الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ ظاهرة سلوكية غريبة : الإيمو
مقال شهر رجب 1433هـ
ظاهرة سلوكية غريبة : الإيمو
الحمد لله الكريم العظيم، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد ... فإنه لم يعد غريباً في واقعنا المعاصر، بعد الانفتاح الإعلامي اللامضبوط، والتواصل الاجتماعي اللامحدود: أن تظهر من وقت لآخر على بعض شبابنا وفتياتنا مظاهر سلوكية شاذة، وأخلاق اجتماعية ناشزة، تتعارض بقوة مع قيم المجتمع المسلم، وتخالفه في مفاهيمه وتصوراته، وما زال جمع كبير من جيل الشباب المعاصر: سهلَ التلقي، هشَّ المراس، لين الخلق، لا يكاد يردُّ شيئاً مما يُلقى إليه من غرائب السلوك، ونتوءات الخلق، وشذوذات الفكر، في الوقت الذي تتحجَّر فيه قلوبهم، وتتعسَّر فيه أسماعهم، وتتصلب فيه أعصابهم، حين تُلقى إليهم المفاهيم الإسلامية، ويُعرَّفون بالضوابط الشرعية.
لقد استهوى الجديدُ الشباب -أياً كان هذا الجديد- فلم تعد للمفاهيم والتصورات القديمة بريق يستهويهم، حتى بلغ عند بعضهم سقف القبول درجات عالية غير مسبوقة، شملت جانبي الاعتقاد والسلوك، فما من مفهوم يُبث، أو فكرة تُنشر، أو تقليعة تُبتكر: إلا وتجد لها من بعض أبناء المسلمين من يرحب بها ويتقبَّلها، وربما تجاوز ذلك إلى الدعوة إليها، والذود عنها، حتى بلغ الباطل ببعضهم أن يعلن عبادة الشيطان!!
وهذه الظواهر العقدية والسلوكية الكثيرة، على اختلاف معالمها، وتنوع مشاربها: تجمعها جميعاً المخالفة الصريحة لمفاهيم وقيم وتصورات الإسلام، ونظرته الفريدة والخاصة إلى: الإنسان والكون والحياة، مما يشير إلى الغاية الخفية الـمُرادة من وراء نشر وبث هذه الظواهر.
وعلى الرغم من غرابة جملة هذه الظواهر وشذوذها الفكري والسلوكي، إلا أن ظاهرة (الإيمو) بسلوكياتها الصارخة، ومفاهيمها الغامضة، وسعة انتشارها: تحتل – في الوقت الحالي على الأقل- ساحة اجتماعية أرحب، وقطاعاً شبابياً أوسع، وليس ذلك لأفكار رائدة تحملها، ولا لمبادئ سامية تروِّجها، وإنما لحجم التطرف السلوكي الذي تنتهجه، وشذوذ التصورات التي تتبناها، مما يستهوي صغار البالغين، ويشعرهم بالتميز والإنفراد والخصوصية والأهمية، التي يتطلَّع إلى جملتها الجيل المعاصر الجديد، الذي فقد شخصيته، وضاعت أهميته، وضعف مكانه، في ظل المفاهيم الحضارية الجديدة، التي أفرزتها الثورة الصناعية، والتي مدَّت من عمر مرحلة الطفولة – بكل ضعفها وقصورها- إلى ما بعد البلوغ بأكثر من عشر سنوات، يعيش فيها الشاب البالغ حالة الطفل الكبير، قد تعطَّل عن خوض الحياة العملية، وحيل بينه وبين الاستقلال الاجتماعي والأسري، بحجة صغر السن، وضعف الخبرة، وقصور المهارات، فلا هو مقبول في وسط الكبار المكلفين، ولا هو يرضى لنفسه أن يُحسب على الصغار القاصرين، فهو في منزلة غامضة بين المنزلتين، ليس لها موضع مفهوم ضمن المراحل الطبيعية للنمو الإنساني.
والعجيب أن الشرع الحنيف يعتبر البالغ مكلفاً بما كُلِّف به الرجال الكبار، لا فرق بينهما؛ فهو منذ الخامسة عشرة مسئول عن تصرفاته، ومؤاخذ بمقاصده ونيَّاته، ومحاسب قضائياً عن مقترفاته، فهو في نظر الشرع مكلف بالأمانة الكبرى، التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال، وأشفقن منها، ومع ذلك هو في نظر المجتمعات الحضارية الحديثة لا يعدو أن يكون طفلاً كبيراً، لا يصلح للتكاليف الاقتصادية، ولا للمهام الأسرية، ولا للاستقلال الاجتماعي.
هذا الوضع الاجتماعي الجديد، الذي أفرزته طبيعة الحياة الحضارية الحديثة بعد الثورة الصناعية: هيأ الشباب المعطَّل والمحبط لتقبل أيِّ وارد فكري، أو سلوكي، أو حتى عقدي: يعطيه أهمية، أو قيمة، أو مكانة، دون النظر المتعقِّل إلى طبيعة هذا الوارد وخطورته، مادام أنه يشبع حاجته الملحَّة إلى التميُّز الاجتماعي الذي فقده، ويحقق له درجة من الأهمية التي حُرمها، ويسمح له بالتعبير عن ذاته المجروحة.
