الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ التربية بالحب
تختصر اللغة العربية كلمة (حب) في حرفين حسب رسمها؛ فإنها في كثير من اللغات تقع في أربعة أحرف أو أكثر، وقد بُنيت في العربية من حرفين قد استوعبا بينهما غالب مخارج الحروف العربية الأخرى؛ فالحاء تصدر من وسط الحلق، والباء من أطراف الشفتين، فاستحوذا على الغالب في البداية والنهاية ، وهي لفظة لها جرسُها الخاص، ورنينُها المميَّز، ومدلُولها النفسي العميق في طبيعة الإنسان.
والحب ليس بشهوة، وإنما هو لغة القلب حين يأنسُ ويفرح بمحبوبه، ويميل إليه مندفعاً نحوه بمادة الحب التي عمرت القلب، ثم فاضت على الجوارح، حتى لا تعمل إلا على وفقها، ولا تسير إلا على نهجها، قد ملك المحبوب على المحب نوازعه، فلا يطلب إلا مرضاتَهُ، ولا يرجو إلا وصالَهُ، يخشى القطيعة، ويخاف الإعراض، قد بلغ منه الحياء من محبوبه مبلغاً عظيماً، حتى كان زادُهُ لحفظ الرأس وما وعى، وحفظ البطن وما حوى، وكان ذكر الفراق على باله حاضراً لا يغيب، والحذر من فتن الدنيا على قلبه شديد، حتى إن التوبة من التوسع في المباح لا تُفارقُهُ، ومشاعر التقصير تُؤرِّقه، قد طابق هواهُ مراد محبوبه، حتى اسْتَعْذَب الصعب ليُرضيه، وسلك الوَعِرَ ليهْديه، حتى إذا أفرغ الوسْع في كفاح الشيطان ونَزَعاتِهِ، وجاهد الهوى ونَزَواتِهِ، وحرَّر القلب ومُراداتهِ: كان الاصطفاء للولاية، وحصل بذلك كريم العطايا، فإذا بالحب يتدفق من منبع الحب من الله الجليل على عبده الذي فنيَ في مرضاته، وألحَّ في مناجاته، فإذا سأله أعطاه، وإذا استعاذه كفاه، وإذا استجاره حماه، قد أسبغ عليه الحبَّ حتى غمره فملك جوارحه، فلا يسمع إلا مَرَاضيه ومَحامده، ولا يُبصر إلا آلاءَهُ ونعمه، فلا يتقدم بخْطوِهِ إلا في محمود، ولا يباشر بيده إلا في مندوب، فإذا به على استقامة خلقية فريدة قد صنعها الحب، الذي اختصر التربية بكل جهودها بين حرفيه، فما يصنعه الحبُّ في لحظة الاصطفاء الرباني من مقامات الأخلاق قد تعجز عنه جهود التربية في دهر طويل، إنه الحب الذي يصنع السلوك.