الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ تجويع النساء
مقال شهر ذي القعدة 1431هـ
تجويع النساء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، وبعد فإن الناظر في الواقع الاجتماعي السعودي ليهوله حجم التغير الكبير والمتسارع ، الذي لا يكاد يميز ولا يفرق ولا يحدد ، إنما هو الانطلاق غير المحدود في كل اتجاه ، مع فوضى فكرية ، هي الأخرى منطلقة بلا ضوابط ولا حدود ، تطال كل شيء بالنقد ، والمراجعة ، والنقاش .
ولعل أبرز ما يميز هذه الظاهرة السعودية الفريدة موضوع المرأة ، الذي اتخذ رأس الحربة في برنامج التغيير الاجتماعي السعودي ، فالمراجعات الفقهية في الشأن النسوي أخذت حيزاً واسعاً ، أدلى كل حامل قلم فيه بدلوه ، بحثاً ، وترجيحاً ، وإفتاء ، حتى ما عاد لأحد في الشأن الشرعي ميزة يتميز بها عن غيره ، الكل سواسية في ذلك ، ولعل فيما صدر مؤخراً من الأمر الملكي بضبط الفتوى ما يؤكد وجود هذا الانفلات .
ومما يلفت النظر في الشأن السعودي هذا الاندفاع العنيف نحو عمل المرأة ، والسعي في زجها في كل قطاع ، باعتبارها عنصراً تنموياً لا يصح تعطيله ، والعجيب أنها بعينها نفس حجة الاشتراكيين - ممن سبق لنا أن حاربنا أفكارهم وأطروحاتهم قبل عقود قريبة – حين اعتبروا المرأة عنصر إنتاج ، فزجوا بها في كل قطاعات الأعمال ، ثم ما لبثوا طويلاً حتى أوتوا من القواعد ، فتهاوى بنيانهم ، وتداعى من كل جانب ، فخاب ظنهم ، ومضوا إلى مزبلة التاريخ حيث يجب أن يكونوا ، وهو مصير كل من يتنكب الفطرة السوية ، من كل مدَّع يتنادى بالإصلاح ، أو الوطنية ، أو التغيير على غير هدى من الشرع الحنيف .
لقد أفرط بعض أبناء قومنا في حماسهم نحو عمل المرأة بحجة عوزها وفقرها وحاجتها ، يخيرونها بين الجوع ، أو الخروج إلى العمل أياً كان ، مسبغين على توجههم هذا غطاءً شرعياً موهوماً ، متناسين إكرام الشريعة للمرأة الحرة ، والترفع بها عما قد يشينها أو يضر بها ، من خلال كفالتها بما يغنيها ويحميها ، فهي غير مسئولة شرعاً عن نفقة نفسها أو غيرها إلا في أضيق الحدود ، فكيف يسوغ تكليفها إخراج الأمة من أزماتها الاقتصادية والمالية التي عجز عن حمل أعبائها الرجال ، لا سيما وأن المرأة لم تكن سبباً في صناعة هذه الأزمات ، إنما هي من صنع المفرطين أصحاب القرار ، ثم هم بعد ذلك يريدون من المرأة أن تصلح ما أفسدوه .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يريد كثير من رجال المجتمع التخلص من أعباء المرأة ، ومسئولية النفقة عليها ، من خلال إقناعها بالعمل لنفسها ، واستخدام السلطة الإدارية في الإلقاء بها في أكناف القطاع الخاص ، وإلزامه بإحلالها محل العمالة الوافدة الرخيصة ، بحجة الإسهام في التنمية ، وهو إجراء - في الحقيقة - لا يعدو أن يكون تفلتاً من أعباء المسئولية الاجتماعية تجاه المرأة .
والعجيب أن المؤامرة انطلت على المرأة المسكينة ، فاقتنعت أنها مسئولة عن نفقة نفسها ، وأنها لا تختلف عن الرجل في واجب الكسب والإنفاق ، وأخذت وسائل الإعلام - من خلال الأقلام المشبوهة والأصوات الكاذبة – تغشُّها ، وتزين لها الخطأ ، وتشوه لها الصواب ، فتصفق لها حين تعمل خادمة في مستشفى ، أو كاشيرة في متجر ، أو حارسة أمن في منشأة عامة ، حتى إن إحداهن - وقد حملت شهادة البكالوريوس - تصرح بسعادتها كونها حارسة أمن في منشأة عامة ، تخدم – حسب زعمها – وطنها ، وتسهم في تنميته ، وتحقق ذاتها من خلال وظيفتها هذه ، وتعلن للمجتمع السعودي أن حراسة أمن المنشآت العامة ليست حكراً على الرجال !!
ولهذا بدأت المرأة السعودية – بعد أن تشبعت بها الوظائف المناسبة – ترضخ أمام الأمر الواقع لوظائف وأعمال عامة لا تليق بها ، تحت ضغط الحاجة ، تواجه أزماتها بنفسها ، وتكابد الكسب بيدها ، ثم تقنع نفسها بأنها تعمل في صواب ، وتكذب على ذاتها بأنها سعيدة وراضية بواقعها ، فما أسعد المقصرين في حق المرأة بهذه القناعة منها ، وما أهنأهم بتنازلها لهم عن حقوقها الشرعية ، في مقابل الثناء عليها في وسائل الإعلام المنحازة ، والنفخ في روعها بأنها المرأة المثالية .