ولهذا يجد الشباب- المتعطش للمكانة الاجتماعية- في مظاهر(الإيمو) فسحة للتعبير عن رفضهم لهذه الآصار الاجتماعية، والأغلال الاقتصادية، التي تحول دون حقوقهم الفطرية، ومكانتهم الطبيعية، من خلال تبنيهم سلوك التمرد، والتشاؤم، والانطواء، والكآبة، والانتحار، معبرين عن هذه المشاعر السلبية بالملابس الغريبة، والألوان الداكنة، والأصباغ الصارخة، والموسيقى الصاخبة، والأماكن المظلمة، متخذين في ذلك شعارات الحزن بالقلب المكسور، ومشاعر اليأس بالوريد المجروح، وكل هذه المظاهر القانطة لا تعدو أن تكون رسائل نقد للمجتمع المعاصر، صادرة عن شخصية يائسة بائسة محطمة.
وعلى الرغم من غرابة مسالك وأفكار ومفاهيم (الإيمو)، إلا أن الأغرب من ذلك هو أن تجد هذه المسالك الفكرية والسلوكية الشاذة موطئ قدم لدى الشباب العربي المسلم، الذي نشأ – كما هو مفروض- في ظل المفاهيم الإسلامية، وتربى على المعاني الإيمانية، التي لا تتقبل هذه الأفكار، ولا تستسيغ مثل هذه السلوكيات، ويمكن فيما يأتي محاولة حصر الأسباب التي هيئة كثيراً من الشباب لتبني فكرة (الإيمو)، إضافة إلى ما تقدم من توصيف الأزمة وسببها الرئيس:
1) خواء نفسي، وفراغ روحي، لا يجد صاحبه معهما أنساً في العبادة، مع ضعف الصلة بالله تعالى؛ في دعائه، ورجائه، وخشيته، إضافة إلى هشاشة اليقين بالله جل وعلا.
2) اضطراب في المفاهيم الإسلامية، وسطحية شديدة في معرفة الأحكام الشرعية، إضافة إلى تشويش حول دور الإنسان ومسئولياته في الحياة؛ مما أفقد كثيراً من الشباب هويتهم الإسلامية.
3) فراغ يومي وافر، يمتد إلى ساعات طويلة، لاسيما في الإجازات الرسمية والأسبوعية، مما يتيح للشباب فرصاً كثيرة ومتكررة للتجريب والتسلية والمحاولة، وتجاوز الحدود المشروعة.
4) ضعف جاذبية الأسرة الحديثة، وتخلف دورها الأسري، مما أفقدها دورها التربوي، وأضعف مهمتها الرقابية، وأخلَّ بهيبتها في نفوس الجيل الجديد.
5) ضعف القدوة الاجتماعية المؤثرة، وتراجع دور المربين، وهذا دفع الشباب للبحث عن القدوة في المشاهير- أياً كانوا- كما دفع آخرين إلى البحث عن القدوة في الذات؛ بمعنى الزهو بالنفس، والإعجاب بالرأي، وعدم الالتفات إلى الآخرين.
6) وفرة مالية ساعدت الشباب على حرية الاختيار، والشراء، والتزيُّن، والبحث عن الجديد والمثير.
7) دوافع جنسية شهوانية، تدفع نحو الانفلات الخلقي، وتلح على الإشباع من خلال الاحتكاك بالجنس الآخر، أو بأفراد من الجنس نفسه.
8) أزمات وعقد نفسية في سن الطفولة، كالاغتصاب الجنسي، أو العنف الأسري، أو الحرمان العاطفي، أو البؤس الاقتصادي، أخذت هذه الأزمات والعقد تعبر عن نفسها في سلوك اجتماعي شاذ.
وأما الحديث عن الحل، وهو لا شك صعب وعسير، في ظل الظروف الثقافية والاقتصادية والتقنية لمعاصرة، ومع ذلك فليس هو بمستحيل إذا توافر الصدق والجد والعمل، وحفَّ الله الجهود بالتوفيق، ومما يقترح في هذا:
1) بناء حصانة إيمانية وأخلاقية مبكرة، تحفظ المجتمع والشباب خاصة من الوافد الضار؛ بحيث يعد الجيل إعداداً فكرياً متيناً، لا تخلخله التقليعات الجديدة الواردة.
2) التقليل من فترة الطفولة بإدخال الشباب مباشرة إلى حياة الكبار، من خلال العمل المنتج، والزواج المبكر، وتكوين الأسرة.
3) إشراك الشباب في أنشطة المجتمع الثقافية والاجتماعية والخيرية.
4) ضرورة قيام مؤسسات المجتمع: الأسرة، والمدرسة، والمسجد بأدوارها التربوية، ولا تقتصر على مجرد الأداء الرتيب في أقل درجاته.
5) ضرورة إعادة النظر في السياسة الإعلامية العربية، من جهة أهدافها، وأولوياتها، بحيث تنطلق من اهتمامات المجتمع وحاجاته، وتكون لسان الأمة الإسلامية، المعبِّر عن هويتها الدينية، وأخلاقها ، وقيمها، لا أن تكون بوقاً يردد أصداء الآخرين، ويكررهم في الأفكار، والمضامين، والأساليب.