الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ مشروعية الانتفاع بالحديث الضعيف في المجال التربوي
مقال الأشهر جمادى الآخرة ورجب وشعبان 1439هـ
مشروعيَّة الانتفاع بالحديث الضعيف في المجال التربوي
الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للخلق أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .. أما بعد ، فإن الوحي الإلهيَّ المبارك ينقسم إلى قسمين ؛ وحيٌ يُتلى ، ويتعبَّد المؤمنون بتلاوته ، وهو القرآن الكريم ، ووحيٌ آخر لا يُتلى ، ولا يُتعبَّد بتلاوته ، وهو السنة النبويَّة المُطهَّرة ، فهما يجتمعان في كونهما وحياً من عند الله تعالى ، غير أنهما يفترقان في حكم التعبُّد بالتلاوة (انظر: المستصفى للغزالي 1/129) ؛ فالقرآن يُتلى ، وهو كلام الله تعالى على الحقيقة ، فينال القارئ المُخْلص أجراً على مجرَّد تلاوته ؛ فبكلِّ حرف يقرؤه حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، والله يُضاعف لمن يشاء .
وأما السنة التي هي أقوال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأفعاله وتقريراته ، وما يلحق بذلك من أحواله وصفاته ، فهذه لا تُتلى على هذا النحو التعبُّدي ، وإنما هي كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بوحيٍ من الله تعالى ، غير أن للمُخْلص أجراً في الاطلاع عليها ، وفي تعلُّمها وتعليمها والعمل بها ، ومن ثمَّ في نشرها وإذاعتها ، فيدخل كلُّ ذلك في مفهوم العبادة من هذه الجهة ، وأما من جهة التعبُّد بالتلاوة ، فهذا خاصٌّ بالقرآن الكريم وحده ؛ إذ تلاوته نوعٌ من أنواع التعبُّد المقصود لذاته .
ولئن كان تعامل العالِم مع القرآن الكريم : ينصبُّ على تلمُّس فهمه ، والتبصُّر في معانيه ودلالاته ، والتدبُّر لمضامينه ومراميه ، ونحو ذلك من مقاصد الاهتداء والاسترشاد والإصلاح ؛ فإن التعامل مع السنَّة يزيد بواحدة على هذه المقاصد القرآنيَّة الجليلة ، من جهة مراعاة سلامة النصِّ النبوي ، وثبوت صحَّته عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، فهذه مهمَّةٌ تكليفيَّةٌ مُضافةٌ ، نيطت بالأمة للقيام بها ، ضمن باقي فروض الكفايات ؛ ففي الوقت الذي تكفَّل فيه الله تعالى – بفضله - حفظ كلامه في كتابه المُنزَّل : ناط حفظ كلام رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأحواله لأتباعه المؤمنين ، فكان من ذلك قيام طائفة من العلماء بهذا الفرض العظيم ، ممَّن سُمُّوا - بعد ذلك - بأهل الحديث ؛ حيث تفرَّغوا قاصدين لهذه المهمَّة الجليلة ، في حفظ هذا القسم من الوحي المبارك ، والاشتغال بعلومه ، ليبقى جنباً إلى جنب مع القسم الأوَّل : في مهمَّة بناء الإنسان المؤمن ، وتكوين المجتمع المسلم ، وفق النهج الذي أراده الخالق جلَّ وعلا من عبيده .
ونظراً لاختلاف هذه الطبيعة بين نوعي الوحي : اختلف تعامل العلماء معهما ؛ فكان نصُّ القرآن موضع إجماع الأمة بلا نزاع ، وأما السنة النبويَّة فكانت موضع نِزال العلماء المحدِّثين ، بين القبول والردِّ ، والجرح والتعديل ، والبحث والتنقيب ، والتخفُّف والاستكثار ، والحفظ والنسيان ، وهكذا .. فكانت طبيعة المهمَّة المنوطة بالأمة بشريَّة بامتياز - مع ما في هذه المهمَّة من التشريف والتكريم - تجري بجهود العلماء المحدِّثين ، ضمن قدر الله تعالى وتوفيقه لحفظ دينه كلِّه ، وبقاء حجَّته قائمة - بهما جميعاً - على العالمين إلى آخر الدهر .
ولئن كان حفظ الواحد من الأمة القرآن واستظهاره كأفضل ما يكون : ممكناً ومأذوناً فيه لأهل الهمم ؛ فإن حفظ الواحد منهم السنة كاملة على هذا النحو - المُتقن الشامل - بعيدة المنال ، لم تجتمع قطُّ لأحد من العلماء ، فلا بدَّ أن يخفى بعضها عن العالِم متْناً ، كما يخفى بعضها عليه فهْماً ، غير أنها - قطعاً – لا تخفى على مجموع الأمة : لا متْناً ولا فهْماً ، فالسنَّة محفوظة بمجموعهم لا بأفْرادهم .
ومن هنا دخل على السنَّة الاجتهاد البشري ، من جهة الجمع والقبول والفهم ، بكلِّ ما لهذه الجهود العلميَّة وما عليها من الصواب والخطأ ، فكان قبول المتن كما كان قبول الفهم : موضع اجتهاد بشريٍّ ، وساحة نِزالٍ علمي ، أبدع فيها المحدِّثون غاية الإبداع ، فلم تسبقهم قطُّ أمةٌ إلى مثل هذا العلم من الرواية والدراية ، على هذا النحو العلميِّ المُتقن الفريد ؛ سواء في جمع جملة السنَّة بأسانيدها في أوَّل الأمر ، أو في نقدها وغربلتها في وسط الأمر ، ومن ثمَّ في فهمها وتوظيفها في الشرع المُتعبَّد به في نهاية الأمر ، فكلُّ مرحلة من هذه المراحل الثلاث : لم تكن جميع تفاصيلها الجزئيَّة موضع إجماع العلماء المجتهدين ؛ إذ لا بدَّ من التنازع العلميِّ فيما يقبل الاجتهاد ، فساحات نقد الأسانيد والمُتون ، ومجالات الفهم والاستنباط من النصوص : أوسع من أن يتَّفق الجميع على قول واحد في كلِّ مسألة منها ، فلم يكن هذا الاختلاف الاجتهادي بمطعن في السنَّة ، بقدر ما هو إثراءٌ علميٌّ ، وتنوُّعