الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ فلسفة التربية الإسلامية بين المثالية والواقعية
مقال شهر رجب 1434هـ
فلسفة التربية الإسلامية بين المثالية والواقعية
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد .. فرغم وضوح المثالية الإسلامية في أعلى وأجلِّ وأكرم صورها في شخص رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، وبقاء سنته شاخصة للعيان ، وبارزة للأنام ، من خلال أقواله الشريفة ، ومسالكه الجليلة ، وإقراراته الحكيمة ، بحيث لا تخفى معالمها على السالكين إلى رب العالمين ، ولا تغيب وقائعها عن المهتدين بنهج سيد المرسلين ، ورغم وضوح النص الإلهي باتخاذه – عليه الصلاة والسلام – قدوة للمؤمنين ، يعتقدون باعتقاده ، ويسلكون على منواله ، ويسيرون على نهجه ، غير أن الواقع الإنساني ، بكل ما يحمله من النقائص والمثالب ، وبكل ما يحيط به من الظروف والأحوال والمواقف : لا يسمح للمثالية العالية أن تبلغ مداها في حسِّ الناشئة ، ولا يتركها لتصل غايتها من نفوسهم ، بحيث تبقى حيَّة في وجدانهم ، يقظة في مشاعرهم ، يحسُّون بها في دواخلهم وهم يعافسون شئون الحياة ، ويتفاعلون مع قضايا المجتمع ، وإنما ينحطُّ الواقع الإنساني بثقله الشديد ، واندفاعه العنيف ، ليزيح المثالية - بكل أبعادها الجميلة- من الفكر والوجدان والمشاعر ، ليحلَّ محلَّها الواقع الهزيل – بكل نواقصه وعيوبه – فلا يجد الناشئ غضاضة في الاستسلام للواقع الإنساني القاصر ، حتى ينحطَّ معه في هبوطه أينما نزل ، وقد فقد معالم المثالية الراقية ، والإحساس بأفضليتها ، فلم يعد يستحضرها في نفسه ، ولا يسترجعها في ذاكرته ، فقد غابت عن وجدانه ، وربما مُحيت منه بالكلية ، فلم يعد لها وقعٌ في حسِّه ، فضلاً عن أن يكون لها أثر في سلوكه .
إن المثالية الإسلامية الشامخة ، بكل أبعادها : الإيمانية ، والروحية ، والخلقية ، والفكرية ، المبثوثة في نصوص الوحي ، والمتجسِّدة في أداء الشخصية النبوية ، هي جزءٌ أصيل من دين الإسلام ، قد دخلت بعمق في جذور المعتقد ، وتشعبت بقوة في أساس السلوك ، فلا يجوز بحال من الأحوال أن تُستبعد من المنهج التربوي ، بحيث تغيب معالمها ، فلا يتبيَّنها الناشئة ، ولا يفهمون حقيقتها ، ولا يصح أن تُقصى عن واقع التفاعل الاجتماعي ، بحيث تصبح شذوذاً سلوكياً منفِّراً .
إن الله تعالى حين فرض على الأمة الشخصية النبوية الجليلة معياراً للعقيدة والسلوك ، ومقياساً وحيداً للأداء الإنساني المثالي : يعلم - سبحانه وتعالى – حجم القصور البشري الذي أحاط الناس ، ولفَّ الجميع بلا استثناء ، ويعلم أيضاً واقع الإخفاق الذي يلازم الطبيعة الإنسانية ، فلا يكاد ينفك عنها ، ومع كلِّ هذا كُلِّفوا جميعاً بهدي محمد صلى الله عليه وسلم في معتقده وفي سلوكه ، مع علم اليقين أنهم لن يبلغوا ما بلغ ، ولن يصلوا إلى ما وصل ؛ فمن تراه من المكلفين يطيق من العمل والفهم ما أطاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهم ؟ ومن تراه يصبر على ما صبر عليه رسول الله عليه وسلم ؟ لقد بلغ محمد صلى الله عليه وسلم القمة البشرية ، في أجل وأعلى مقاماتها ، وتمثَّل العبودية الحقَّة كما أراد له ربه عز وجل ، ومع ذلك هو قدوة الجميع ، بما فيهم المتعثرين ، والساقطين ، والمتهالكين ، ما داموا مسلمين ، فضلاً عن كونه – عليه الصلاة والسلام – قدوة للمؤمنين المتقين ، وللأولياء الصالحين ، فالكل به يقتدي ، سواء بمجرد الاعتقاد بالمثالية النبوية في شخصه الكريم ، مع العجز عن الرقي بالعمل ، أو بالجمع بينهما اعتقاداً ومجاهدة سلوكية ، فقد شمل الله تعالى الجميع من هؤلاء بفضله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .
ولئن كانوا جميعاً – المجتهد والمقصِّر - عاجزين عن مجاراته – عليه الصلاة والسلام - في مجاهداته : العقدية ، والسلوكية ، والتعبدية ؛ فإنهم مع ذلك يحوزون الفضل من جهتين :
الأولى : من جهة التوبة المستلزمة لصدق المجاهدة ، فتعمل على ردم الهوة العظيمة بين الإيمان والنبوة من جهة : (...أعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ ) ، ( المرء مع من أحب ) فتُلحق المؤمنين بالنبيين ، وتعمل أيضاً على ردم الهوة بين الإسلام والإيمان من جهة أخرى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ...) ، فتُلحق المسلمين بالمؤمنين ، فضلاً من الله ونعمة ؛ ولهذا ألزم الجميع بالتوبة النصوح دون استثناء ؛ لتجبر نقصهم ، وترفع قدرهم ، وتعلي شأنهم : (...وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .
والثانية : من جهة الاعتقاد بالمثالية الإسلامية في أعلى وأجلِّ مقاماتها ، حتى وإن لم يبلغوها ولن يبلغوها ؛ لأنهم باعتقادهم بها ، وإذعان قلوبهم وعقولهم بعلوها وجلالها : يحوزون الفضل والثواب ، حتى وإن عجزوا أو قصُروا عن بلوغ مقاماتها ؛ لأن الاعتقاد - في حدِّ ذاته – تكليف ، وهو مقدَّم على العمل ؛ فالاعتقاد بالمثالية وأفضليتها في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض لازم ، وأما القيام بها ، ومكابدة معاناتها ، والمجاهدة في سبيلها ، تأتي مرتبة ثانية في مفهوم التربية الإسلامية ؛ إذ العمل – مهما بلغ إتقانه - يشوبه ما يشوبه من القصور البشري ، والظرف الاجتماعي ؛ لذا يدخله العفو والمسامحة ، أما الاعتقاد فلا سبيل للمسامحة فيه ولا العفو ؛ لأن محله القلب ، ولا سلطان يناله إلا بإرادة صاحبه ؛ فالاعتقاد بوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج ، كلها مقدَّمة على أدائها ، والاعتقاد بسمو الأخلاق الإسلامية وعلو مكانها مقدَّم على التزامها ، في حين لا يُغني العمل عن صاحبه – مهما كان متقناً – ما لم يسبقه اعتقاد صحيح .
إن الأزمة التي تصيب منهج التربية حين يُهمل تربية النشء على الاعتقاد بالمثالية ، باعتبارها الأنموذج الأفضل والأعلى هو فقدان ثواب المعتقد ، وأخطر منه ضياع أصل الإيمان ، حين تعمل التربية على تقديم الواقع على المثالية ، وأرذل منه وأقبح أن تعمل التربية على الحطِّ من المثالية ونكرانها واستبعادها ، في مقابل الرفع من شأن الواقعية بكل عيوبها ونواقصها ، فيتحول الواقع القاصر إلى معيار ، فلا يتنبَّه معه السالك إلى قصوره ، ودنو رتبته ، والله تعالى يهيب بالمؤمنين أن يتَّقوه حقَّ تقاته ، ومن تراه يقدر على ذلك إلا المعصوم عليه الصلاة والسلام ؟ وما ذاك إلا لتبقى المثالية حيَّة في النفوس ، وباب المجاهدة التنافسية مشرعاً للجميع ، يكابدون طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيسيرون على نهجه الذي رسمه لهم ، ولكن أنى لهم أن يسيروا بسرعته ، أو أن يتقنوا إتقانه ؟ ومع ذلك ليس لهم إلا هذا حسب طاقاتهم .
إن المثالية الإسلامية تقتضي الاعتقاد بأن التزام السنة النبوية خير من إهمالها ، والأخذ بالعزيمة خير من الأخذ بالرخصة ، وإنكار المنكر باللسان خير من إنكاره بالقلب ، والعفو عن الإساءة خير من القصاص ، والخروج من الخلاف الفقهي خير من الوقوع فيه ، وصلة القاطع خير من مكافأته ، وصلاة الجماعة خير من صلاة الفرد ، والتزام المرأة حجاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم خير من التزامها ما هو دونه من الستر ، وهكذا تبقى المثالية شاخصة في معتقد المسلم ، ماثلة أمامه في مخيلته وفكره ، ينال بذلك أجر الاعتقاد ، حتى وإن لم يلتزم مقتضاها في سلوكه .
ومن هنا فإن الخطأ الذي يتطرَّق إلى منهج التربية ، ويخرِّب أداءها هو عدم التصريح بالمثالية الإسلامية ، وإهمال التربية عليها بحجة الواقعية ، فيخسر الناشئة أجر المعتقد ، وربما تعرَّضوا لخطر الاعتقاد ببطلان المثالية ، إضافة إلى توريطهم في عواقب قصور الهمم ، وسقوط العزائم ، في زمن لم يعد فيه مكان للضعفاء ولا للمترخِّصين .