الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ كلية الشريعة بجامعة الملك عبد الله


معلومات
تاريخ الإضافة: 1/11/1430
عدد القراء: 4660
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

كلية الشريعة بجامعة الملك عبد الله

            سعد الجميع بافتتاح جامعة الملك عبد الله – وفقه الله- لتكون منارة للعلم والمعرفة ، فتنضم إلى باقي جامعاتنا السعودية لتعزز خدمة الوطن ، ونهضة الأمة ، وليتمم افتتاح هذه الجامعة الفتية باقة من ( 32 ) جامعة سعودية ولله الحمد ، ولعلنا في القريب العاجل إن شاء الله تعالى نحتفل بافتتاح الجامعة المائة ، لتعم المعرفة العلمية ربوع البلاد بأسرها ، في مختلف مجالات العلوم والمعرفة ؛ بحيث يجد الشباب جامعات مكتملة ومتنوعة التخصصات في مدنهم ، قريباً منهم .

            إلا أن الفرحة بهذه الجامعة لم تكتمل حين لم تجد الكليات الشرعية موطئ قدم لها بين كليات الجامعة ؛ فقد حازت العلوم التطبيقية والهندسية حصة الأسد ، بل حازت الحصص كلها ، وكأن العلوم الشرعية تعيق النهضة التقنية المتوقعة من هذه الجامعة ،  أو أن التقدم الحضاري للمسلمين يمكن أن يقوم بغير العلوم الشرعية .

            إن من الحقائق المعلومة أن الشريعة الإسلامية – بما حوته من نصوص شرعية - أعظم داعم للعلوم الكونية مثل : الفيزياء ، والكيمياء ، والأحياء ، والجيولوجيا ، ونحوها من العلوم الطبيعية وتطبيقاتها ، فقد دخلت هذه العلوم في الشريعة الإسلامية ضمن فرض الكفاية ، الذي يلزم الأمة تعلمها وتسخيرها لعمارة الأرض على منهج الله تعالى ، ويكفي أن يضم القرآن الكريم أكثر من خمسين آية تفيد النظر في الكون والتفكر فيه وتسخيره ، كقوله تعالى : ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض... ) ، ومعلوم أنه لا يوجد في السماوات والأرض إلا هذه العلوم الكونية ، فدل على أنها مقصودة من الشارع الحكيم بالنظر المتضمن للتأمل والتعلم والبحث ؛ فيدخل كل ذلك ضمن مفهوم العبادة الشامل ، الذي ينتظم حياة المسلم ويستوعبها بكاملها ،  فالعلوم الشرعية - بهذا الفهم - أعظم محفِّز للطلاب نحو تعلم العلوم الكونية ، وإتقان مجالات تطبيقها ؛ حين يتعلمها الطالب معتقداً أنه يمارس بذلك عبادة محبوبة لله تعالى ، فلا فرق في حسّه أن يكون في معمله وقاعة درسه ، أو أن يكون متنفّلاً بالصلاة في محرابه ، وبهذا تُصبغ دوافع الطلاب بالبعد الروحي ، الذي يأتي في مقدمة الدوافع المحفّزة للعمل والاجتهاد .

           إن هذه الجامعة الفتية أحوج ما تكون لطلاب يحملون هذا الفهم نحو العلوم الكونية ، وخير من يبثّه فيهم ، ويربيهم عليه هم المتخصصون الشرعيون ، بل إن دعوة رائدة جريئة انطلقت منذ سنوات تنادي بتعليم العلوم الشرعية والكونية في كلية واحدة، بحيث يستوعب الطالب في وقت واحد القراءتين معاً ، ويجمع بين الرسالتين جميعاً ؛ الرسالة المقروءة في الوحي ، والرسالة المنظورة في الكون ، وبهما جميعاً يبلغ التعلم منتهاه ، ومعلوم ومستقر عند الباحثين الإسلاميين أنه لا تعارض بين العلوم الكونية والعلوم الشرعية ؛ لأنهما صدرا عن مشكاة واحدة ، فمنزل الوحي هو – سبحانه – خالق الكون ، فيستحيل التعارض بينهما ، بل كلاهما في الحقيقة يهدفان إلى تحقيق العبودية لله تعالى .

