الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ رجال بألوان الطيف
مقال شهر ربيع الأول 1433هـ
رجال بألوان الطيف
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد ... فإن المتأمل في الشخصية الإنسانية ، وما قد يطرأ عليها من التغيرات ، وما ينتابها من مظاهر التشكل ، وما تشتمل عليه أيضاً من قدرات التأقلم ، وما تحويه من طاقات التعايش المجتمعية ، إلى ما يضاف إلى الشخصية الإنسانية من قوى أخرى : نفسية ، وجسمية ، وعقلية- في مجموعها - أهَّلت الإنسان لمركزية الكون ، وسيادة الحياة : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ...) ، فالمتأمل في هذه المعطيات ، والقدرات ، والطاقات الإنسانية ، التي مكَّن الله تعالى البشر منها ، وزودهم بها : لا يستغرب نجاحات الإنسان في تعاطيه مع الحياة ، بكل متغيراتها ، وفي مختلف تشعباتها ، وضمن أنواع ظروفها ؛ فمازال الإنسان صامداً للطبيعة المناخية والجغرافية ، مستعصياً على أسباب الإبادة والانقراض ، وهو كذلك في الحالة الاجتماعية : قوياً أمام ضغوط الحياة ، ثابتاً في وجه الاستبداد والقمع ، يتحمل كل أنواع العنف ، الطبيعي منه والاجتماعي إلى درجة الخيال التي يصعب تصديقها ، فهو على حاله منذ عصور مضت ، وقرون تعاقبت ، وهو كذلك فيما يُستقبل من الدهور ، يقاوم الاضمحلال بكل صوره ، ويصارع الفناء بكل أنواعه ، وينافح التسلط والاستبداد والظلم بكل أشكاله ، فيكون من سلوكه هذا العجب ، وما زال التاريخ الإنساني حافلاً بصراعات الإنسان ومقاوماته في جميع الاتجاهات ، وضمن كل الظروف الطبيعية والاجتماعية المختلفة .
ورغم إشراق هذه الصفحة من التاريخ الإنساني ، واتساع رقعتها في المسار التاريخي ، وشمول ساحتها لقطاعات واسعة من الأجيال البشرية ، إلا أن خيطاً مظلماً من الطبائع الإنسانية ، خطَّ مساره الرديء ضمن أنفاق الحياة الاجتماعية ، وسلك طريقه السري عبر غياهب النفوس البشرية ، ليظهر في واقع الحياة في بعض الأحيان ويخفت ، ويعلو أحياناً وينزل ، قد ارتبط ظهوره وغيابه بدرجة علو شأن الحق وقوته ، أو ضعفه ورقته ؛ فبقدر تمثُّل الحق الخالص في واقع الحياة الاجتماعية ، واتساع ساحته الإنسانية ، وقوة سطوته السلطوية : يضعف مسار هذا الخيط الرديء ، وتضيق عليه سبله ، وربما يختفي إلى درجة الغيبوبة شبه الكاملة ، فتصعب حينئذٍ رؤيته ، فلا يكشفه للعيان- حين تعجز القدرات البشرية عن إدراكه- إلا الوحي المنزَّل : (...مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ...) ؛ فمن كان يظن – قبل نزول القرآن بهذه الحقيقة - أن بين رجال أُحُد من يريد الدنيا ؟
إن هذا الخيط البشري الرديء يتدرَّج في الطبائع البشرية في دركات ، فمنها ما هو مظلم معتم ، لا نور معه ولا بصيص ضياء : (...ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا...) ، وهذا بأردأ أحواله ، ومنها بين بين ، يصفو أحياناً ويتكدَّر أحياناً أخرى ، بحسب ما يرد عليه من موارد الخير أو الشر : (...وقلب تمدُّه مادتان ؛ مادة إيمان ومادة نفاق ، هو لما غلب عليه منهما ) .
هذا الخيط البشري – بكل ما يحويه من ألوان الشخصية- يمثِّل كيانات بشرية فاعلة في الحياة الإنسانية ، ويعبِّر عن شخوص آدمية حيَّة ، لها حضورها الاجتماعي ، وربما لها عطاؤها السياسي ، وربما لها أيضاً نصيبها من الإبداع العلمي والفني والثقافي ، ومع ذلك فهي قبيحة بقبح باطنها ، ورديئة برداءة مقاصدها ، مهما صدر عنها مما قد يُستحسن اجتماعياً ، أو يُقبل فكرياً : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ...) .
وما زالت البشرية في قطاعاتها الواسعة عبر التاريخ الإنساني الطويل : تعاني من هذه الفئة المستخفية وراء أستار الخير والنصح ، لاسيما في طورها القاتم المظلم ، الذي لا خير فيه ، ولا نفع معه : ( لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ...) ؛ فقد عبَّر عنهم كبيرهم في حق مقام النبوة الأعظم : (...لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ...) ، وأغلظ القول في حق الصفوة المختارة : ( سمِّن كلبك يأكلك ) ، فهذه الفئة بأقبح المنازل الإنسانية ، وأسفل الدركات العقابية : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ...) ، وكلمَّا ابتعدت النفوس عن هذا المركز الأسود ، ونأت بذواتها عن معتقداته ومسالكه : صفت نفوسها ، واستنارت قلوبها ، بقدر اجتهادها في ذلك وجهادها ، حتى إنها من شدَّة حذرها من أصحاب القلوب المنكوسة لا تختلط بهم ، ولا تلتفت إليهم ، ولا تلاطفهم : (...لن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ...) ، إلا أن آخرين غفلوا عن مسلك الحذر ، وتهاونوا في الأخذ بالحيطة مع المنكوسين : (...وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ...) ، فلابد أن ينالهم شيء من ريب المنافقين وإرجافهم ، بقدر تقصيرهم في الأخذ بالحذر والحيطة .
وبين هذين الطرفين - المنكوسين والسمَّاعين – رجال آخرون يتلوَّنون بألوان الطيف ، تعرف منهم وتُنكر ، وتقبل منهم وتُعرض ، لا يُعرف لهم وجه واضح ، ولا يستقر لهم رأي بيِّن ، يتلبَّسون لكل مقام لبوسه ، ويتزيَّنون لكل موقف زينته ، لا تعوزهم الأصباغ ، ولا تنقصهم الأشكال ، فقد أعدوا لكل مقام عدته ، وأخذوا لكل موقف أهبته ، ينشدون في كل ذلك سلامتهم الذاتية والمالية .
يتقلَّبون في توجهاتهم بين المصالح الشخصية الضيقة ، والمكاسب الذاتية القاصرة ، فهم دائماً في صفِّ من غلب ، يجاورون الأقوى ، يستظلون بظله ، ويأنسون بعطفه ، يتلمَّسون العطايا ، ويرمقون السلطة ، أجبن الناس عند مظانِّ الخسارة ، وأشجع الناس عند موارد الربح ؛ فالنفع منهم مقطوع الأمل ، والفائدة منهم بعيدة المنال ، إلا ما كان يدرُّ نفعاً مستقبلياً ، أو دعاية شخصية : (... يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ) ، وفي الحديث : ( من سمَّع ، سمَّع الله به ، و من راءى ، راءى الله به ) .
إن أزمة المجتمع مع هذا النوع من الشخصيات المتلونة يكمن في غموض ردود أفعالها في المواقف الاجتماعية المختلفة ؛ ففي الوقت الذي يتوقع منهم المجتمع الحزم الاجتماعي ، أو الاقتصادي ، أو السياسي ، فإذا بهم أسكن الناس بلا حراك ، وأجمد الناس بلا برد ، وكأن ما يجري حولهم ضرب من الوهم لا يخصهم في شيء ، حتى إنهم - من فرط البلادة الحسِّية التي ابتلوا بها - لا يكترثون للنقد الاجتماعي اللاذع الذي يسمعونه ويقرؤونه ، ولا يبالون بما يصفهم به الناس ، من أوصاف يتجنَّب عامة الناس أن يُوصفوا بها .
