الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ موقف الإعلاميين من الإسلاميين
الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن المتابع لوسائل الإعلام المقروءة يجدها منكبَّة على الشأن الاجتماعي العام ، تناقش وتراجع وتنتقد ، فقد اتخذت قضايا المجتمع – لاسيما الساخنة منها – مادة للبحث والتحليل والرأي ، خاض فيها الإعلاميون كلَّ ساحات المجتمع ، وتناولوا بالحديث كلَّ مجالات الحياة ، فما يكاد الناظر يجد مساحة عفَّ الإعلاميون عن خوضها ، حتى ميدان الفتوى الشرعية ، والاستدلال بالنصوص ، والاستنباط الفقهي ، كلُّ ذلك كان ولا يزال مادة مثيرة لكثير من الإعلاميين ، يتناولونها بالحديث والدرس والتنقيب ، حيث سهَّلت الأقراص المدمجة ، وشبكات الإنترنت ، والموسوعات الحديثة الميسَّرة : وصول غير المتخصصين ، وجمع من المغرضين إلى مرادهم من النصوص والآثار الشرعية ، ومذاهب العلماء الفقهية ، في الوقت الذي عجزوا عن الوصول إليها حين كانت محفوظة في بطون الكتب الصفراء ، لا يصل إليها إلا المتخصصون ، فأخذوا من النصوص والمذاهب ما يرون أنه يؤيد آراءهم الشاذة ، ويروِّج لاتجاهاتهم الفكرية ، دون وقوفهم على ضوابط وشروط الاجتهاد ، التي لا يستغني عنها الباحث في العلوم الشرعية ، مما قد يكون فيه تقويض لدعائم المجتمع الأخلاقية ، وتشكيك في ثوابته الدينية، فأخذوا يُشهرون بعض هذه النصوص والأقوال الفقهية في وجه من يخالفوهم من العلماء والدعاة والمصلحين ، حتى انبرى بعضهم لمنازلة كبار العلماء على صفحات بعض الصحف والمجلات : يناقشهم ويجادلهم ، ويقارعهم الحجة بالحجة ، ظناً منه أنه قد وصل إلى شيء ، وما عرف هؤلاء وأمثالهم أن التأهُّل لمقام الفتوى والنظر والاجتهاد يطول بصاحبه سنوات عمره ، وربما لا يبلغ فيه ما يتمنى ، بل إن الإمام الكبير من أئمة المذاهب ليفوته الصواب في بعض اجتهاداته - رغم اكتمال أهليته – لقصور ما لحقه فيما هو بصدده من الاجتهاد ، فكيف بمن هو دونه من أهل العلم ، بل كيف بالقاصرين، ممن ليس لهم قليل ولا كثير في باب العلم الشرعي ؟!
إن هذه الجرأة من بعض الإعلاميين المعاصرين ما كان لها أن تبلغ مداها لولا أسباب اجتمعت وتعاضدت فيما بينها ، فهيَّأت لتكوين تيَّار فكري ناقم على كل قديم، مُقبل على كلِّ جديد ، لا يميِّز – ولا يريد أن يميِّز – بين الثوابت القطعية ، وبين المتغيرات الاجتهادية ، وبين المعارف العلمية المشتركة ، وبين الخصوصيات الأممية الخاصة ، مما أدَّى إلى خلط كبير ، تداخل فيه الحق والباطل ، وضاعت فيه كثير من المعاني الإسلامية المحكمة في فورة الصراع المحموم ، الذي أخذ يتناول كلَّ شيء بالرأي ، واتسعت مساحة الآراء الشخصية – أياً كانت – في الفضاء الاجتماعي ، ونالت الحق المطلق في أن تعبِّر بحرية كاملة عن ذاتها ، فهاجت النفوس بما فيها من غرائب الأقوال وعجائب الآراء ، التي لا يكاد يحدُّها شيء في انطلاقتها النقدية الجارحة ، وانفتاحها الجارف لقيم المجتمع وثوابته الدينية ، وأصبحت حرية التعبير حقاً إنسانياً مشروعاً ، لا يقف في طريقها إلى : الظلاميون الرجعيون ، وتضخم في حسِّ الإعلاميين ( الآخر ) ، حتى تبوأ هذا الآخر مكان ( الذات ) ، فلم يعد بعضهم يفرق بينهما من شدة ذوبانه واندماجه في الآخر .
وعلى الرغم من تولي الليبراليين ناصية الإعلام ، وأخذهم بزمام الانفتاح الإعلامي الواسع ، واندفاعهم العنيف نحو مزيد من حرية التعبير ، إلا أنهم – مع كل هذا – يقصرون هذا الحق على أنفسهم ومن يدور في فلكهم ؛ فيضيِّقون ساحة الحرية على مخالفيهم ، لاسيما من الإسلاميين ، فلا يسمحون لهم بالكتابة الحرة ، ولا استحداث جريدة أو مجلة مستقلة ، ليعبروا من خلالها عن آرائهم ، وما يدينون الله به من الحق ، فحدودهم الإعلامية : هوامش تلفزيونية ، وملاحق صحفية ، محكومة بخصومهم من الإعلاميين، لا تتجاوز – في الجملة - الحديث التقليدي العام إلا قليلاً ، وحتى الإذاعة – رغم الساحة الواسعة نسبياً – لا تخرج - هي الأخرى- عن الفكرة الإسلامية التقليدية ، ولا يُسمح فيها بانتقاد الإعلاميين ، وممارساتهم الثقافية المعارضة لوجهة المؤسسة الدينية إلا على استحياء وخجل .
ولئن كان الإعلاميون قد سمحوا للإسلاميين بساحة محدودة محكومة في الإعلام المرئي والمسموع : فقد ضيَّقوا عليهم غاية الضيق في الإعلام المقروء ، فالصحافة – في الغالب - حكر عليهم ، لا يشاركهم فيها إلا من يدور في فلكهم ولا يناهض توجهاتهم، وأما من ينتقدهم ، ويعري فكرهم ، ويكشف عورهم – مهما كان مهذَّباً في طرحه – فلا مكان له في الصحافة ؛ ولهذا انفرد الإعلاميون بهذه الوسيلة الإعلامية الفعَّالة ، لا ينافسهم فيها أحد ممن يخالفهم ، يكتبون بحرية شبه كاملة ، ويتناولون بالحديث القضايا : الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية بكل أريحية ، مما اضطر الإسلاميين إلى الصحافة الإلكترونية المفتوحة ، يبثون من خلالها همومهم ، ويتناولون فيها أطروحات خصومهم بالنقد والتفنيد ، والعجيب أنه حتى هذه الوسيلة الإعلامية الوحيدة ، التي يتنفس الإسلاميون من خلالها حرية التعبير : يسعى الإعلاميون بجد لإحكام قبضتهم عليها أيضاً ، ولهذا لم يعد للدعاة إلا المنابر والمحاضرات والدروس ، يبثون من خلالها نقدهم لأطروحات الإعلاميين الفكرية والثقافية ، ولهذا يجد الخطباء نقداً لاذعاً من الإعلاميين حين ينتقدون أطروحاتهم ، فيتخذونهم غرضاً للرمي بالتهم ، والتشكيك في وطنيتهم ، وولائهم لبلادهم .
هذا الموقف السلبي من الإعلاميين أوقع في نفوس الإسلاميين الشك من أطروحاتهم النقدية تجاههم ، فعلى الرغم من وجود شيء من الصواب في نقد الإعلاميين للدعاة ، من الأئمة والخطباء والوعاظ ، والأصل أن الحق لا يُرد لكون القائل به مبطلاً ، إلا أن القبول باطمئنان من القلم الملوث صعب ، لاسيما وأن الإسلاميين في غنى عن نقد المناوئين لهم ؛ فقد أشبع بعضهم بعضاً نقداً ، وما يطرحه هؤلاء من الصواب معلوم في غالبه لدى الدعاة ، وهم – بكل حال – مجتهدون لبلوغ الكمال قدر استطاعتهم .
إن هذا الحراك الثقافي الغريب ، الذي بلغ في هذه الحقبة التاريخية مداه الأرحب ، ونال قبولاً اجتماعياً أوسع : كان في فترة سابقة يسير ببطء شديد في بلاد الحرمين الشريفين ، لا يجد له آذاناً صاغية ، ولا عيوناً قارئة ، حتى تهيأت له ظروف ثقافية وسياسية مهَّدت لقبوله ، ودخوله ضمن منظومة المجتمع السعودي الثقافية ، باعتباره صورة من صور التعددية الفكرية ، التي يعُدُّها المجتمع الدولي مؤشراً لصحة المجتمع الفكرية .
ويمكن هنا الإشارة إلى أهم الأسباب الثقافية والسياسية ، التي هيأت لانتشار أطروحات الإعلاميين الليبراليين المناهضة للاتجاه الديني السائد في المجتمع السعودي ، واتساع ساحة قبولها الاجتماعي ، وذلك ضمن مراحل ثلاث :
المرحلة الأولى : حرب الخليج الثانية :
لم تكن هذه الحرب المدوِّية - التي لم يسبق لدول الخليج بمثلها – أن تمرَّ بالمنطقة دون أن تخلِّف وراءها أزمات فكرية وثقافية وسياسية ، فقد هزت هذه الحرب ( عاصفة الصحراء ) المجتمع الخليجي من الداخل ، ودفعته بقوة لمراجعة شاملة للموروث الاجتماعي بكل تفصيلاته ، فلم يعد عند كثير من المثقفين مقدَّس خارج نطاق البحث والنقد .
ولعل الصدمة بهذه الحرب كانت أشد على المجتمع السعودي ، الذي أخذت كتلته الدينية – التي كانت واحدة - تتشطَّر إلى شظايا ، تلوكها المراجعات الفقهية ، والنقد الذاتي ، والاجتهاد العلمي خارج كبار العلماء ، حتى قال قائلهم : ( أنتم رجال ونحن رجال ) ، وقال آخر : ( ما ألزمنا الله بتقليد أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، فأخذت النفوس تتهيأ لقبول الجديد ، واحترام الرأي الآخر ، والإفساح للغير.
ورغم قِصَر زمن هذه الحرب إلا أنها أحدثت حراكاً ثقافياً عنيفاً في المجتمع السعودي ، وكأنه زلزال هزَّ الجميع بلا استثناء ، وعصف بالكل ، وحرَّك الراكد ، وأيقظ الغافل ، ونبَّه الساهي ، فنتج عن ذلك صراعات فكرية بين الإسلاميين حول مناهج الدعوة وأساليبها ، فتقلَّب بعض الدعاة ، وتبادلوا الأماكن ، واختلطت اللغات واللهجات فيما بينهم ، فجمعٌ غلب عليهم الحماسة بعد الركود ، وآخرون ركدوا بعد الحماسة .
ولم يكن الليبراليون – المسيطرون على وسائل الإعلام - بعيدين عن هذا الحراك الفكري وتداعياته الاجتماعية ، فهم على موعد معه ، قد طال انتظارهم لبزوغ فجره ، فطالما بشَّروا به ، ووعدوا بقدومه ، فملئت الصحف بمدادهم ، وتعالت أصوات المثقفين بحديثهم ، ومع ذلك لم يجاهروا المجتمع ويكاشفوه بكل ما عندهم ، فقد كان حديثهم مبطَّن يفهمه الخواص ، ولم يكن الإسلاميون – رغم انشغالهم بمراجعاتهم فيما بينهم- منصرفين عنهم كل الانصراف ، فقد انبرى جمع منهم للرد على أطروحاتهم ، عبر الوسائل الإعلامية المتاحة للإسلاميين آنذاك : الكتب ، والأشرطة ، والمنابر .
لقد مهَّدت هذه المرحلة لما بعدها ، وهيأت الناس لسماع الجديد ، والقبول بالغريب من الثقافات والأطروحات ، ونشطت المنظمات الدولية والإقليمية لطرح الوثائق والتوصيات لتطوير نظم الحياة الاجتماعية والأسرية ، واستعدَّ الإعلاميون الليبراليون لأخذ الراية من الإسلاميين ، وتولي ناصية الفكر والثقافة في عصر الانفتاح، الذي أخذ يطل على العالم من قريب ، ويعلن ظهور القرية العالمية ، ويبشِّر بولادة الإنسان العالمي ، الذي لا تحدُّه ثقافة ، ولا قومية ، ولا دين ، قد تحرر من انتماءاته اللغوية ، والوطنية ، والجغرافية ، وانصهر مع الآخر في قالب واحد ضمن المجتمع الكوني .
المرحلة الثانية : ثورة الاتصالات :
بعد زمن يسير من عكوف الناس على أجهزة الراديو ونشرات الأخبار التلفزيونية الرسمية ، يتابعون من خلالها أحداث عاصفة الصحراء : انفتح العالم مرَّة واحدة على نمط إعلامي جديد ، لا يعرف حدوداً جغرافية ، ولا إقليمية ، ولا ثقافية ، ولا حتى حدوداً دينية ، قد تخطى كلَّ ذلك إلى الإنسان أياً كان ، وأينما كان في هذا العالم ، ليشكِّله من جديد في قالب من الثقافة العالمية ، التي تتسم في ظاهرها بطابع التسامح والقبول ، وفي باطنها بالسيطرة والتسلط والطغيان ، إنها العولمة ، بكل ما تحمله من معاني : الشمول ، والاستيعاب ، والاتساع ، والهيمنة .
لقد استغل الغرب ، والولايات المتحدة – بصورة خاصة – ما وصلت إليه عبقرية الاتصالات وتقنياتها المذهلة في تشكيل ثقافة ما أسموه : ( الشرق الأوسط الكبير ) ، فأخذت المواد الإعلامية - بكل ألوانها وأطيافها - تُبث عبر الفضائيات ، وتتدفق من كل صوب ، متخطية خصوصيات الأمم ، وأعراف الشعوب ، والذوق العام ، تفرض نفسها فرضاً على الجميع ، وأخذت الفضائيات العربية تسهم – هي الأخرى - في بث الممنوعات الشرعية ، فاطلع المجتمع السعودي عن قرب على ما كان يسمع عنه من واقع الحضارة الغربية ، وثقافة الخارج ، فكانت صدمة حضارية أصابت المجتمع بأكمله ، حتى أهل الأرياف والهِجَر ، لم تفتهم هذه التجربة الثقافية ، التي كانت – إلى عهد قريب - تجربة خاصة بالمبتعثين للدراسة في الخارج ، فبعد تردد لم يطل كثيراً حسم المجتمع السعودي موقفه من الثقافة الأجنبية الوافدة بضرورة الانفتاح عليها ، والتركيز – حسب زعمه - على التربية الذاتية مع أفراد المجتمع ، وإحياء الضمير في نفوسهم ، فلا مجال هنا للضبط الخارجي .
هذا الواقع الثقافي الوافد – الذي لا يحكمه دين ولا خلق - أسبغ شرعية دينية على كل ما يبثه وينشره الإعلام السعودي ، الذي كان جمع من العلماء - إلى عهد قريب – ينهون عن كثير منه ، فأخذ الإعلاميون السعوديون ينشطون للتنافس مع الآخرين في تقديم مواد إعلامية جذَّابة ، لاسيما بعد أن استسلم التلفزيون السعودي لشركات الدعاية والإعلان تعبث بأخلاقياته ، وتستخدم المرأة ( الجسد ) كما تستخدمها الإعلانات الأجنبية ، مع لمسة شرعية خَجلة ، تظهر أحياناً ، وتغيب أحياناً أخرى .
واطلع المجتمع السعودي الذي تربى على أيدي علمائه سنوات طويلة على المذهب الواحد ، والقول الأوحد ، وما دلَّ عليه الدليل : اطلع على مذاهب فقهيه أخرى ، وأقوال مغايرة لم ألفه المجتمع ، فقد خرج عليهم في الفضائيات علماء الأمصار ، يقولون بغير الأقوال التي عرفوها ، ويطرحون غير الطرح الذي ألفوه ، مما أوقع في نفوس العامة شيئاً تجاه علماء البلاد ، حين أخفوا عنهم مذاهب الفقهاء الأخرى وأقوالهم .
المرحلة الثالثة : أحداث الحادي عشر من سبتمبر :
رغم الغموض الذي اكتنف هذا الحدث الخطير ، والألغاز الكثيرة التي أحاطت به : فقد توافق المجتمع الدولي على إلصاق هذه الجريمة بالإسلاميين ، الذين ذهبوا ينفون التهمة عن أنفسهم ، ويعبرون - بمناسبة وبغير مناسبة – عن سماحة الإسلام ووداعته ، ويشاركون المجتمع الدولي في لعن المجرمين والبراءة منهم .
وبرز في هذه الأثناء وبقوة مصطلح الإرهاب – بمفهومه الغربي – ليكون أداة المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، والمسوِّغ لأي إجراء أرعن في حق المسلمين، فاستُبيحت بذلك خصوصيات المسلمين ، بما فيها : الأرض ، والمال ، والفكر، والسلوك ، حتى لم يعد للمجتمعات الإسلامية ما تتحفظ عليه أمام التدخلات الأجنبية في كل أنشطتها وممارساتها ، فكانت دعوى الإرهاب مفتاحاً فضَّت به الولايات المتحدة مغاليق الدول العربية والإسلامية ، ضمن سابقة عالمية لا مثيل لها ، حتى ما عادت هذه الدول تتكتَّم على شيء دون أمريكا والمجتمع الدولي ، وأصبح الصوت المقبول هو صوت النقد للفكرة الإسلامية ومشروعها النهضوي ، فهيأ الواقع الدولي لليبراليين السعوديين الظروف المحلية في المجتمع ، ليعبروا بصورة أوضح عن انتماءاتهم الفكرية ، ويُفصحوا بصورة أبلغ عن اعتراضاتهم على المؤسسات الدينية ومشاريعها ، فما كان الحديث عنه في السابق بالصيغ الرمزية ، التي لا يفهمها إلا الخواص : أصبح في هذه المرحلة مجاهرة لا مواربة فيها ، حتى أصبحت الليبرالية – بجذورها الغربية المظلمة - فكرة تقابل الفكرة الإسلامية ، ويصبح الحديث الإعلامي – بكل جراءة - مقابلة بين الفكرتين ، أيهما أنفع للمجتمع ؟
وأخذت المؤسسات الدينية في البلاد تذوق من عصا الإعلاميين في الصحف، ونقدهم الجارح على الفضائيات ، بل حتى السخرية والاستهزاء عبر المانشتات العريضة في الصحف لا تخطئه العين ، وأخذ الحديث عن المرأة السعودية المتحررة من قيود العادات والتقاليد يأخذ مكانه في صدر الصحافة السعودية ، حتى غدت صورة المرأة السعودية حاضرة في جميع وسائل الإعلام السعودية جنباً إلى جنب مع الرجل ، وربما ناصفته الساحة الإذاعية أو زادت عليه ، وأخذ غالب العلماء – أشد من ذي قبل - يتحفظون من التعامل مع وسائل الإعلام ، ويتجنَّبون التصريح لها فيما يطرحه الليبراليون من رذائل الفكر ، خوفاً من مشرحة الإعلاميين القاسية ؛ إذ لم يعد للعلماء حصانة تحفظ أعراضهم من بطش الإعلاميين وتجريحهم ، فلم يكن هؤلاء ليجرؤا على مثل هذا لولا تقوِّيهم بالاتجاه الدولي بعد أحداث سبتمبر 2001م ، وتمكُّن الليبراليين من مواقع اتخاذ القرار ، وتهيؤ المجتمع لمثل هذه الأطروحات الفكرية الشاذة .
والأعجب من هذا أن تظهر الأقلام والأصوات الإسلامية المهادنة ، التي تقف – بصورة تكاد تكون دائمة – في النصف من القضايا المطروحة للنقاش الإعلامي ، تتذبذب بين الطرْحين ، وتحاول عبثاً أن تجمع بينهما ، حتى إن أحدهم يتكلم الساعة ، ويكتب المقالة ، ومع ذلك لا يخرج السامع ولا القارئ بشيء كثير ، وأعجب من هؤلاء وأغرب من يتنادى من الإسلاميين بالليبرالية الإسلامية ، يريد أن يجمع بين من فرَّق الله بينهما !!
