معلومات
تاريخ الإضافة: 1/1/1433
عدد القراء: 5057
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر محرم 1433هـ

التاريخ الهجري

           منذ أن اعتمد المسلمون في العصر الأول تاريخهم الهجري الخاص ، وأجمعوا على العمل به ، والأمة الإسلامية منذ ذلك الحين ارتبطت إيمانياً وروحياً بهذا التوقيت تؤرخ به دون نكير ، وتُعمله في كل أنشطتها الحياتية التي تحتاج إلى توثيق ، وتفتقر إلى ضبط .


          والمشهور في تسمية أول من اتخذ التاريخ الهجري وعينه هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن خلافته ؛ باعتبار أن حدث الهجرة معلم إسلامي عظيم ، وإنجاز إيماني كبير ، غير وجه الدنيا لصالح الإسلام ؛ لذا استحق أن يكون نقطة انطلاق نحو تاريخ خاص بالمسلمين ، لاسيما وأنه لم يكن للمسلمين في تلك الحقبة الزمنية تاريخ خاص بهم ، يوقِّتون به ، ويوثقون به تعاملاتهم .


         ومع أن مسألة التوقيت الهجري مسألة جديدة على المسلمين ، لم يتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم في زمنه ، ومع ذلك فقد حظيت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم حين اقترحها الفاروق رضي الله عنه ، فكان التاريخ الهجري هو المعتمد عند المسلمين منذ ذلك الحين .


          لذا فقد اُعتبر التاريخ الهجري جزء من كيان الأمة ، ووسيلة من وسائل وحدة المسلمين ، ورابط يجمعهم باعتبارهم أمة لها كيانها الخاص ، وخصوصيتها التي تميزها ، وتراثها المستقل ، وحضارتها العريقة ، مع ما يحققه حساب الأشهر القمرية من ضبط بعض العبادات التي ارتبطت به ، إلى جانب ربط المسلمين بالدين الذي كان سبباً للهجرة ، وربطهم أيضاً بشخص صاحب الهجرة محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي كان ومازال محور الاقتداء في مسالك المسلمين ، ومنارة الاهتداء في حياتهم ، فهذه وغيرها معاني إسلامية ، وقيم إيمانية ارتبطت ارتباطاً عضوياً وثيقاً بالتاريخ الهجري .


          ولهذا ارتبط المسلمون روحياً بهذا التاريخ المبارك ، حتى في هذا العصر ، الذي قل فيه الاعتماد عليه ، حتى غدا غريباً في غالب المجتمعات الإسلامية المعاصرة - ومع ذلك - مازال غالب المسلمين يحترمون هذا التوقيت ، ويراعونه في عباداتهم المرتبطة به ، حتى إن بعضهم يتخذونه عيداً يحتفلون به ، ومناسبة إسلامية شريفة يهنئ بعضهم بعضاً بها ، وربما اتخذه الخطباء موضوعاً وعظياً ، يذكرون الناس بالهجرة وأحداثها .


        لذا فقد وقع الخلاف بين بعض العلماء المعاصرين في مشروعية التهنئة بالهجرة النبوية على رأس السنة الهجرية ؛ فمنهم من يرى عدم التهنئة مطلقاً ؛ حيث تعتبرون أن مناسبات التهنئة خاصة بالعيدين فقط : الفطر والأضحى ، ومن العلماء من يرى أن التهنئة من شأن العادات وليست من شأن العبادات ، فأجازوها مطلقاً ، والمسألة في هذا الشأن واسعة .


          ولعل في التهنئة بالعام الهجري الجديد ربطاً للمسلمين بدينهم ، وتذكيراً لهم بأهمية الأشهر القمرية لضبط بعض عباداتهم ، لاسيما المسلمين الذين لا يعتمدون التاريخ الهجري في أوطانهم ، وهو للأسف واقع غالب بلاد المسلمين اليوم ، فقد تتحقق لهم بهذه التهنئة – المختلف في مشروعيتها - مصلحة ما ، إلا أن المهم هو أن يبقى العيدان في قلب المناسبات الإسلامية ، لا تنازعهما أي مناسبة أخرى ؛ لكونهما منصوصاً عليهما في السنة النبوية .


         ومما يعكر على المسلمين المعاصرين حقهم في التوقيت الهجري الخوف من عزل الدول الإسلامية عن دول العالم اقتصادياً وسياسياً ، وهذه حجة قديمة ومتكررة لدعاة إلغاء التاريخ الهجري ؛ يزعمون أن المسلمين إذا اعتمدوا تاريخاً خاصاً بهم انعزلوا عن العالم ، في عصر تشابكت فيه المصالح الدولية ، والناظر في الواقع الإسلامي عبر القرون المتطاولة يجده قد اعتمد التاريخ الهجري ، ومع ذلك لم ينعزل عن العالم : تجارة ، وتفاهماً ، واتفاقيات ، وحروباً أيضاً ، ومع ذلك لم ينقل – في حد علمي – ما يعكر مجالات التواصل الأممي بين المسلمين وغيرهم، ثم ماذا جنى المسلمون المعاصرون من إلغاء التاريخ الهجري واعتماد التاريخ الميلادي مكانه ، سواء في الجانب السياسي أو الاقتصادي غير مزيد من التبعية والوصاية ؛ فإن الواقع الإسلامي المعاصر مؤلم ، لا يحتاج إلى كثير تأمل لاستيعاب ذلك. 


           ولا شك أن اعتماد التاريخ الميلادي في بلاد المسلمين ، في مقابل إلغاء أو إغفال أو إهمال التاريخ الهجري : يعتبر جناية على حق المسلمين في التميز والاستقلال والخصوصية ، إلى جانب ما في هذا الإهمال من الاستخفاف بإجماع المسلمين عبر القرون على هذا التاريخ الشريف ، الذي يعتبر رمزاً للإسلام ، ومعلماً للوحدة ، ونقطة للالتقاء ، ووسيلة للإحياء ، ورابطة للأخوة ، فإن كان لهذه المقاصد سلبية فهي على أعداء الملة ، ممن يغيظهم إحياء نقاط التقاء أمة الإسلام ، وبعث وسائل وحدتها، ممن يسعون – وما زالوا - جاهدين في تفريق الأمة وتمزيقها .  


         أما ما يحكى عن الحاجة المعاصرة إلى موافقة حركة التواصل العالمية ، التي تعتمد التاريخ الميلادي ؛ فإن الشرع لا يمنع من موافقتهم في تاريخهم بقدر الحاجة ، وبما يحقق المصالح المتبادلة ، مع الإبقاء على التاريخ الهجري حياً ، جنباً إلى جنب مع التاريخ الميلادي ، فالمحظور هو التجني على التوقيت الإسلامي حتى يضمحل ، وبالتالي تضمحل معه وبالتدريج بعض عبادات المسلمين وشعائرهم ، التي ارتبطت شرعاً بحساب الأشهر القمرية ، التي يعتمدها التاريخ الهجري .