ولا يختلف اثنان في أن الأعمال المهنية على مراتب ، منها ما هو رفيع يتطلع إليه الناس ويرغبون فيه ، ومنها ما هو وضيع لا يرغب فيه الناس ، وإنما يرضون به عند الاضطرار ، فإذا وجدوا فرصة مهنية أفضل تحولوا إليها ، وهذه الأعمال الرفيعة منها والوضيعة تدخل في عموم فرض الكفاية ، بحيث يجب أن يتوافر للمجتمع من يقوم بها ويشغلها ، وتحصل بهم الكفاية ، وهي مما وزعه الله بحكمته بين الناس ، حسب ما زودهم به من المواهب والقدرات ؛ إذ لا بد من رجال في الحياة العامة يقومون بهذه الخدمات ، كما لا بد من نساء في الوسط النسائي يقمن بهذه الخدمات أيضاً ، ولكن الإشكال ليس في أصل العمل أو المهنة التي يقوم بها الشخص ذكراً كان أو أنثى ، وإنما الإشكال يكمن في تخصيص هذه الأعمال المهنية غير المرغوب فيها للنساء وحدهن ، يقمن بها في الحياة العامة ؛ فهن اليوم الأغلبية العظمى في المهن الخدمية ، التي تبتذل فيها شخصية المرأة في الوسط الاجتماعي العام ، بحيث يشغلن ما بين 97% - 100% من هذه المهن حسب إحصائيات الأمم المتحدة ، التي استنكرت بدورها هذا التخصيص ، واعتبرته نوعاً من التمييز العالمي ضد المرأة ، والذي يخشى منه على المرأة السعودية أن تتدرج في المهن بصورة تنازلية – كما هو الواقع – فتدخل فيما يشينها من الخدمات الفندقية ، والمطاعم ، والمكاتب ونحوها ، فتبتذل كما هو واقع المرأة في غالب دول العالم ، ومن سار على نهج غيره : وصل إلى ما وصلوا إليه .
والأصل في المرأة المسلمة أنها مكفولة بأسرتها ، وزوجها ، وولدها ثم المجتمع والدولة ، فإذا قصر هؤلاء في القيام بحقها في الحياة الكريمة ، وألجئوها لعمل لا يناسبها في الحياة العامة ، فلها حينئذ – تحت ظرف الاضطرار - أن تعمل ولو في وسط الرجال ، وتدفع عن نفسها الضرر الأكبر ، وتجتهد في حفظ نفسها وكرامتها حين يحاول الرجل أن يستذلها أو يتحرش بها ، ومثل هذا الفهم بديهي ، يعرفه كل عاقل بفطرته ، ولا يحتاج إلى كثير تأمل ؛ فإن الضرورات تبيح المحظورات ، ولكن المشكلة أن يصبح حكم الضرورة هو الأصل ، فلا يفرق بين عمل المعلمة المربية ، وأستاذة الجامعة في تدريس الطالبات ، وبين خادمة في فندق ، أو مضيفة في طائرة ، أو كاشيرة في متجر ، أو ممرضة في مستشفى تقوم على الرجال في غير اضطرار ؛ بحيث تخصص هذه المهن للنساء وحدهن ، في الوقت الذي يترفع فيه كثير من الرجال عن مثلها .
وقصص ابتذال بعض المرضى للممرضات كثيرة ، لا سيما في المستشفيات الخاصة ، فلا تستطيع المسكينة منهن أن تدفع عن نفسها عباراتهم الغرامية ، ولمساتهم التحرشية لضعف مكانتها ، وخوفها على وظيفتها التي اضطرت لها ، حتى إن أحدهم ألفَّ كتاباً كاملاً في وصف غرامه وهيامه بالممرضات والمضيفات ، يحكي فيه مغامراته الصبيانية .
وأذكر أني دخلت إحدى المستشفيات المشهورة ، فرابني مشهد امرأة عاملة سعودية من أصول إفريقية ، قد تجاوزت الخمسين من عمرها ، تدير حركة الزوار عند أحد المصاعد ، وقد بدت متبرجة تبرجاً كاملاً ، مع إفراط شديد في حجم المساحيق التي علت وجهها ، فتلطفت بها منكراً عليها حالها الذي ظهرت به ، فانطلقت تتحدث عن اضطرارها لهذا العمل ، وتدعو بحرقة على صاحب المستشفى ، وتقول : هو الذي أمرني بهذا ، ولهذا ما زالت وزارة الصحة في المملكة تعمم على المستشفيات- لا سيما الخاصة منها- بالكف عن مثل هذا الابتذال للممرضات والعاملات ، وتحدد لهن نوع اللباس وشكله ، وتمنعهن من المساحيق ؛ لكف الإثارة من جهة ، وللمحافظة عليهن من التحرش والابتذال من جهة أخرى .