معلومات
تاريخ الإضافة: 1/5/1434
عدد القراء: 3985
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر جمادى الأولى 1434هـ

صناعة النفاق


            الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه ، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ، وبعد .. فإن الناس في حكم الله تعالى إما مؤمن وإما كافر ، كما قال جلَّ شأنه : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ...) ، والكفار إما كافر أصلي وإما منافق ، كما قال الله تعالى في مصيرهم : (...إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) .


           ولقد افتتح المولى عز وجل سورة البقرة في صدر المصحف الشريف- باعتبارها بوابة التنزيل المبارك - بذكر خبر المنافقين ، كما توالت أخبارهم ، وتتابعت مواقفهم ، وتجلَّت صفاتهم في العديد من سور القرآن الكريم ، لا سيما في سورة براءة الفاضحة ، التي جلَّت أحوالهم ، وكشفت بواطن أسرارهم ، فما أبقت مستوراً من أمورهم إلا الأسماء ؛ لتبقى كواشف القوم ، ومحكات اختبارهم : أدوات عامة ، ووسائل متاحة للمؤمنين لتعيين أشباههم وأضرابهم من ملاعين الخلق في كل عصر ، تكشف زيفهم ، وتعري حقائقهم ، فلا تخفى أحوالهم عن المسلمين ، ولا يغيب مكرهم عن المؤمنين .


          ولقد بدأ نهج النفاق أول ما بدأ بصانع النفاق الأول : عبد الله بن أبي بن سلول ، حين عزم على إبطان الكفر والتظاهر بالإسلام ، عندما رأى دولة الإسلام تتوجه نحو القوة والتمكين ، ودولة الكفر تتراجع نحو الضعف والتوهين ، فلم يجد بدًّا من التلبُّس برداء الإسلام ظاهراً ، والعمل على صناعة النفاق باطناً ، لا سيما وأن نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبل من الرجل علانيته ، ولا يفتِّش عن سريرته ، مع ما يحمله لأتباعه من اللطف والرحمة واللين .


           وهنا توجه صنَّاع النفاق بقيادة عبد الله بن أبي لإعداد المنافقين ، وتدريب المراوغين ، وتكوين المخادعين ، حتى بلغ بهم التمادي في الباطل إلى تشييد أعظم صروح التوحيد والإخلاص ، ليكونوا في ظل الشرعية الإسلامية ، فلا يرتاب فيهم أحد ؛ فبنوا مسجد الضرار لحرب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فلم يكن النفاق في عصره الأول يتورَّع عن أي مسلك آمن يتخذه ليصل من خلاله إلى أغراضه الخطيرة ، سواء ببناء مسجد ، أو حضور عبادة ، أو مشاركة في جهاد أو قتال .


             وبقي المنافقون - بعضهم من بعض - يتوارثون صناعة النفاق ، جيلاً بعد جيل ، يتواصون بالمنكر ويتناهون عن المعروف ، فيلبسون لكل زمان لبوسه ، ويرتدون لكل عصر رداءه ، فقد تضمهم : مؤسسة رسمية ، أو حكومة متنفِّذة ، أو اتجاه فكري ، أو حزب سياسي ، أو جمعية علمية ، أو إدارة خدمية ، أو مذهب ديني ، فيعملون عملهم من خلال هذه القطاعات الاجتماعية والثقافية والسياسية ، فيصنعون المنافقين في محاضن تربوية خاصة ؛ سرية وعلنية ، حسب قوة تنفُّذهم ، وعمق تمكُّنهم ، فقد يكونون دولة تنتهج التقية وتربي عليها ، ضمن منهجية سياسية وتربوية عامة ، وقد يكونون أفراداً مغمورين مضطهدين ، يستترون بنفاقهم ، لا حول لهم ولا قوة ، وبين هذين مراتب وأحوال أخرى للنفاق ، يتنقَّل فيها بين القوة والضعف ، والظهور والغياب ، وكل هذا مرتبط بحال أهل الإيمان من رسوخ الإيمان أو ضعفه ؛ إذ إن قوة النفاق ونفوذه مرتبطة بضعف الإيمان ، وليس بقوة في ذاته ؛ لأن النفاق حقير ، لا يملك قوة ذاتية ، وإنما يتنفَّذ حال ضعف المؤمنين .


            وإن أحقر أحوال الإنسان وأرذلها على الإطلاق أن يكون منافقاً خالصاً ، وأحقر من ذلك وأرذل أن يكون صانعاً للنفاق ، مولِّداً لمسالكه ، ومنفِّذاً لمناهجه ، ومعدًّا لحمَلته ، فيعمل من خلال سلطة نفوذه على إعداد المنافقين من حمقى الناس ، وبلهاء المجتمع ، ممن قصرت مداركهم عن الفهم الصحيح ، وضعفت نظراتهم عن الرأي السديد ، ممن فقد بصره وبصيرته ، وعمي عن مصالحه ، فيتناوله صنَّاع النفاق غضاً طرياً بين مرحلتي المراهقة والشباب ، قبل أن يقوى عوده ، وتتميز اتجاهاته ، وتتحجَّر طبيعته ، فيشكِّلونه وفق معالم النفاق ومسالكه الحقيرة ، متدرِّجين معه في دركاته السحيقة ، ومنساقين به ضمن دروبه العميقة ، حتى يصلوا به إلى أحطِّ مراتب الإنسان وأقبحها – حسب ما يُتاح لهم ضمن ما كتبه الله عليه من التعاسة والشقاء- فإن صنَّاع النفاق لا يمانعون من سقوط عملائهم في القاع الإنساني السحيق ، ولا يتردَّدون في كبِّهم على وجههم في المستنقع البشري العميق ، من أجل تحقيق أهداف النفاق الخطيرة ، وبلوغ غايته الحقيرة .

 

           ثم إن ألعن ما يمكن أن يصيب الإنسان أن يتشرَّب النفاق ، ضمن منهجية تربوية حقيرة ، تتناوله بالتشكيل ، متدرجة به حتى يغدو النفاق جزءاً من تركيبته الشخصية ، قد مرَد عليه مُرُوداً ، أحاله إلى مرض لازم أصيل ، لا يُشفى منه صاحبه أبداً ، فيبقى ملازماً له حتى نهاية مهلة التكليف : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ) ؛ فإن المنافق الخالص لا يبصر ولا يسمع ، ولا يدرك ولا يفهم ، قد عميت عليه أنوار النبوة ، وصمَّت آذانه عن مواعظ التنزيل ، حتى تخشَّبت حواسُّه ، وقست مشاعره ، فلم تعد الآيات ولا المعجزات تعدِّل شيئاً من اتجاهاته : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) .


              وإن من أعجب ما يُنقل من تلطُّف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالمنافقين ، رجاء إيقاظهم من رقدة النفاق ، وسكرة الحقد : ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر عبد الله بن أبي – قبل أن يُنهى عن ذلك – وقد وُضع في حفرته ، فأمر بإخراجه ، ثم وضعه على ركبتيه ، ونفث عليه من ريقه الشريف ، ثم ألبسه قميصه ، رغم كل ما قال وفعل في حق الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم .


             ومع كل هذا اللطف النبوي ظلَّ النفاق يُتوارث منذ عصر النبوة إلى ما بعده من عقود الزمان الإسلامية ، فلو قدِّر أن ينقطع دابره لكان ذلك في عصر أنوار التنزيل ، ومشارق الرسالة ، ومع ذلك فقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة - رضي الله عنه - نحواً من سبعين منافقاً ، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ، لم ينتفعوا بالرحمة المهداة ، ولا بالنور المبين ، ولا بالهداية الربانية .


            أما وقد مضت النبوة ، وانقطع الوحي ، ورقَّ الدين ، فهيهات أن ينقرض النفاق ، في عصر الكذب والخداع والبرجماتية ، والحرص على المنافع والمصالح ، فلابد أنه اليوم أقوى عوداً ، وأمضى أثراً ، وأشدَّ بأساً ، وأوسع ساحة ، فيا ترى أين النفاق اليوم ؟ وما سيما أهله المعاصرين ؟ وأين تراهم يتجمَّعون ؟ وما مناهجهم التي يعتمدونها في هذا الزمان ؟ وكم هو حجمهم اليوم وقد كانوا سبعين أو أكثر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟


           إن المكذب بالنفاق ، أو المهوِّن من شأنه ، أو المهادن لأهله ، فهو إن لم يكن في ذاته منافقاً خالصاً ، يدفع التهمة عن نفسه ، ويبرئ ساحة حزبه ؛ فإنه في قدْر النفاق يُطبخ ، وفي محضنه ينضج ، وعلى مائدته سوف يُقدَّم ؛ إذ إن الحذر من النفاق ، والبراءة من أهله : نهج المؤمنين ، وسبيل المخلصين ، والتردد والاختلاف في شأنهم مستنكرٌ : (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ...) .


            إن خوف الصالحين من التلبس بالنفاق ، وخشيتهم من الوقوع في شراكه : لا تكفي ولا تُنجي ، حتى يتخذوا النفاق وأهله عدواً لهم : (...هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ...) ، وحتى يكون النفاق ومناهجه وأساليبه وتاريخه وواقعه : معرفة للتربية والتعليم ، ومادة للإعلام والثقافة ، وموضوعاً للخطبة والدرس ؛ بحيث تصبح قضية النفاق – بكل أبعادها وجوانبها - حيَّة يقظة في عقل الأمة ووجدانها ، وما كلُّ هذا الحشد القرآني ، والخبر النبوي إلا من أجل هذا .


             غير أن الواقع الإيماني المعاصر - في أقل أحواله – مهادن للنفاق ، إن لم يكن في الحقيقة مسالماً ومجاملاً له ، والله تعالى يقول : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ...) ، فقد أصبحت مظاهر النفاق السلوكية سمة إنسانية عامة لا تستنكر ، يتعاطاها كثير من الناس في حياتهم الاجتماعية والسياسية والإعلامية بلا نكير ، وربما تناولها بعض الغافلين بالتعليم والتدريب ، ضمن برامج تعليمية وتدريبية موجهة لأهداف : اجتماعية ، واقتصادية ، وسياسية ، تلبس أثواب النفاق ، وتتعاطى  أساليبه .


               إن الحذر من التلبس بالنفاق الأكبر لا يكفي للسلامة والنجاة ، حتى يكون الحذر قائماً من مظاهر النفاق السلوكية ، التي تجتمع على صاحبها فترديه ، مما يتخذه الشيطان مطايا وجسوراً للنفاق الأكبر .