معلومات
تاريخ الإضافة: 1/7/1432
عدد القراء: 3936
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر رجب 1432هـ

اللاتكفيريون

        الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن قضية تكفير المسلم المعين من القضايا الشرعية الشائكة ، التي تتطلب علماً بضوابط الشريعة في هذا الباب ، وفقهاً بالنصوص الواردة فيها ، مع الإحاطة بمقاصد المتكلم ، ومدلولات أفعاله وألفاظه ، ضمن الواقع الاجتماعي وأعرافه .

       والناس في هذه المسألة كثيراً ما يقعون بين طرفي نقيض ؛ فمنهم من يسارع في التكفير بلا روية ، فيقع فيما حذرت منه الشريعة ونبهت عليه ، كحال الخوارج المارقين ، ومن شابههم من المتهورين ، وقد خصَّ العلماء هذا الصنف المتعجِّل الجريء بمزيد بيان وتوضيح ، ففندوا آراءهم ، وردوا شبههم ، وبينوا وجه الحق في مسلكهم .

           إلا أن الصنف الآخر من الناس ، لم يحظوا بهذا القدر من اهتمام العلماء ، يذهبون بعيداً عن هؤلاء المتهورين ، ويقابلونهم من الطرف الآخر ، ويعاكسونهم في الاتجاه ؛ فلا يرون التكفير ابتداء بأي فعل أو قول مطلقاً ، ويتحرجون منه غاية الحرج ، فلا يكفرون المسلم المعين ، العاقل البالغ ، الذي نشأ بين المسلمين ، وتعلم الدين في مدارسهم ، وتخرج من جامعاتهم : بأي قول صدر منه ، أو فعل قام به متعمداً مختاراً دون إكراه ، مهما كان هذا القول أو الفعل غليظاً وشنيعاً ، حتى يناقشوا صاحبه ، ويقيموا عليه الحجة الواضحة ، فهم متوقفون في شأنه ، فلا يكفرونه ابتداء ، حتى يستبين لهم حقيقة اعتقاده بالمناقشة والحجة ، فإن أبى كفروه حينئذٍ ، فهم لا يكفرون مطلقاً إلا بعد إقامة الحجة ، مهما كان غلظ القول وحجم الفعل ، فلا يكفرون ابتداء من أنكر من عقلاء المسلمين – متعمداً قاصداً مختاراً - وجود الله تعالى ، أو سبه ، أو سب رسُلَه ، استخفافاً بحقوق الله ورسله ، أو أنكر نبوة محمد صلى الله عيه وسلم ،
أو داس المصحف ، أو نجَّسه ، أو زعم بطلان القرآن ، أو أنكر البعث ، أو أبطل
أركان الإسلام ، فلا يُكفَّر هذا الصنف من الناس عندهم حتى تُقام علية الحجة
الكاملة البينة ، ويُفهَّم خطؤه ، ويعرف الصواب ، فهو عندهم مسلم معصوم الدم ،
لا يجوز تكفيره ابتداء قبل مناقشته واستبانة أمره ، فينكح ، وتؤكل ذبيحته ، ويرث ويورث .

      والسؤال الذي يوجه إلى هؤلاء : ما صورة توبة هذا الشخص ؟  فإن قالوا : مجرد الإقلاع والاستغفار فقط ، فإنهم بذلك لا يرون أن هذه الأعمال الغليظة كفر في أصلها، وإنما هي من جنس الكبائر التي لا توجب الكفر بمجرد إتيانها دون استحلال ، فيجوز معها  - لصحة التوبة - الإقلاع والاستغفار ، كوقوع المسلم في الزنا ، أو شرب الخمر ، أو أكل الربا ، أو عقوق الوالدين ونحوها ، وهذا يستلزم اعتقادهم إسلام من ادعى النبوة ، فلا يكفرونه ابتداء حتى يعرفوه خطأه ، ومن المعلوم أن مدعي النبوة بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم هو كاذب بيقين : ظاهراً وباطناً ، فأي حجة تراهم يقيمونها عليه ؟ فقد كفَّر الله المستهزئين بالدين بمجرد استهزائهم قبل مناقشتهم ،
فكيف بما هو أشنع من هذا ، من غليظ القول أو الفعل ؟ وكذلك يلزمهم القــول
بصحة صيام المرتد في نهار رمضان ، حتى تقام عليه الحجة ، وكل هذا مخالف لإجماع المسلمين .

       أما إن قالوا : لا بد لصحة توبته من إعلان الشهادتين مع الإقلاع والاستغفار ، فهنا يلزمهم القول بتكفيره ابتداء قبل مناقشته وإقامة الحجة عليه ، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه المسلمون ، وهو ما تدل عليه الفطرة والبديهة ، وتعرفه العامة من الناس ، فضلاً عن أهل العلم والاختصاص ، فلا يصح التوقف في أمثال هؤلاء ؛ فالحجة عليهم قائمة غير خافية لنشأتهم في بلاد المسلمين ، وإلا كيف يسوغ لمسلم يأكل ذبيحة من يزعم مجاهراً : أنه لا إله والحياة مادة ، أو يسلم ابنته لزوج ينكر البعث ، أو يبطل القرآن ، فكفر هؤلاء وأمثالهم ظاهر تعرفه العامة ، وتكفِّر صاحبه ابتداء ولا تعتذر له ، ولا تقبل منه إلا بالتوبة والشهادة من جديد ، وهذا ما نصَّ عليه العلماء وعرَّفوه بأنه المعلوم من الدين بالضرورة ، فهؤلاء وأمثالهم لابد أن يكونوا كفاراً في الباطن كما هم كفار في الظاهر ، بل ولا يستلزم بالضرورة البحث بمنطق ألسنتهم عن باطن قلوبهم إن صدر عنهم ما لا يحتمل إلا الكفر ؛ فقد أجمع العلماء على أن المتعمد بالنطق بما يوجب الكفر : يكفر ابتداء ، حتى وإن لم يعتقد بما قال ، بل ماذا تراهم يحكمون على من تنصَّر أو تهوَّد من أبناء المسلمين ، هل أمثال هؤلاء كفار ابتداء ، أم لا يزالون مسلمين حتى يناقشوا وتقام عليهم الحجة ؟ فلو أقروا بكفر مبدِّل دينه ؛ فإن منكر الربوبية أعظم كفراً .  

      ولا يستلزم الاعتقاد بتكفير المعين ابتداء بهذه الأعمال والأقوال الغليظة وأمثالها : عدم مناقشته ، والرد عليه ، وتذكيره بقبيح فعله ، وخطر معتقده ، وتخويفه بالله تعالى ، ثم استتابته بعد ذلك ، والتضييق عليه حتى يعود عن باطله ويشهد شهادة الحق ، فإن أبى أقيم عليه الحد ، وهذا كله من شأن الحاكم المسلم وليس من شأن العامة ، وإنما شأن العامة الاعتقاد بكفر هؤلاء ، ممن أتوا بمخالفة ما يعرفونه ويعلمونه يقيناً من دينهم بالضرورة ، فيما يعلمون أن المتجرئ على الكفر يعرفه تماماً ، ولا يخفى على أمثاله ، فلا يخالطونهم ولا يلاطفونهم ، بل يعاملونهم بجفاء وغلظة ، وبما يردعهم عن فسادهم حتى يعودوا إلى الحق ، مع تقديم ما يستطيعون تجاههم من النصح والإرشاد .

      وبهذا يظهر نهج الاعتدال بين الطرفين المذمومين ؛ بين من يسارع في التكفير بغير بينة واضحة ، فلا يميِّز بين المسلم والكافر ، فيقدم على تكفير المسلم المعين بأدنى
شبهة ، وبين من يتوقف فيه مع وضوحه ، متذرِّعاً بضرورة إقامة الحجة أولاً ، فيخلطون المسلمين بغيرهم ، ويدخلون فيهم من ليسوا منهم ، فأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء ، لا يقولون بكفر المعين من المسلمين إلا بعد أن يظهر لهم استيفاء شروط التكفير ، وانتفاء موانعه في حق المعين الذي صدر عنه القول أو الفعل الغليظ ، فيما لا مناص منه ، ولا محيد عنه ، مما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام ، وما وجدوا لأحد من : عذر ، أو شبهة ، أو لبس ، أو تأويل ، أو جهل : امتنعوا
بذلك عن تكفيره ابتداء ، وتوقفوا في شأنه ، حتى يستبين لهم أمره ، وتظهر لهم حقيقة مراده ، لاسيما في المسائل التي قد يدخلها الجهل ، أو تتلبسها الشبهة ،  أما إن صدر
منه ما لا يحتمل إلا الكفر : فإنهم حينئذٍ لا يترددون في تكفيره مباشرة دون إمهال ، فأهل السنة لا يقدمون على أمر ، ولا يمتنعون عنه إلا بعلم لا شك فيه ، فلا يمتنعون عن مطلق التكفير للمعين ابتداء إذا استحقه ، ولا يقدمون عليه إلا بيقين لا ريب
فيه .