الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ مفاهيم في التنمية الاقتصادية
مقال شهر صفر 1432هـ
مفاهيم في التنمية الاقتصادية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، وبعد فإن المقصود بالتنمية في اللغة هو النماء ، وهي الزيادة ، وغالباً ما تستخدم في الجانب الاقتصادي ، رغم أن مفهوم التنمية مفهوم حضاري شامل ، يتجاوز الناحية الاقتصادية إلى جميع جوانب الشخصية الإسلامية : الإيمانية ، والروحية ، والأخلاقية ، والعقلية ... ونحوها ، من المعلوم - في مفهوم الإسلام - أن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تسلم من العيوب والنواقص إلا أن ترافقها تنمية أخرى تشمل الجوانب : إيمانية ، وروحية ، وأخلاقية ، وإلا أصبحت التنمية قاحلة جافة ، مادية متحجرة ، قاسية بغيضة .
لذا فالجانب الإيماني يحوط التنمية الاقتصادية بالأحكام الشرعية التي تضبط مسارها ضمن حد الحلال الذي فرضه الله على عباده : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ... ) ، فالإنسان ما خلق عبثاً ، ولا ترك هملاً ، وإنما هو محكوم بشريعة تقيد نشاطه كله - بما فيها أنشطة التنمية الاقتصادية - بأحكام خمسة : الواجب ، والمستحب ، والمكروه ، والمباح ، والحرام ، فلا يخرج نشاط الإنسان – أياً كان – عن شمول هذه الأحكام .
والجانب الروحي هو الآخر مهم للتنمية الاقتصادية يربطها بالبعد الغيبي في التوكل على الله تعالى ، وفي تلمس البركة منه ، وفي الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره من الله العليم الحكيم ، وهذا البعد يربط التنمية في حسِّ المسلم بالقدرة الإلهية المطلقة ، التي يرجع إليها الأمر كله : المحبوب والمكروه ، فيعصمه من التكلف المفرط ، والحرص الشديد ، والقنوط البائس ، في مقابل : الرضا ، والقناعة ، والاطمئنان : (... ما أصابك لم يكن ليخطئك و ما أخطأك لم يكن ليصيبك...)
وأما الجانب الخلقي فهو زينة التنمية وأدبها وجمالها ، فيه السماحة في البيع والشراء ، والإنصاف وعدم البخس ، وفيه الكرم بالتنازل والمسامحة ، وهذا الجانب وإن لم يحمل الضرورة الحتمية لإنجاز المشروع الاقتصادي ؛ فإنه مع ذلك يحمل وبقوة الضرورة السلوكية ، التي لا يستغني عنها الأسوياء ، الذين ينزعجون بفقدها ، ويتضجرون بغيابها .
ولهذا إذا تجردت التنمية الاقتصادية من كل هذه المعاني : الإيمانية ، والروحية والأخلاقية : تلوثت بالحرام ، وانطبعت بالجفاف ، وتلبست بالخشونة ، وتحولت إلى مارد بطَّاش ، ووحش كاسر يلتهم كل شيء ، فلا يميز ولا ينتقي ، لا يتريث ولا يلتفت إلا لما يحقق مصالحه .
والناحية الاقتصادية في مفهوم الإسلام تأتي مقصداً من مقاصد الشريعة الإسلامية ؛ فالشرع الإسلامي جاء بحفظ المقاصد الخمسة : الدين ، والنفس ، والعقل ، والعرض ، والمال ، فهي بذلك جزء من نظام الإسلام الشامل لكل جوانب الحياة ، الذي تحكمه إرادة الله الكونية بقضائه وقدره ، وتحكمه أيضاً إرادته الشرعية في وحيه المبارك .
ثم إن للتنمية الاقتصادية غايتان ، غاية صغرى أفقية ، وغاية كبرى رأسية ؛ فأما الكبرى فهي الله جل جلاله ، من خلال تحقيق العبودية له سبحانه وتعالى ؛ فإن النشاط الاقتصادي جزء من مهمة الخلافة في الأرض التي كلف الله تعالى بها عباده ، فالتنمية الاقتصادية – ضمن مفهوم الخلافة - تسعى إلى مساعدة الفرد وتيسير شؤونه لتحقيق هدف العبودية لله تعالى ، التي من أجلها وجد الإنسان : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) .
وأما الغاية الصغرى الأفقية فهي الإنسان : كرامته ، ورفاهيته ، وسعادته ، وسلامته ، فلا يصح أن يزاحمه في ذلك أي هدف تنموي آخر ، فهو المقصود الأول بالتسخير الكوني : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ...) ، والإنسان هو أيضاً الأساس في التنمية ، فقد ارتبطت عمارة الأرض بجهده وعطائه ، الذي يأتي ثمرة طبيعية لدوافعه الفطرية ، وملذاته الشهوية ، فهو الغاية والوسيلة في الوقت نفسه ؛ ولهذا لا يصح – تحت أي مسوغ - أن تتجه التنمية ضد مصالح الإنسان ، فتؤذيه ، أو تضر به ، أو تحط من قدره ، أو تستغله كآلة حتى تستهلكه .
بل حتى العناصر المجتمعية التي غلب عليها طابع الاستهلاك ، هي الأخرى عناصر محترمة ، لها تقديرها وفضلها ، بل لها أدوارها الغيبية في التنمية والازدهار ؛ فالأطفال – الذين غلب عليهم طابع الاستهلاك - هم في الحقيقة عناصر مدخرة للتنمية ، تنتظر دورها للمشاركة والإنتاج ، وهم حال صِغَرهم أسباب للنمو والازدهار ؛ فكم أمطرت السماء ، وأنبتت الأرض ، ودفع الله الشر ، رحمةً بهؤلاء الرضع : (... فلولا شباب خشع ، وشيوخ ركع ، وأطفال رضع ، وبهائم رتع : لصب عليكم العذاب صبا ) .
وكذلك الضعفاء ، والمساكين ، والمعتوهين هم أيضاً في مفهوم التنمية عناصر إيجابية منتجة : ( هل ترزقون ، وتنصرون إلا بضعفائكم ؟ ) ، وأبعد من هذا المعاق ، الذي يظهر من حاله الاستهلاك الكبير بصورة مستمرة ، هو الآخر عنصر إنتاج روحي ، يدخل ضمن الضعفاء الذين نرزق وننصر بهم ، ثم هو عنصر مثير للأصحاء حين يرون حاله فيتذكرون نعمة الله عليهم : (... الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ...) ، فكل فئات المجتمع المسلم هم عناصر تنمية وإنتاج بالمفهوم الشامل للتنمية .