إن هذه المراحل الثلاث ، بما حوته من أحداث وتفاعلات وتداعيات : شكَّلت واقعنا الثقافي المعاصر ، ومهَّدت لبروز أطروحات متنوعة ، وآراء متباينة ، واتجاهات مختلفة ، لا ترتبط – بالضرورة – بما يدين به المجتمع ، ومع ذلك فقد أصبح المجتمع السعودي أكثر تسامحاً مع الوافد الجديد ، بعد أن كان يتشدَّد – في كثير من الأحيان - فيما لا يصح التشدُّد فيه ، ولم يكن هذا الواقع ليبلغ ما بلغ لولا تداعيات دولية لا يد للمجتمع فيها ، وتراكمات اجتماعية محلية قصَّرنا فيها : أدَّت إلى ما صار المجتمع إليه ، ومع كل هذا التشاؤم فإن الحق يعلو ولا يُعلى عليه ، ولا يصح إلا الصحيح ، ولعلها سنوات تمحيص للصالحين، يكفِّر الله بها عن تقصيرهم وتفريطهم ، يعقبها إن شاء الله خير كثير ، ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
إن هذه الجرأة من بعض الإعلاميين المعاصرين ما كان لها أن تبلغ مداها لولا أسباب اجتمعت وتعاضدت فيما بينها ، فهيَّأت لتكوين تيَّار فكري ناقم على كل قديم، مُقبل على كلِّ جديد ، لا يميِّز – ولا يريد أن يميِّز – بين الثوابت القطعية ، وبين المتغيرات الاجتهادية ، وبين المعارف العلمية المشتركة ، وبين الخصوصيات الأممية الخاصة ، مما أدَّى إلى خلط كبير ، تداخل فيه الحق والباطل ، وضاعت فيه كثير من المعاني الإسلامية المحكمة في فورة الصراع المحموم ، الذي أخذ يتناول كلَّ شيء بالرأي ، واتسعت مساحة الآراء الشخصية – أياً كانت – في الفضاء الاجتماعي ، ونالت الحق المطلق في أن تعبِّر بحرية كاملة عن ذاتها ، فهاجت النفوس بما فيها من غرائب الأقوال وعجائب الآراء ، التي لا يكاد يحدُّها شيء في انطلاقتها النقدية الجارحة ، وانفتاحها الجارف لقيم المجتمع وثوابته الدينية ، وأصبحت حرية التعبير حقاً إنسانياً مشروعاً ، لا يقف في طريقها إلى : الظلاميون الرجعيون ، وتضخم في حسِّ الإعلاميين ( الآخر ) ، حتى تبوأ هذا الآخر مكان ( الذات ) ، فلم يعد بعضهم يفرق بينهما من شدة ذوبانه واندماجه في الآخر .
وعلى الرغم من تولي الليبراليين ناصية الإعلام ، وأخذهم بزمام الانفتاح الإعلامي الواسع ، واندفاعهم العنيف نحو مزيد من حرية التعبير ، إلا أنهم – مع كل هذا – يقصرون هذا الحق على أنفسهم ومن يدور في فلكهم ؛ فيضيِّقون ساحة الحرية على مخالفيهم ، لاسيما من الإسلاميين ، فلا يسمحون لهم بالكتابة الحرة ، ولا استحداث جريدة أو مجلة مستقلة ، ليعبروا من خلالها عن آرائهم ، وما يدينون الله به من الحق ، فحدودهم الإعلامية : هوامش تلفزيونية ، وملاحق صحفية ، محكومة بخصومهم من الإعلاميين، لا تتجاوز – في الجملة - الحديث التقليدي العام إلا قليلاً ، وحتى الإذاعة – رغم الساحة الواسعة نسبياً – لا تخرج - هي الأخرى- عن الفكرة الإسلامية التقليدية ، ولا يُسمح فيها بانتقاد الإعلاميين ، وممارساتهم الثقافية المعارضة لوجهة المؤسسة الدينية إلا على استحياء وخجل .
ولئن كان الإعلاميون قد سمحوا للإسلاميين بساحة محدودة محكومة في الإعلام المرئي والمسموع : فقد ضيَّقوا عليهم غاية الضيق في الإعلام المقروء ، فالصحافة – في الغالب - حكر عليهم ، لا يشاركهم فيها إلا من يدور في فلكهم ولا يناهض توجهاتهم، وأما من ينتقدهم ، ويعري فكرهم ، ويكشف عورهم – مهما كان مهذَّباً في طرحه – فلا مكان له في الصحافة ؛ ولهذا انفرد الإعلاميون بهذه الوسيلة الإعلامية الفعَّالة ، لا ينافسهم فيها أحد ممن يخالفهم ، يكتبون بحرية شبه كاملة ، ويتناولون بالحديث القضايا : الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية بكل أريحية ، مما اضطر الإسلاميين إلى الصحافة الإلكترونية المفتوحة ، يبثون من خلالها همومهم ، ويتناولون فيها أطروحات خصومهم بالنقد والتفنيد ، والعجيب أنه حتى هذه الوسيلة الإعلامية الوحيدة ، التي يتنفس الإسلاميون من خلالها حرية التعبير : يسعى الإعلاميون بجد لإحكام قبضتهم عليها أيضاً ، ولهذا لم يعد للدعاة إلا المنابر والمحاضرات والدروس ، يبثون من خلالها نقدهم لأطروحات الإعلاميين الفكرية والثقافية ، ولهذا يجد الخطباء نقداً لاذعاً من الإعلاميين حين ينتقدون أطروحاتهم ، فيتخذونهم غرضاً للرمي بالتهم ، والتشكيك في وطنيتهم ، وولائهم لبلادهم .