         ولئن كان التفوق في العلوم الكونية هدف شريف في حد ذاته ، قد جنّدت الجامعة الفتية قواها لتحقيقه : فإن التفوق في العلوم الشرعية هدف أشرف وأجل ؛ إذ هي المقصودة بالفضل والمكانة ، لاسيما وأنها تتضمن علوم فرض العين ، التي يلزم الأمة تعلمها ، وقد جاءت الشريعة بمزيد عناية ورعاية بفرض العين أكثر من عنايتها بفرض الكفاية لعموم حاجة المسلمين إليه ، فالمسلمون في هذه البلاد في حاجة إلى تعلم فروض الكفاية ، وإتقانها والتربية عليها بقدر حاجتهم إلى مخرجات الجامعة العلمية والتقنية وأكثر ، وليس في هذا تقليل من شأن العلوم الكونية بقدر ما هو إبراز لمكانة العلوم الشرعية في دين الإسلام .

         إن بلادنا وعموم بلاد المسلمين في حاجة إلى المتفوقين والمبدعين في العلوم الكونية ليخرجوا – بإذن الله تعالى – الأمة من مأزقها الحضاري الخانق ، كما أن الأمة اليوم في حاجة ملحة أيضاً - وربما أكثر من أي وقت مضى- إلى الموهوبين في العلوم الشرعية ليقودوا الأمة في زمن شتاتها نحو خلاصها وفكاكها ، فكما أننا نتطلع إلى إبداع الطالب المتفوق في : الهندسة ، أو الكيمياء ، أو الفيزياء .. فإننا في عالمنا الإسلامي نتطلع وبشغف نحو المبدع المتفوق في العلوم الشرعية ، المتمكن في تخصصه ، بل إن الأمة ترمي إلى ما هو أبعد من هذا ، فتنتظر العالِم الفذ ، الذي بلغ درجة الاجتهاد ، القادر بتوفيق الله تعالى على النظر الشرعي والاستنباط ، فيخرج للأمة من الفقه والفهم والحكمة ما لم يوفق إليه غيره ، فيجدد بذلك للأمة أمر دينها .

            إن الأمة اليوم في حاجة ملحة إلى قيادات إسلامية حكيمة ، تجمع بتفوق بين العلوم المعاصرة المختلفة ، وقادرة – في الوقت نفسه - على توجيهها وفق مصالح الأمة وحاجاتها ، إن مثل هذه القيادات المبدعة لن تخرج من فراغ ، وإنما تخرج بجهود علمية وبحثية مضنية ، من خلال مراكز علمية متفوقة ، مثل جامعة الملك عبد الله ، حين تضم بين جنباتها كلية متفوقة للشريعة ، تطبّق عليها معايير الجودة النوعية التي تطبّق في كليات الجامعة الأخرى ، لاسيما وقد اعتادت كثير من الجامعات الشرعية في العالم الإسلامي أن تضم إليها كليات : طبية ، وهندسية ، وعلوم تطبيقية ، فلن يكون مستهجناً أن تضم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية كلية للشريعة ، خاصة وقد اعتادت الجامعات السعودية أن تجمع في رحابها غالب التخصصات النظرية والتطبيقية ، تمثلها كليات كاملة أو أقسام صغيرة مساندة ، إضافة إلى أن الطالب في حاجة إلى التبصّر بأمور دينه ، والتعرّف على ثقافته الإسلامية ، لاسيما وأن الجامعة تضم أعداداً كبيرة من الطلاب غير السعوديين ، ممن يتطلع إلى شيء من المعرفة الدينية بصورة عامة ، والمعرفة الدينية المتعلقة بتخصصاتهم العلمية المختلفة بصورة خاصة ؛ فإن للشريعة الإسلامية توجيهها الخاص للعلوم الكونية ، ولا يعني كونهم طلاب دراسات عليا أنهم ليسوا في حاجة إلى علوم شرعية ، وحجة القائلين بالاكتفاء بالكليات الشرعية الموجودة حالياً في الجامعات السعودية ، تقابلها أيضاً حجة القائلين بالاكتفاء بالابتعاث والتخصصات العلمية والتقنية الموجودة في الجامعات السعودية الأخرى .

           إن أزمة الأمة الإسلامية اليوم ليست أزمة تقنية فحسب ، بل هي أزمة دينية بالدرجة الأولى ، تحتاج معها الأمة إلى علماء كبار ، قد بلغوا درجة الاجتهاد ، فيواكبوا بفقههم الناضج تقدم الأمة التقني ، ويبصروا الباحثين في العلوم الكونية بضوابط الانطلاقة العلمية ، ويمدونهم بالفتاوى والآراء الفقهية اللازمة لسـير عجلة التقدم التقني ؛  فإن المسلم في انطلاقته العلمية محكوم بإرادة الله تعالى الشرعية ، التي تضبط مسيرته البحثية من جهة : الهدف ، والوسيلة ، والممارسة ، وهذا النوع من الفقه العالي يتطلب فقهاء على درجة عالية من الإعداد العلمي في المجالات الشرعية ، إضافة إلى إلمامهم الكافي بتخصصات الجامعة العلمية التي تفتقر إلى الاجتهاد الفقهي ، فإذا جمع الفقيه بين هذين المجالين : استطاع – بتوفيق الله تعالى – أن يعطي الرأي الفقهي السديد الذي يدعم مسيرة الجامعة العلمية ويسددها  .

          ولقد كان العالِم المتخصص في العلوم الكونية في التاريخ الإسلامي يجمع بكفاءة بين تخصصه وبين العلوم الشرعية ، فلم يكن غريباً أن تشاهد الطبيب المفسّر ، أو الكيميائي المحدّث ، أو الفلكي الفقيه .. ، فلم يكن مستهجناً في السابق الجمع بين العلوم الكونية والشرعية ، في الوقت الذي عجزت فيه أوروبا أن تصطحب دينها المحرّف في نهضتها الحضارية المعاصرة ، حين اضطرت للتخلّص من تراثها الديني في سبيل الرقي الحضاري ، بيد أن الأمة الإسلامية لم تعرف هذه الأزمة العلمية ، والمأزق الحضاري ، والصراع الفكري بين ما هو ديني ، وبين ما هو دنيوي ؛ فالشريعة الإسلامية لم تكن قط عائقاً في طريق التقدم والنهضة الحضارية ، بل هي السبب الرئيس والسر الوحيد وراء تفوق الأمة في السابق ؛ ومن المعلوم الثابت من دين الإسلام أنه لن يكتب لأمة الإسلام نهضة حضارية في أي عصر بغير دينها ، مهما حاولت ذلك ؛ إذ إن دينها هو سبيلها الوحيد للنهضة والرقي .

             إن من الضروري – ونحن نتعامل مع شريعة الإسلام – أن ندرك أن الشريعة جاءت شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية ، مستوعبة بأحكامها الشاملة كل شئون الإنسان ، تعالج كل قضايا ومشكلات الأفراد والجماعات ، وتتناول بتجددها واقع المجتمعات ومستقبلها ؛ ولهذا لا يستغرب أن يكون للشريعة حكم يشمل أخلاق الإنسان  وسلوكه ، ولباسه ، وتعامله ، ولا يُستهجن أن يكون لها حكم يضبط العلاقة بين الجنسين ، ويلزم المرأة بالحجاب ، ويمنع الاختلاط بين الجنسين ، لاسيما في قاعات الدراسة والمعامل ، كما هو مطبق وقائم في الجامعات والكليات السعودية الأخرى .

        إن سماحة الشريعة الإسلامية لا تعني الانفلات من أحكامها أو الالتفاف عليها؛ فالشريعة ما جاءت لتوافق هوى الإنسان ، وإنما جاءت - في كثير من الأحيان - مخالفة لهواه ، ومعاكسة لرغباته وميوله ؛ ولهذا لا ينبل الإنسان ويرتقي بذاته إلا حين يخالف أهواءه ، ويضبط شهواته ، ويرتفع بنفسه عن ساقط الأخلاق ، وعجيب جداً أن يزكي بعض الناس أساتذة وطلاب هذه الجامعة الجديدة حين يبيحون لهم الاختلاط ، ويصفونهم بالكمال الخلقي والسلوكي ، الذي يعصمهم من الزلل ، متغافلين عن الطبيعة الإنسانية الخطاءة ، التي تستحيل معها الاستقامة الدائمة ، إضافة إلى أن الجامعة تضم فئات متنوعة من الناس ، ينتمون إلى أديان ومذاهب وثقافات مختلفة ، غالبها لا يقر بالمحرمات التي نقر بها ، ولا يحب أن يتقيد بالسلوكيات التي نتقيد بها ، فإذا ترك حبل الجامعة الأخلاقي على غاربه ، وأعطي الجميع الحرية السلوكية الكاملة فلا تسأل حينئذٍ عن فوضى الأخلاق التي سوف تعم الجامعة إذا لم يُلزم الجميع باحترام نظام البلاد الإسلامي .  

