الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ الـعـلبة المشئومـة
في صباح يوم مشرق، ومع اندفاع الطلاب نحو فصولهم الدراسية، وإذا بمراسل إدارة التعليم يحمل إلى مدير المدرسة خطاباً عاجلاً، فما أن قرأه المدير حتى قرر عقد اجتماع عاجل بالمدرسين، فما إن اجتمع الجميع، قرأ المدير الخطاب الذي جاء فيه:
تعميم عاجل لكافة المدارس الثانوية
ثبت لدى الوزارة تنامي ظاهرة التدخين في المدارس الثانوية، بصورة تستوجب وقفة تربوية حازمة مع هذه الظاهرة السيئة، وقد رأت الوزارة تخصيص أسبوع كامل ضمن حملة شاملة لتوعية الطلاب بمخاطر تعاطي الدخان، وحثهم على الإقلاع عنه، وقد رأت الوزارة تخصيص الحصة الأخيرة من كل يوم ضمن الأسبوع المقترح للقيام بهذه الحملة.
نرجو تفضلكم بتنفيذ رغبة الوزارة، وإشعارنا بعد نهاية الأسبوع المشار إليه بنتائج الحملة، ضمن تقريري مفصل بما تم إنجازه.
تفاعل المدرسون مع التعميم، وأخذوا يعلِّقون عليه فيما بينهم، ويتحدثون عن مشاهداتهم المتكررة لجرأة بعض الطلاب على تعاطي الدخان داخل أروقة المدرسة وفنائها، وفي دورات المياه، وحول سور المدرسة.
اقترح مدير المدرسة أن يتولى هذه المهمة أحد المدرسين، من أصحاب الخبرة في استخدامات الوسائل التعليمية، والحاسب الآلي، بحيث يُجمع له الطلاب في الحصة الأخيرة في فناء المدرسة الداخلي، ليتولى عرض برنامجه التوعوي الثقافي، مستخدماً الصور والشرائح والعبارات المؤثرة، والموضحة لعواقب تعاطي الدخان.
وإذا بأنظار الجميع، بما فيهم مدير المدرسة تتوجه نحو الأستاذ/ ناصر، باعتباره صاحب خبرة سابقة، وتفوق في استخدامات الحاسب الآلي، والدخول على شبكات الإنترنت، إضافة إلى تعليقاته المتكررة لدى المدير والزملاء منذ سنوات عن مشكلة التدخين في المدرسة.
حاول الأستاذ/ ناصر أن يعتذر عن القيام بهذه المهمة، وأصرَّ على الاعتذار بطريقة ملفتة للنظر، ومع ذلك لم يعذره المجتمعون، ودعماً له تم تفريغه من حصصه في ذلك الأسبوع، لينشط لهذه الحملة.
ولما رأى الأستاذ/ ناصر إصرار الجميع على اختياره، ولم يجد بدّاً من الموافقة: شرع في جمع مادته العلمية حول التدخين ومضاره، فالتقى ببعض الأطباء، وراجع جمعية مكافحة التدخين، ودخل على بعض المواقع الإلكترونية المعينة بذلك، ثم أعدّ برنامجه التوعوي ليشمل الصور المعلومات، والبيانات والإحصاءات، ووزعه في جرعات على مدار أسبوع كامل، بحيث أن من تعرَّض للبرنامج بكامله لابد أن يتأثر بمضمونه الرائع.
وبدأ الأسبوع بيوم ناجح للبرنامج، وأبدى الأستاذ/ ناصر تفوقاً في الأداء والتفاعل، أكثر مما هو معروف عنه، وما أن مضى اليوم الثاني من البرنامج حتى خفَّت ظاهرة التدخين بالفعل، فقد لاحظ عمَّال النظافة قلَّة أعداد أعقاب السجائر في دورات المياه على غير العادة.
وما أن خُتم اليوم الثالث حتى أعلن بعض الطلاب إقلاعهم عن التدخين، وحضر جمع منهم في اليوم الرابع يعتذرون إلى مدير المدرسة عن تعاطيهم الدخان في أروقة المدرسة، ويتعهدون -بدافع من أنفسهم- بعدم التدخين، وقذف بعضهم بعلب السجائر أمام المدير، إشعاراً منهم بالإقلاع التام عن هذه العادة القبيحة.
وقد غمرت السعادة كافة المعلمين وإدارة المدرسة، وزادت غبطتهم وإعجابهم بالأستاذ/ ناصر صاحب الدور الأكبر في هذا البرنامج.
وبدأ مدير المدرسة بالفعل يكتب تقريره -كل يوم بيومه- لإدارة التعليم، عن برنامجه الموفق، مقترحاً أن يكون أنموذجاً تقتدي به إدارات المدارس الأخرى، واتصل على مدير تعليم المنطقة يدعوه لحضور اللقاء الأخير من البرنامج، ويلقي كلمةً بهذه المناسبة، فوافق بعد إلحاح.
وفي اليوم الخامس، ومع نهاية هذا البرنامج الناجح، وبحضور مدير التعليم ظهر الأستاذ/ ناصر أمام الحضور منتشياً فرحاً بإنجازه التربوي الكبير، ثم أخذ يختم آخر فقرات برنامجه، حيث أظهر تفاعلاً وحماسة أكثر من الأيام السابقة، حتى إنه تفاعل مع بعض المعلومات التي عرضها على الطلاب بصورة غير معتادة، حتى إنه من فرط انفعاله هذا اليوم سقطت منه نظارته، واهتز عقاله فوق رأسه، وكاد يسقط بذاته من فوق مسرح المدرسة.
وفي هذه الأثناء المثيرة، ومع بلوغ الطلاب قمة تأثرهم، ووصول إدارة المدرسة ومدير التعليم إلى أعلى درجات الرضا والارتياح: إذا بالأستاذ/ ناصر يتحرك حركة انفعالية سريعة تسفر عن قذف علبة من جيبه، لتسقط بين المسرح والجمهور، وما هي إلا لحظات حتى اكتشف من في الصفوف الأولى أنها علبة سجائر من نوع مشهور، ثم عمَّ الخبر الجميع، وقد سقطت العلبة المشئومة أمام مدير المدرسة، وكانت أقرب إليها من الأستاذ/ ناصر وهو فوق المسرح، وقد بدا عليه الارتباك والتلعثم ، فتناولها المدير ووضعها في جيبه، فكثر اللغط والحديث الجانبي، وأخذ بعض الطلاب يتنادون من جنبات الفناء بكلمات وجمل نابية، فأنهى مدير المدرسة اللقاء، وطلب من الطلاب الانصراف، فخرجوا يصيحون ويصفرون، في سلوكيات لم تعهدها المدرسة، وكان الغضب والاشمئزاز قد ملأ مدير التعليم، فانصرف مسرعاً من المدرسة دون أي تعليق.
وتوجه مدير المدرسة مثقلاً بوقع المفاجئة إلى مكتبه، فتبعه بعض الجريئين من الطلاب، يطالبون بعلب سجائرهم التي سلّموها للإدارة، فطردهم بعنف، وما انقضى ذلك اليوم حتى استنشق الجميع سحب الدخان تنبعث من جنبات المدرسة، حتى إن بعض الطلاب ممن لم يسبق لهم التدخين: عزموا على تجريبه، نكاية بإدارة المدرسة.
ثم جلس مدير المدرسة على مكتبه في هذا النهار العصيب، وتناول القلم ليتم تقريره، فما تراه يكتب عن هذا اليوم؟