هذا الموقف السلبي من الإعلاميين أوقع في نفوس الإسلاميين الشك من أطروحاتهم النقدية تجاههم ، فعلى الرغم من وجود شيء من الصواب في نقد الإعلاميين للدعاة ، من الأئمة والخطباء والوعاظ ، والأصل أن الحق لا يُرد لكون القائل به مبطلاً ، إلا أن القبول باطمئنان من القلم الملوث صعب ، لاسيما وأن الإسلاميين في غنى عن نقد المناوئين لهم ؛ فقد أشبع بعضهم بعضاً نقداً ، وما يطرحه هؤلاء من الصواب معلوم في غالبه لدى الدعاة ، وهم – بكل حال – مجتهدون لبلوغ الكمال قدر استطاعتهم .
إن هذا الحراك الثقافي الغريب ، الذي بلغ في هذه الحقبة التاريخية مداه الأرحب ، ونال قبولاً اجتماعياً أوسع : كان في فترة سابقة يسير ببطء شديد في بلاد الحرمين الشريفين ، لا يجد له آذاناً صاغية ، ولا عيوناً قارئة ، حتى تهيأت له ظروف ثقافية وسياسية مهَّدت لقبوله ، ودخوله ضمن منظومة المجتمع السعودي الثقافية ، باعتباره صورة من صور التعددية الفكرية ، التي يعُدُّها المجتمع الدولي مؤشراً لصحة المجتمع الفكرية .
ويمكن هنا الإشارة إلى أهم الأسباب الثقافية والسياسية ، التي هيأت لانتشار أطروحات الإعلاميين الليبراليين المناهضة للاتجاه الديني السائد في المجتمع السعودي ، واتساع ساحة قبولها الاجتماعي ، وذلك ضمن مراحل ثلاث :
المرحلة الأولى : حرب الخليج الثانية :
لم تكن هذه الحرب المدوِّية - التي لم يسبق لدول الخليج بمثلها – أن تمرَّ بالمنطقة دون أن تخلِّف وراءها أزمات فكرية وثقافية وسياسية ، فقد هزت هذه الحرب ( عاصفة الصحراء ) المجتمع الخليجي من الداخل ، ودفعته بقوة لمراجعة شاملة للموروث الاجتماعي بكل تفصيلاته ، فلم يعد عند كثير من المثقفين مقدَّس خارج نطاق البحث والنقد .
ولعل الصدمة بهذه الحرب كانت أشد على المجتمع السعودي ، الذي أخذت كتلته الدينية – التي كانت واحدة - تتشطَّر إلى شظايا ، تلوكها المراجعات الفقهية ، والنقد الذاتي ، والاجتهاد العلمي خارج كبار العلماء ، حتى قال قائلهم : ( أنتم رجال ونحن رجال ) ، وقال آخر : ( ما ألزمنا الله بتقليد أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، فأخذت النفوس تتهيأ لقبول الجديد ، واحترام الرأي الآخر ، والإفساح للغير.
ورغم قِصَر زمن هذه الحرب إلا أنها أحدثت حراكاً ثقافياً عنيفاً في المجتمع السعودي ، وكأنه زلزال هزَّ الجميع بلا استثناء ، وعصف بالكل ، وحرَّك الراكد ، وأيقظ الغافل ، ونبَّه الساهي ، فنتج عن ذلك صراعات فكرية بين الإسلاميين حول مناهج الدعوة وأساليبها ، فتقلَّب بعض الدعاة ، وتبادلوا الأماكن ، واختلطت اللغات واللهجات فيما بينهم ، فجمعٌ غلب عليهم الحماسة بعد الركود ، وآخرون ركدوا بعد الحماسة .
ولم يكن الليبراليون – المسيطرون على وسائل الإعلام - بعيدين عن هذا الحراك الفكري وتداعياته الاجتماعية ، فهم على موعد معه ، قد طال انتظارهم لبزوغ فجره ، فطالما بشَّروا به ، ووعدوا بقدومه ، فملئت الصحف بمدادهم ، وتعالت أصوات المثقفين بحديثهم ، ومع ذلك لم يجاهروا المجتمع ويكاشفوه بكل ما عندهم ، فقد كان حديثهم مبطَّن يفهمه الخواص ، ولم يكن الإسلاميون – رغم انشغالهم بمراجعاتهم فيما بينهم- منصرفين عنهم كل الانصراف ، فقد انبرى جمع منهم للرد على أطروحاتهم ، عبر الوسائل الإعلامية المتاحة للإسلاميين آنذاك : الكتب ، والأشرطة ، والمنابر .
