الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ لبرلة السلفية 2/3
لبرلة السلفية 2/3
إن الذي يتأمل عبارات الأستاذ /المحمود لا يشك أنه يقدم الليبرالية على الإسلام أو يسوي بينهما ، بل يعتبر أن الإسلام مجرد مجموعة ثوابت معروفة ، وكبائر معلومة ، ونصوص محددة يمكن لليبرالية أن تحملها وتحتضنها وتنهض بها، ويجزم بكل يقين وجرأة أنها المخرج الوحيد الذي يعتق الأمة الإسلامية من براثن التخلف والرجعية والظلامية ، لذا يرى الصبر عليها ، والجهاد في سبيلها ، حتى تتحقق في واقع الحياة العربية والإسلامية ، إضافة إلى تبشيره في المستقبل بقدوم الليبرالية لتعم العالم الإسلامي بفضائلها ، في الوقت الذي يبشر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم المسلمينَ بظهور دينه على الدين كله .
لقد وصف الليبرالية الغربية بأنها عززت وعي الإنسان بقيمته ، وحافظت على آدميته ، وأنقذت البشرية من عهود الفقر المرض والجهل والرق ، أقول : إذا كانت الليبرالية فعلت هذه الفضائل فماذا فعل الإسلام ، وهل يُفهم من هذا التصريح أن الليبرالية تصلح لأن تكون بديلاً للإسلام ؟
وحتى التاريخ الإسلامي لم يسلم من استنقاصه ولمزه ، في وصف الحضارة الإسلامية ـ التي أنصفها عدد كبير من الغربيين ـ بأنها إنجازات متفرقة لا قيمة لها ، ولم تبن شيئاً علمياً ذا بال يسجل لها ، فإذا كان المسلمون في تاريخهم لم يصنعوا شيئاً حقيقياً للحضارة فمن هذا الذي حمل الحضارة الإنسانية عشرة قرون ، من العالم القديم إلى العالم الحديث ؟ ثم أين يصنف الأستاذ / المحمود عصْري النبوة والراشدين في السلم الحضاري ؟ فإن أهل التوحيد مجمعون على أنها – بكل المعايير – في قمة الحضارة الإنسانية ، ويكفيهم شهادة الله لهم بالخيرية .
ولم ينس الأستاذ / المحمود في حديثه ذكر المراكز الصيفية - وكعادة الليبراليين - فوصفها بالتكفيرية ، وتوليد الإرهاب ، وربط بينها وبين تطرف بعض الشباب وانحرافهم ، فأقول : إذا كانت المراكز الصيفية ، والأنشطة الطلابية هي السبب في تخريج التكفيريين : فمن خرج التكفيريين الأوائل: ذو الخويصرة التميمي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجحافل الخوارج المارقين زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين لم يكن هناك مراكز صيفية ، ولا علماء تقليديين ظلاميين ، ولا قنوات إسلامية إرهابية !
لقد شن حرباً شديدة على كل ما هو ديني قائم في مجتمعنا ، لا يكاد يستثني شيئاً، وكأنه يؤسس لثورة شعبية على المبادئ الإسلامية ليقعّد مكانها المبادئ الليبرالية ؛ فلقد صرح بوضوح دون مواربة شرف الانتماء إلى الليبرالية ، والمسلم لا يعرف شرفاً يعتز به إلا انتماءه إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
كما صرح بوضوح أن المبادئ الإنسانية الحقة تخلقت على يدي الروح الليبرالية التي اتسمت بها الثقافة الغربية في قرنيها الأخيرين ، وبناء عليه فقد وصف المجتمعات الغربية بأنها أفضل المجتمعات الإنسانية ، وأكثرها ثراء بالإنسانية ، وإني لأتعجب من هذه التصريحات الجريئة ، التي تكذبها الحقائق الواضحة في أن الغرب يغط في ضلال واسع ، ومسالك في غاية البؤس والفساد ، ويكفيهم عاراً في قرنيهم الماضيين استعبادهم للأفارقة السود الأحرار بغير حق ، وإغراقهم في البرجماتية النفعية البغيضة ، وأسوأ من هذا كله تلبّسهم بالشرك الأكبر ، وهذا أعظم فساداً وأضل سبيلاً ، فكيف يسوغ لمثل هؤلاء أن يقودوا البشرية نحو السعادة ، وقد عانت الإنسانية المعاصرة من سوء قيادتهم في القرنين الماضيين وبداية هذا القرن : حروب طاحنة ، وقتل ذريع ، ومؤامرات قذرة ، وتفسخ أخلاقي، وفساد اقتصادي ؟ فأي إنسانية يتحدث عنها الأستاذ / المحمود ، إلا إذا أراد أن يعتبر التقدم التقني عذراً يغفر كل سيئات الغرب !
والعجيب أنه كثيراً ما يعتذر عن الغرب في تقصيره في تطبيق المبادئ التنويرية التي يتنادى بها، وينظّر لها ؛ زاعماً صعوبة ذلك في الطبيعة البشرية ، أقول : إذا تعذّر تطبيق هذه المبادئ عندهم وهم أهلها فهو عندنا أصعب وأبعد ، ثم لماذا لا يعتذر الأستاذ / المحمود عن إخوانه المسلمين حينما يقصرون في تطبيق مبادئهم الإسلامية كما اعتذر عن الغربيين ؟!
وإني أتساءل أين قيمة التوحيد ، التي هي أعظم قيمة في الوجود ، قامت عليها السماوات والأرض ، وقام من أجلها سوق الآخرة ، أين هذه القيمة الكبرى من الفكر الليبرالي ، فلو أن الأستاذ /المحمود استحضر خطر الشرك ، وعظيم فساده للدين والدنيا لما تجرأ على مثل هذه العبارات الغليظة .
لقد أبصر صلى الله عليه وسلم صحيفة من التوراة في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فيها شيء من المواعظ والإرشادات ، الموافقة لما جاء به الإسلام ، ومع ذلك غضب عليه وعاتبه بشدة، فكيف لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأستاذ / المحمود وهو يقترح عليه الليبرالية الغربية لتكون وعاءاً يحمل ثوابت الإسلام ؟
إن الفرق في غاية الاتساع بين أن يلتقط المسلم الحكمة الصحيحة حين يجدها من أي مصدر كان ، وبين أن يرتمي بكامله منطرحاً في قالب ثقافي مناهض لأصوله وثوابته الدينية.
ولا بد أيضاً من التفريق بين ما هو علمي ثابت مشترك بين جميع البشر كالعلوم الكونية التي لا تتأثر عادة بعقائد أهلها وتصوراتهم الدينية ، وبين ما هو ثقافي أممي ، يخص كل أمة على حدة ، ويتأثر بصورة مباشرة بالمعتقدات والعادات والتقاليد ، حتى إن الحكومة الفرنسية تضج من غزو الأفلام الأمريكية ، ويخرج رئيسها السابق من القاعة مغضباً حين سمع رئيس الوفد الفرنسي يلقي كلمته باللغة الإنجليزية ، إنها الغيرة على الخصوصية بين شعبين بينهما من التشابه والتقارب أكثر بكثير مما بيننا وبينهم .
ومع كل ذلك فإني أتحدى الأستاذ / المحمود أن يأتي بقيمة من قيم الليبرالية - مما يتفق عليه العقلاء - لا يكون لها أصل في ديننا فقد كُفينا ، وإنما المسلمون في حاجة إلى من يجدد لهم دينهم ، فيحيي ما اندرس منه ، ويقترح البرامج الرائدة والإبداعية التي تعين المسلمين المعاصرين على النهوض بدينهم : عقيدة وسلوكاً ، فيخرجون بذلك من أزماتهم الحضارية الخانقة .
إن الذي أفهمه من مصطلح الليبرالية أنه الحرية بمعناها الواسع ، الذي يتجاوز مجرد الحدود السياسية والاقتصادية ليشمل كل ميادين الحياة العامة ، ويتجاوز الناحية الفكرية عند الإنسان ليشمل كل جوانب شخصيته ، بحيث يصبح الليبرالي سيد نفسه ، لا يحده في انطلاقته الحرة إلا بدايات حريات الآخرين ، فله الحق في كل عمل ونشاط - أياً كان - ما لم يضر الآخرين ، فهي بهذا المفهوم الواسع تحدّ من السلطتين السياسية والدينية التي تضيق على الفرد حريته ، وتحد من انطلاقته الشاملة ، وهذا المفهوم الواسع للحرية يتعارض بصورة صارخة مع الفكرة الإسلامية ، التي تلزم أهلها بالتكاليف والقيود ، التي تخالف في الغالب رغباتهم وأهواءهم .