        ثم إن هذه الجامعة لم تنشأ لتكون خارج نظام البلاد وحكمها الشرعي الذي تشرُف به ، بل هي – كما هو مفروض – مثل الجامعات السعودية الأخرى محكومة بالشرع الحنيف ، وكل من فيها من المسلمين وغيرهم يحترم نظام البلاد ، ويقدر مكانتها الإسلامية ، فهي بلاد الحرمين الشريفين ، وقبلة المسلمين في كل مكان .

        لقد بالغ الإعلام كعادته في تعظيم شأن هذه الجامعة ، محمّلينها أسباب نهضة البلاد ، ومتجاهلين – في الوقت نفسه – أن شروط النهضة أكثر من مجرد جامعة متفوقة تُدار بأيدي أجنبية ؛ إذ النهضة ثقافة شاملة لكل جوانب الشخصية الإنسانية ، تشمل العقيدة والخلق والسلوك ، كما تشمل العلم والمعرفة والإنتاج ، فالهدف الأسمى للجامعة ليس مجرد تخريج باحثين متفوقين ، وصنَّاع مهرة ، بل الهدف الأسمى هو إخراج إنسان مسلم متعلم منتج متقن ، وفيٌ لوطنه ، محب لأمته ، يعكس بسلوكه وعمله وإنتاجه أخلاق الإسلام وتعاليمه ، ثم إن هذه الجامعة الفتية بكل ما تحمله من تفوق لن تتجاوز بأي حال ما تقدمه الجامعات السعودية الأخرى مجتمعة ، إضافة إلى أن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المعقد سوف يقف – غالباً - في وجه التطبيق الواقعي لمقتضيات نتائج أبحاث الجامعة وتوصياتها ، لاسيما المتعارض منها مع مصالح الفئات المتنفذة في البلاد ، فكم هي الدراسات والأبحاث المتفوقة التي اصطدمت بالواقع الصعب ، فارتدت راجعة إلى أرشيفات مراكزها العلمية  .

         إن الجامعة بإدارتها الأجنبية ، وتنوع أساتذتها وطلابها ، وتشكيلة ثقافاتها المتعددة : غرس غريب في بيئة إسلامية محافظة ، حيث تقدم الجامعة – إلى جانب المناهج العلمية -  منظومة أخلاقية وسلوكية مغايرة لطبيعة المجتمع الذي غرست فيه ، وهذا من شأنه إحداث نفرة اجتماعية تجاهها ، أوربما أحدثت خلخلة ثقافية في المجتمع ، تدفعه لمراجعة مبادئه وقيمه التي نشأ عليها ، في حين أن الأصل في المنشآت العلمية أن تنطلق من تراث الأمة وثقافتها بالدرجة الأولى ، تؤصّل وتقوي جذورها ، وتربطها بتاريخها وحضارتها ، وبعد ذلك تقدم المعرفة العلمية والتقنية في قوالب متفوقة ، تحترم دين الأمة وعقيدتها ، ومن المعلوم بداهة أن الأستاذ والطالب الأجنبيين لن يأتيا هذه الجامعة مفرغين من ثقافتهما الأصلية ، مجردين من تراثهما القومي ، بل على العكس من ذلك، كل منهما يأتي محملاً برسالة من تراث أمته ، ليبثها في ربوعنا .

         إن جمعاً كبيراً من العلماء المتفوقين في عالمنا الإسلامي ، ممن يحملون ثقافتنا وتراثنا أولى بالتدريس في هذه الجامعة ، كما أن الطلاب المسلمين هم الأولى بملء مقاعدها ، وإلا فما المصلحة من منح طالب أجنبي عن أمتنا ليدرس في الجامعة ، هل تراه سوف يعود علينا بخير ، أم أنه ينتظر أن يعود ليخدم بلده ؟

        إن الغيورين في هذه البلاد يهتفون بالقائمين على هذه الجامعة – لاسيما وأنها في بداية انطلاقها - أن يعيدوا النظر في : مناهجها ، وتخصصاتها ، وطبيعة نظامها ، ونوع إدارتها ، فالمراجعة بكل الأحوال مطلوبة ، لاسيما لمثل هذا الصرح العلمي الكبير ، الذي عُقدت عليه آمال كبيرة .

أسأل الله تعالى التوفيق للجميع نحو سداد القول والعمل ..