لقد مهَّدت هذه المرحلة لما بعدها ، وهيأت الناس لسماع الجديد ، والقبول بالغريب من الثقافات والأطروحات ، ونشطت المنظمات الدولية والإقليمية لطرح الوثائق والتوصيات لتطوير نظم الحياة الاجتماعية والأسرية ، واستعدَّ الإعلاميون الليبراليون لأخذ الراية من الإسلاميين ، وتولي ناصية الفكر والثقافة في عصر الانفتاح، الذي أخذ يطل على العالم من قريب ، ويعلن ظهور القرية العالمية ، ويبشِّر بولادة الإنسان العالمي ، الذي لا تحدُّه ثقافة ، ولا قومية ، ولا دين ، قد تحرر من انتماءاته اللغوية ، والوطنية ، والجغرافية ، وانصهر مع الآخر في قالب واحد ضمن المجتمع الكوني .
المرحلة الثانية : ثورة الاتصالات :
بعد زمن يسير من عكوف الناس على أجهزة الراديو ونشرات الأخبار التلفزيونية الرسمية ، يتابعون من خلالها أحداث عاصفة الصحراء : انفتح العالم مرَّة واحدة على نمط إعلامي جديد ، لا يعرف حدوداً جغرافية ، ولا إقليمية ، ولا ثقافية ، ولا حتى حدوداً دينية ، قد تخطى كلَّ ذلك إلى الإنسان أياً كان ، وأينما كان في هذا العالم ، ليشكِّله من جديد في قالب من الثقافة العالمية ، التي تتسم في ظاهرها بطابع التسامح والقبول ، وفي باطنها بالسيطرة والتسلط والطغيان ، إنها العولمة ، بكل ما تحمله من معاني : الشمول ، والاستيعاب ، والاتساع ، والهيمنة .
لقد استغل الغرب ، والولايات المتحدة – بصورة خاصة – ما وصلت إليه عبقرية الاتصالات وتقنياتها المذهلة في تشكيل ثقافة ما أسموه : ( الشرق الأوسط الكبير ) ، فأخذت المواد الإعلامية - بكل ألوانها وأطيافها - تُبث عبر الفضائيات ، وتتدفق من كل صوب ، متخطية خصوصيات الأمم ، وأعراف الشعوب ، والذوق العام ، تفرض نفسها فرضاً على الجميع ، وأخذت الفضائيات العربية تسهم – هي الأخرى - في بث الممنوعات الشرعية ، فاطلع المجتمع السعودي عن قرب على ما كان يسمع عنه من واقع الحضارة الغربية ، وثقافة الخارج ، فكانت صدمة حضارية أصابت المجتمع بأكمله ، حتى أهل الأرياف والهِجَر ، لم تفتهم هذه التجربة الثقافية ، التي كانت – إلى عهد قريب - تجربة خاصة بالمبتعثين للدراسة في الخارج ، فبعد تردد لم يطل كثيراً حسم المجتمع السعودي موقفه من الثقافة الأجنبية الوافدة بضرورة الانفتاح عليها ، والتركيز – حسب زعمه - على التربية الذاتية مع أفراد المجتمع ، وإحياء الضمير في نفوسهم ، فلا مجال هنا للضبط الخارجي .
هذا الواقع الثقافي الوافد – الذي لا يحكمه دين ولا خلق - أسبغ شرعية دينية على كل ما يبثه وينشره الإعلام السعودي ، الذي كان جمع من العلماء - إلى عهد قريب – ينهون عن كثير منه ، فأخذ الإعلاميون السعوديون ينشطون للتنافس مع الآخرين في تقديم مواد إعلامية جذَّابة ، لاسيما بعد أن استسلم التلفزيون السعودي لشركات الدعاية والإعلان تعبث بأخلاقياته ، وتستخدم المرأة ( الجسد ) كما تستخدمها الإعلانات الأجنبية ، مع لمسة شرعية خَجلة ، تظهر أحياناً ، وتغيب أحياناً أخرى .
واطلع المجتمع السعودي الذي تربى على أيدي علمائه سنوات طويلة على المذهب الواحد ، والقول الأوحد ، وما دلَّ عليه الدليل : اطلع على مذاهب فقهيه أخرى ، وأقوال مغايرة لم ألفه المجتمع ، فقد خرج عليهم في الفضائيات علماء الأمصار ، يقولون بغير الأقوال التي عرفوها ، ويطرحون غير الطرح الذي ألفوه ، مما أوقع في نفوس العامة شيئاً تجاه علماء البلاد ، حين أخفوا عنهم مذاهب الفقهاء الأخرى وأقوالهم .
