتماعية والثقافية ، ويفسح لهم ساحات واسعة مستباحة للتحرك الأرعن دون أدب ، مما يسمح للسفيه التَّحتي أن يبطش بالمبدعين ، ويُبعد الموهوبين ، حتى خلا المشهد الثقافي إلا منهم ، فلطَّخوه بنتن فهومهم ، وعكَّروه بقبيح سلوكهم ، فما عاد العلم إلا علمهم ، وما عاد الفهم إلا فهمهم ، فمن سلك على غير طريقهم رفضوه ، مهما بلغ من الموهبة والإبداع .

            لقد استطاع التَّحوت أن يكوِّنوا تياراً اجتماعياً عاماً ، في جميع القطاعات المعرفية والثقافية ، والمراكز البحثية والعلمية في الوطن الإسلامي ، حتى طبعوه بطابعهم الهزيل ، فلا مكان للجديَّة العلمية ، إلا فيما لا يتعارض مع الاستبداد وأهدافه القاصرة .

           ثم كان من جرَّاء هذا الضيق والاستبداد نزيف جسد الأمة الإسلامية المنهك بآخر قواها ، وأعظم دعائمها ، وأغلى عناصرها ، فإذا بقوائم من نبلائها ، وطوائف من فضلائها ، وطوابير من أذكيائها ، يودِّعونها مهاجرين إلى بلاد الأحلام ، حيث يستطيعون أن يتنفَّسوا ولو برئات غيرهم ، وأن يعيشوا ولو على موائد الآخرين ، فتخلَّفت الأمة قروناً إلى الوراء بهجرة المبدعين ، وكبت الموهوبين ، كلُّ ذلك إرضاء للاستبداد وأعوانه .

          أما المبدعون الذين بقوا في أوطانهم ، يكابدون مرارة الحرمان ، ويعانون قسوة الطغيان ، فقد انقسموا إلى فئتين ؛ فئة انزوت منبوذة على هامش المشهد الثقافي ، تسير ببطء ، تظهر ساعة ، وتغيب دهراً ، يعرفها المخلصون من أبناء الأمة ، فيلتمسون فيهم من المواهب الفائقة ، والعقول الملهمة ، ما لا يعرفونه في المتصدِّرين الفارغين ، ومع ذلك لا يستطيعون أن يقدِّموا لهم شيئاً يخدمهم ، إلا أن تكون التعازي الحارَّة .

         وأما الفئة الأخرى فقلَّة قليلة ، لم تلقِ سلاحها ، ولم تترك مكانها ، بل ظلت هناك تكابد تيارات الارتزاق ، وتواجه موجات التثبيط ، فتعاند مسارهم ، وتقاوم فسادهم ، فينالها في جهادها ما ينالها ، تنتصر كرَّة ، وتُهزم كرَّات أخرى ، إلا أنها لا تغيب عن ميدان الصراع الثقافي ، ولا تستسلم للمبطلين الانتهازيين ، فهي هناك حاضرة بقوة ، رغم ما يلحقها من الخسائر المادية والمعنوية ، وما ينتابها من الآلام والأحزان النفسية ، فأنصارها ضعفاء قلَّة ، وأعداؤها أقوياء كثرة .

         وهكذا يعيش غالب المبدعين المسلمين ، بين الاستسلام والانقياد للاستبداد ، والتسبيح بحمده ، والعمل على توطيد أركانه ، وبين النأي بالنفس بعيداً عن معترك الصراع والمغالبة ، وإيثار سلامة الذات ، مما قد يلحقها من بطش المستبدِّين ، ولو كان ذلك على حساب مواهبهم ؛ إما بكبتها ولجمها ، وإما ببثها ونشرها خارج الأوطان .                                                       وبين هؤلاء وهؤلاء يحيا المبدعون العصاميُّون في مواقعهم ، في قلب المعركة الفكرية ، وفي بؤرة الصراع العلمي ، على قلَّت أعدادهم ، وضعف إمكاناتهم ، وتمكُّن أعدائهم ، ومع ذلك ينالون ويُنال منهم : (...إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ...) .