الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ أوهام الخوف
مقال شهر شوال 1431هـ
أوهام الخوف
الحمد لله القائل في كتابه العزيز : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ، أقول وبالله التوفيق : إن الخوف شعور أصيل في الإنسان ، لا يكاد يوجد إنسان متجرد بصورة كاملة عن الخوف ومظاهره ، ولو بدرجات متدنية ، فقد ركبه الله تعالى بحكمته في كيان الإنسان حتى يحفظ نفسه مما قد يضره ، فهو كالكوابح التي تمنع الإنسان من الوقوع في المهالك ، والتردي في المهاوي ، فهو فطرياً يخاف المناطق المرتفعة حتى لا يسقط ، ويخاف النار حتى لا يحترق ، ويخاف الحية حتى لا يلدغ ، وهكذا يخاف مما قد يضره أو يؤذيه , فإذا لم يخف فقد يضر نفسه ، كالطفل لا يميز الجمرة من التمرة فيحرق يده .
فالخوف بهذا المعنى الفطري موجود لمصلحة الإنسان حتى يحفظ نفسه من الهلاك والضرر ، ولكن المشكلة إذا زاد الخوف عن حده السائغ اجتماعياً ، وتجاوز حدوده الطبيعة الفطرية ، وأخذ الشخص يخاف مما لا يضره ، أو ربما خاف مما ينفعه ، عندها يصبح الخوف ضرراً في حد ذاته ، وربما تحول إلى حالة نفسية مرَضية ، تحتاج إلى علاج .
وهذا النوع من الخوف المرَضي غير المبرر عقلياً ، ولا اجتماعياً : يعطل الإنسان عن مصالحه ، ويعيقه عن إنجاز مشاريعه ، وربما أوقفه حتى عن ممارساته الحياتية المعتادة في : أكله وشربه ونومه وتعامله ، كالذين يخافون بإفراط من الحشرات ، أو من لمس الناس ، أو من التلوث البيئي ، فيصبح أحدهم أسيراً لأوهام لا مبرر لها ، مما يعطل حياته ، ويزعج من حوله ، ويحصره في سلوكيات سلبية لا نهاية لها ، كالإفراط في غسل يديه وجسمه ، وتكرار غسل ملابسه ، وتنظيف الغرف بغسلها بالماء وهكذا .
وكون الناس يخافون من الغرائب غير المألوفة ، وينفرون من الأشياء المجهولة ؛ فإن هذا يعد أمراً طبيعياً لا يستنكر ، فمن لم يعتد رؤية الزواحف الصغيرة يخاف منها ، ومن لم يعتد ركوب البحر يخاف منه ، ومن لم يرقى قط السيقالات المركبة على ظهور العمائر يخاف صعودها ، وهكذا يخاف الإنسان الأشياء والسلوكيات الغريبة عنه ، مما لم يعتد عليه في السابق .
ومن أكثر الأشياء المثيرة للخوف عند الإنسان هو عالم الغيب ، ولا سيما المتعلق بالكائنات المتوقع منها المضرة كالجن ، فقد ارتبط في أذهان الناس أنها تؤذي ، فإذا سيطرت هذه الفكرة على شخص منخفض الذكاء ، أو قليل النضج : تعذب بالأوهام التي لا منتهى لها ، ولاقى من ذلك أشد العنت وأقساه ، فلا يستطيع أن يخلو بنفسه ، ولا أن يسير بمفرده ، ولا أن يدخل بيتاً وحده ، ويخشى الظلام كأشد ما يكون ، فيعاني من هذه الأوهام والخيالات الموحشة أشد المعاناة ، فتتعطل حياته بقدر درجة سيطرة هذه الأوهام عليه ، ويبقى أسيراً لها ، يأتمر بأمرها ، ويسير بإيحائها ، حتى يسلك أحياناً ما يشبه مسالك المجانين ، فيصبح أضحوكة للعقلاء .
ولا يبعد أن يكون للشيطان تدخل في مثل هذه الأوهام عن طريق الوسوسة ، فما زال الشيطان يزعج الإنسان ويضايقه ويؤذيه ما وجد إلى ذلك سبيلاً ، حتى إن بعض مردة الشياطين تتلبس بضعفاء البشر وتسيطر عليهم ، سواء كان تلبساً حسياً بالدخول فيهم ، أو كان تلبساً معنوياً بالسيطرة الفكرية عليهم واستهوائهم والعياذ بالله .
وليس للعاقل سبيل للتخلص من هذا الخوف المتوهم وآثاره السيئة ، وتوقي أسبابه ، سواء كان من دواخل النفس الموحشة ، أو كان من وساوس الشيطان : إلا بوسائل ثلاث :
الأولى : التعوذ بالمعوذات الشرعية بصورة دائمة ، والأخذ بالرقية الشرعية عند الحاجة ، فهذا هو حصن المسلم الحصين من المضرات والمؤذيات ، المرئية منها والمستترة .
الثانية : الاعتقاد الجازم بأنه لن يلحق الإنسان من خير أو شر ، مما يحب أو يكره : إلا ما كتب له أو عليه ، فهو الإيمان القوي الجازم بالقضاء والقدر ، خيره وشره ، وهذا الإيمان من أعظم مسكنات النفس عن القلق والأوهام والمخاوف.
الثالثة : التعقل بالنظر الصحيح ، فمن هذا الذي نفعته هذه الأوهام قط فأنقذته من المهالك ، أو جلبت له شيئاً من المنافع ، فما زال الخائفون من الأوهام الفاسدة في ضنك من العيش ، يكابدون العذاب النفسي ، ويعانون الجهد الجسمي ، يتنقلون من هم إلى هم ، زمن حزن إلى حزن ، ثم لا يصلون إلى شيء .
ثم لينظر هذا الإنسان الواهم ويسأل نفسه : من هذا الذي أهمل هذه الأوهام والمخاوف ولم يلتفت إليها فضرته ؟ ولينظر في ذلك إلى حال غالب الناس كيف يغدون ويروحون في الصباح والمساء ، ينامون ويستيقظون في الليل والنهار ، ويتعاملون في حياتهم مطمئنين دون خوف أو وجل ، ثم لينظر هو في حاله ، وما آل إليه خوفه غير المبرر ، ووهمه غير المنطقي من الأذى والحزن والهم ، فإذا تأمل ذلك ، واستعان بالله ، واتخذ قراره الشجاع بعدم الخوف فسوف يجد بإذن الله ما يسكن روعه ، ويريح نفسه .
إن الخوف الحقيقي لا بد أن ينحصر كله في الله تعالى ؛ فهو المستحق وحده لمطلق الخوف : ( وإياي فارهبون ) ، فهو سبحانه وتعالى وحده الضار والنافع ، ومنه وحده الخير والشر : ( قل كل من عند الله ) ، فليس شيء ينفع أو يضر من تلقاء نفسه ، وإنما يحصل بأمره هو جل وعلا ، بما وضعه في الكائنات والأشياء من الخواص الضارة أو النافعة ، فالكل مفتقر وعائد إليه سبحانه : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) ، فإذا انحصر خوف الإنسان من الله وحده ، فقلَّما يخاف غيره ، إلا بالقدر الفطري الذي لا يكاد ينفك عنه البشر ، كما قال الله تعالى عن خوف موسى الفطري الطبيعي : ( ففررت منكم لما خفتكم ) ، وقوله أيضاً : ( ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون ) .