المرحلة الثالثة : أحداث الحادي عشر من سبتمبر :
رغم الغموض الذي اكتنف هذا الحدث الخطير ، والألغاز الكثيرة التي أحاطت به : فقد توافق المجتمع الدولي على إلصاق هذه الجريمة بالإسلاميين ، الذين ذهبوا ينفون التهمة عن أنفسهم ، ويعبرون - بمناسبة وبغير مناسبة – عن سماحة الإسلام ووداعته ، ويشاركون المجتمع الدولي في لعن المجرمين والبراءة منهم .
وبرز في هذه الأثناء وبقوة مصطلح الإرهاب – بمفهومه الغربي – ليكون أداة المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، والمسوِّغ لأي إجراء أرعن في حق المسلمين، فاستُبيحت بذلك خصوصيات المسلمين ، بما فيها : الأرض ، والمال ، والفكر، والسلوك ، حتى لم يعد للمجتمعات الإسلامية ما تتحفظ عليه أمام التدخلات الأجنبية في كل أنشطتها وممارساتها ، فكانت دعوى الإرهاب مفتاحاً فضَّت به الولايات المتحدة مغاليق الدول العربية والإسلامية ، ضمن سابقة عالمية لا مثيل لها ، حتى ما عادت هذه الدول تتكتَّم على شيء دون أمريكا والمجتمع الدولي ، وأصبح الصوت المقبول هو صوت النقد للفكرة الإسلامية ومشروعها النهضوي ، فهيأ الواقع الدولي لليبراليين السعوديين الظروف المحلية في المجتمع ، ليعبروا بصورة أوضح عن انتماءاتهم الفكرية ، ويُفصحوا بصورة أبلغ عن اعتراضاتهم على المؤسسات الدينية ومشاريعها ، فما كان الحديث عنه في السابق بالصيغ الرمزية ، التي لا يفهمها إلا الخواص : أصبح في هذه المرحلة مجاهرة لا مواربة فيها ، حتى أصبحت الليبرالية – بجذورها الغربية المظلمة - فكرة تقابل الفكرة الإسلامية ، ويصبح الحديث الإعلامي – بكل جراءة - مقابلة بين الفكرتين ، أيهما أنفع للمجتمع ؟
وأخذت المؤسسات الدينية في البلاد تذوق من عصا الإعلاميين في الصحف، ونقدهم الجارح على الفضائيات ، بل حتى السخرية والاستهزاء عبر المانشتات العريضة في الصحف لا تخطئه العين ، وأخذ الحديث عن المرأة السعودية المتحررة من قيود العادات والتقاليد يأخذ مكانه في صدر الصحافة السعودية ، حتى غدت صورة المرأة السعودية حاضرة في جميع وسائل الإعلام السعودية جنباً إلى جنب مع الرجل ، وربما ناصفته الساحة الإذاعية أو زادت عليه ، وأخذ غالب العلماء – أشد من ذي قبل - يتحفظون من التعامل مع وسائل الإعلام ، ويتجنَّبون التصريح لها فيما يطرحه الليبراليون من رذائل الفكر ، خوفاً من مشرحة الإعلاميين القاسية ؛ إذ لم يعد للعلماء حصانة تحفظ أعراضهم من بطش الإعلاميين وتجريحهم ، فلم يكن هؤلاء ليجرؤا على مثل هذا لولا تقوِّيهم بالاتجاه الدولي بعد أحداث سبتمبر 2001م ، وتمكُّن الليبراليين من مواقع اتخاذ القرار ، وتهيؤ المجتمع لمثل هذه الأطروحات الفكرية الشاذة .
والأعجب من هذا أن تظهر الأقلام والأصوات الإسلامية المهادنة ، التي تقف – بصورة تكاد تكون دائمة – في النصف من القضايا المطروحة للنقاش الإعلامي ، تتذبذب بين الطرْحين ، وتحاول عبثاً أن تجمع بينهما ، حتى إن أحدهم يتكلم الساعة ، ويكتب المقالة ، ومع ذلك لا يخرج السامع ولا القارئ بشيء كثير ، وأعجب من هؤلاء وأغرب من يتنادى من الإسلاميين بالليبرالية الإسلامية ، يريد أن يجمع بين من فرَّق الله بينهما !!
إن هذه المراحل الثلاث ، بما حوته من أحداث وتفاعلات وتداعيات : شكَّلت واقعنا الثقافي المعاصر ، ومهَّدت لبروز أطروحات متنوعة ، وآراء متباينة ، واتجاهات مختلفة ، لا ترتبط – بالضرورة – بما يدين به المجتمع ، ومع ذلك فقد أصبح المجتمع السعودي أكثر تسامحاً مع الوافد الجديد ، بعد أن كان يتشدَّد – في كثير من الأحيان - فيما لا يصح التشدُّد فيه ، ولم يكن هذا الواقع ليبلغ ما بلغ لولا تداعيات دولية لا يد للمجتمع فيها ، وتراكمات اجتماعية محلية قصَّرنا فيها : أدَّت إلى ما صار المجتمع إليه ، ومع كل هذا التشاؤم فإن الحق يعلو ولا يُعلى عليه ، ولا يصح إلا الصحيح ، ولعلها سنوات تمحيص للصالحين، يكفِّر الله بها عن تقصيرهم وتفريطهم ، يعقبها إن شاء الله خير كثير ، ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .