الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ التربية الاقتصادية للأبناء
مقال شهر ذي القعدة 1434هـ
التربية الاقتصادية للأطفال
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد .. فإن المسألة الاقتصادية خاصية إنسانية بالدرجة الأولى ، لا دخل للحيوان فيها ؛ فالإنسان هو المعنيُّ بها ، ولهذا يصنَّف علم الاقتصاد ضمن ما يسمَّى بالعلوم الإنسانية .
والجانب الاقتصادي جزء من نظام الإسلام الشامل ، التي يستوعب مناحي الحياة الإنسانية برمَّتها ، وهو فوق ذلك مقصد من مقاصد الشريعة الخمسة ، التي جاءت الشرائع السماوية المباركة لرعايتها والمحافظة عليها ؛ لكونها مطالب إنسانية أوَّلية ، لا يتصوَّر قيام الحياة الكريمة بدونها .
والاقتصاد في اللغة بمعنى القصد ؛ وهو التوسط والاعتدال ، وأما المال الذي يأتي عنصراً أساساً في القضية الاقتصادية ؛ باعتباره أداة الحراك الاقتصادي : فهو كلُّ ما يمكن حيازته والانتفاع به ، كالذهب ، والفضة ، والزروع ، والأعيان المتنوِّعة كالمنازل ، والمراكب ، والأشياء ، ونحوها مما يشكِّل قيمة مالية ، يمكن حيازتها من جهة ، ويمكن أيضاً الانتفاع بها من جهة أخرى .
ورغم أهمية المال في المفهوم الإسلامي ، فهو – مع ذلك – يعدُّ وسيلة لتحقيق المصالح الاقتصادية ، وليس غاية في ذاته ؛ لأن جمع المال في حد ذاته والاستكثار منه ، لا يحقِّق راحة الإنسان التي يطلبها ، ولا يضمن له السعادة التي ينشدها ، وفي الحديث : ( لو كان لابنِ آدمَ واديان من مالٍ لابتغَى ثالثًا ، ولا يملأُ جوفَ ابنِ آدمَ إلا التُّرابُ...) .
وأما المقصود بالتربية الاقتصادية فهي : إعداد المسلم إعداداً محكماً ، يمكِّنه من كسب المال واستثماره وادخاره وإنفاقه ، وفق تعاليم الشرع الحنيف ، بمعنى أن المسألة الاقتصادية ليست مجرَّد أرقام وحسابات وتجارة واستثمار ، بل هي – في الحقيقة قبل كلِّ ذلك – تربية ، يعدُّ فيها الإنسان ليكون عنصراً اقتصاديَّا نافعاً ، ضمن منظومة كاملة من التشريعات الربانية الشاملة لكلِّ جوانب شخصية الإنسان : الإيمانية ، والأخلاقية ، والاجتماعية ، والعقلية ، والنفسية ... فيدخل في هذا المفهوم – بالضرورة – إعداد الأبناء الصغار على مفاهيم التربية الاقتصادية في الإسلام ؛ باعتبارهم عناصر اقتصادية كامنة ، توشك قريباً أن تنطلق للعمل والإنتاج والإبداع ؛ ولهذا لا يجوز في الشرع التذمُّر من النفقة عليهم ، ولا التأفُّف من تكاليف رعايتهم ، فسوف يتولَّون – في القريب – أدوارهم الاقتصادية ، ويحملون أعباء التكاليف الاجتماعية والأسرية ، فيقومون بما قام به آباؤهم من قبل ، كما هي سنة الحياة الإنسانية ، التي فطر الله الناس عليها .
وأبعد من هذا استنكار الشرع الحنيف من التذمُّر باستثقال العناصر البشرية المستهلكة في الظاهر ، التي لا أمل لها في الإنتاج الاقتصادي في مستقبل الحياة ؛ كالمقعدين والعاجزين والمعوَّقين ، ممن يئس المجتمع في احتمال عطائهم الاقتصادي في أيِّ شكل من الأشكال ، فهؤلاء – رغم ما يظهر من حالهم كعناصر مستهلكة فحسب – هم في الحقيقة الإيمانية عناصر بركة اقتصادية ، وعوامل دعم روحي ، لا يجوز إنكاره كحقيقة إيمانية ، ولا يصحُّ استبعاده كحقيقة اقتصادية ، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه ، حين رأوا أن لهم فضلاً على من دونهم من الضعفاء : ( هل تُرْزَقون وتُنْصَرون إلا بضُعَفائِكم ) .
إن البعد الإيماني ضرورة حتميَّة في المسألة الاقتصادية ، والرابطة في غاية القوة بين الإيمان – بكلِّ أبعاده – وباقي جوانب الشخصية الإنسانية ، حين يدخل الإيمان متشعِّباً في كلِّ مفاصل الحياة البشرية وفروعها ، بما فيها الجانب الاقتصادي، فالاقتصاد برمَّته محكوم بإرادتين إلهيَّتين ؛ إرادة كونية قدَّرها الله تعالى ، لا يَدَ للإنسان فيها ، وإنما عليه الإيمان بها ، على ما شاء الله فقضى وقدَّر ، وإرادة أخرى شرعية ، ضمَّنها – سبحانه وتعالى – وحيه المبارك ، الذي أنزله على رسله الكرام ، وألزم المكلَّفين الإيمان بها ، والعمل بمقتضاها ، ورتب عليه ثوابه وعقابه ، فحياة المكلَّفين محكومة في كلِّ تفصيلاتها بالشرع ، ضمن الأحكام التكليفيَّة الخمسة : الواجب ، المستحب ، المباح ، المكروه ، الحرام .
ولما كانت المسألة الاقتصادية على هذا النحو ؛ فإن تربية الطفل على هذه المعاني الربانية في التعامل مع المال أمر ضروري ، فلا يقتصر التوجيه التربوي على الأداء المدرسي وحده ، من جهة التثقيف والتأصيل والتعليم ، بل يتجاوز ذلك إلى المسئولية الأسرية في التدريب على التطبيقات العملية للمفاهيم الاقتصادية النظرية ؛ إذ إن مجرَّد البيان النظري لأية قضية – مهما كانت مهمَّة – دون أن يتبعها تدريب عملي ؛ فإن الجدوى من ذلك ضعيفة ، والأثر منه محدود .
ومما يوضِّح هذا المعنى على سبيل المثال : حديث المنهج المدرسي عن خلق الكرم وفضله ، وما يمكن أن يقوله المعلم الحريص للطلبة من المعاني الجليلة ، وما يعبِّر عنه من الأخبار اللطيفة ، حول مكانة هذا الخلق ، وأهمية التحلي به ، في حين لا يجد الطالب ساحة مناسبة لتطبيق هذا الخلق في مجتمع المدرسة ؛ لكونه سوف يُستغل من زملائه غاية الاستغلال ، فليس للطفل سوى الساحة المنزلية للتدريب على هذا الخلق ؛ لكونها ساحة مخلصة للطفل ، تخلو تماماً من قصد الاستغلال .
ولكن للمتأمل أن ينظر : ماذا لو عملت الأسرة – بقصد أو دون قصد – على هدم ما بنته المدرسة في ذهن الطفل حول جمال خلق الكرم ؛ كأن تمدح عنده سلوك البخل ، أو تؤيِّد استحواذه المفرط على ادخار الممتلكات ، أو تستحسن في نفسه شرهه للنقود ، فما شيَّدته المدرسة في ذهن الطفل من الجهة النظرية ، وقصَّرت في تدريبه عليه من الجهة التطبيقية : تبرَّعت الأسرة بإزالته عملياً من نفس الطفل ، ومحو مفاهيمه من ذهنه ، مع التأسيس الفاسد للخلق القبيح المغاير ، فإن الأخلاق الرديئة ، والسلوك الخاطئ يعالجان بالتدريب على ضدِّهما ، وكذلك الأخلاق الحسنة ، ومسالكها الطيبة : تُزال بالتأكيد على أضَّدادها من القبائح السلوكية .
إن حبَّ التملُّك طبع فطري في النفس الإنسانية ، لا يحتاج إلى مزيد تأصيل ولا تأكيد ، وإنما المطلوب تربوياً هو تهذيب هذا السلوك الفطري ، وضبط مساره الخلقي ، وتوجيهه لما وضع من أجله ، من دفع الإنسان نحو عمارة الأرض وازدهارها، فلا يُتصوَّر أن ينطلق الإنسان في العمارة بجدٍّ ونشاط ، دون أن تدفعه رغبة فطرية قوية نحو حبِّ التملك ، والاستحواذ على المال .
ومما يلاحظ على سلوك الطفل في أول أمره ، أنه لا يميِّز بين ممتلكاته الخاصة وممتلكات الآخرين ، فغالباً ما ينطلق شرهاً للاستحواذ عليها جميعاً دون تفريق ، وهذا يتطلَّب من الوجهة التربوية تعريف الطفل ممتلكاته الخاصة ، وتدريبه على التفريق بينها وبين ممتلكات غيره من الأطفال ، وهذا يبدأ أولاً بتحديد ما يخصُّه من الممتلكات ، وفرزها بدقَّة على حدة ، بطريقة يفهم منها الطفل أنها تخصُّه دون غيره ، مع فرض احترامها على شركائه في المنزل ، وحمايتها من التعدِّي عليها ، وهذا الإجراء من شأنه الإيحاء الواضح للطفل باحترام ممتلكات الآخرين ، تماماً كفرض احترام الآخرين لممتلكاته .
إن شيوع الممتلكات والأمتعة بأنواعها بين الأطفال الصغار ، دون فرز بتحديد نسبتها إلى بعضهم دون بعض ، بقصد إثارة روح المودة فيما بينهم ، وبعث خلق الإيثار في تعاملهم مع بعضهم البعض : قد لا يؤدي إلى هذا الهدف المحمود الذي ينشده المربي ، بل ربما أدَّى إلى ضدِّه ؛ بحيث ينطلق كلُّ واحد منهم ليستحوذ على القدر الأكبر من الممتلكات المشاعة ، فيكون أشرسهم طبعاً أكثرهم متاعاً .
إن قدراً من تدريب الطفل على سلوك الادخار لا يفضي إلى البخل المذموم ، حين يصاحبه تدريب آخر على الإنفاق المحمود ؛ فالطفل قد يدَّخر فلا ينفق مطلقاً ، وقد يسرف فلا يدَّخر أبداً ، وكلاهما مذموم في العرف والدين ، والمطلوب – كما هو منهج الإسلام – التوسُّط بين المذمَّتين : الإفراط والتفريط ، فيتربى الطفل على التفريق بين الإمساك المحمود ، الذي تكون معه النفقة ، وبين والادخار المذموم ، الذي لا تصاحبه نفقة .
لقد تأكَّد اليقين لدى الخبراء الاجتماعيين : أن السعادة شعور مفعم بالثراء ، ينبع من داخل الإنسان ، ولا يأتي من خارجه ، فمهما تكلَّف المجتمع ليبني لإنسان سعادة مبتورة عن داخله لعجز ، ولا يجبر الإنسان - حين يفقد السعادة أو جزءاً منها - مثل القناعة ، المبنية على الإيمان بما قسم الله تعالى للعبد ، فهذا صلب الإيمان بالقضاء والقدر .
لذا لن تكون سعادة الأبناء في كثرة المتغيِّرات المادية التي يحيطهم بها الوالدان ، بقدر ما تكون في بث مفاهيم السعادة الصحيحة في نفوسهم ، وترسيخ معانيها في أذهانهم ، وتربيتهم عملياً عليها ، والوسيلة الأولى لذلك هي القدوة الصالحة في المربين ، حين تتمثل المفاهيم والأفكار التي يتنادون بها في سلوكهم التطبيقي ، بحيث يشعر بها الأطفال بوضوح ، ويلمسونها واقعاً عملياً ، فعندها يسهل عليهم الاقتداء ؛ لأن من طباعهم الفطرية التقليد والمحاكاة ، فهم يدركون بعيونهم أكثر بكثير مما يدركون بعقولهم ؛ لذا فإن سلوك القدوة من أهم وسائل التربية المؤثرة، وكلام المربين – مهما بلغ إتقانه وبلاغته - لن يؤثر في الأبناء حتى يمتزج بأرواح المربين ونفوسهم ، ويكون سلوكاً عملياً ، وواقعاً تطبيقياً يمكن للطفل معاينته بسهولة .