وأما إن كانت الأخرى ، مما لا يهم المجتمع في شيء ، ولا يناله في مفْصل ، من القضايا الكثيرة التي تمرُّ وتذهب ؛ من مسائل الفكر ، أو الثقافة ونحوهما ، فإذا بهؤلاء المتلوِّنين – على غير ما يُتوقع منهم - ينبرون لها في الميدان ، فيرفعون أصواتهم ، ويطلقون أقلامهم ، وربما أشهروا سيوفهم في معركة لا غالب فيها ولا مغلوب ، حماس كبير ، واجتهاد عريض في غير طائل ، كأنهم بذلك ينادون المجتمع : ( نحن هنا ) !!
كم هي القضايا الفكرية والاجتماعية التي خاض فيها الناس دهراً من الزمان ، وتكلموا حولها ، وارتفعت أصواتهم بالنقاش تارة ، وبالجدال تارة أخرى ، ومع ذلك يبقى رجال الطيف مختبئين بما في نفوسهم من آراء وتوجهات ، لا يفصحون عن رأي ، ولا يتبنَّون اتجاهاً ؟ وربما بلغ الأمر أن يتبرع الناس بتصنيفهم في اتجاه ما ، ويُلبسونهم رأياً معيناً ، وهم – مع كل ذلك – على حالهم ، لا يحدثون حراكاً ، ولا يختارون اتجاهاً ، حتى إذا مالت كفة الميزان الاجتماعي أو السياسي نحو رأي ما ، واتضح لهم موضع الثقل ، وبان لهم مكمن القوة ، وعرفوا اتجاه السلامة : ظهر هؤلاء حينئذٍ كأوضح ما يكون ، وأفصحوا عن آرائهم كأقوى ما يمكن ، مؤيدين للكفة الراجحة ، كأنها آراء سابقة لهم ، لم يعرفوا غيرها قط !!
فإذا رُوجعوا في ذلك ، وعُوتبوا على طول زمن الصمت : أقسموا على صدقهم فيما أعلنوا : ( وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ) ، لقد أضناهم الخوف على ذواتهم وعلى مصالحهم ؛ لذا يلجأون إلى ركن الأمان أياً كان ، حتى وإن كان فيه ازدراء بهم : ( لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ) ، فهم دائماً يترقبون المجتمع من حولهم ، ويتلمَّسون مراكز القوة فيه والضعف ، مستخدمين في ذلك بوصلتهم الخاصة المرهفة ، في تحديد اتجاه السلامة الذاتية .
وأعجب أحوالهم قدرتهم الفائقة على التنكُّر في ألبسة جاهزة متنوعة ، وأزياء مختارة مبتكرة ، ويُلحظ ذلك فيهم حين يتبنَّون بحماسة كبيرة رأي السلطة في مسألة ما ، حين لم يكن لهم في المسألة رأي سابق ، ولا اهتمام ماضٍ ، ومع ذلك يتبرعون بهذا الجهد تبرعاً دون أن يُطلب منهم ، فويل للسلاطين من زخرف هؤلاء ، وويل لهؤلاء من الله .
إن قدرات التشكُّل والمقاومة والصمود التي اتصف بها الإنسان ، منَّة من الخالق سبحانه ، وكانت عدته للبقاء والاستمرار والتطور : لا تبرِّر مسالك النفاق بنوعيه : العقدي ولا العملي ، ولا تسوِّغ للمتلوِّنين من رجال الطيف مسالكهم القبيحة ، بل هي قدرات فطر الله عليها الإنسان ليقاوم بها العوائق ، ويعلو بها عن الدنايا ، ويواجه بها الظروف الاجتماعية والسياسية والطبيعية ، فهو قوي في ذاته بقوة الله ، ماضٍ في الحياة بقدَر الله ، لا ينتكس إلا بضعفه ، ولا يرتكس إلا بخوره ، فالعزيز من أعزه الله ، والذليل من أذله الله : (...وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .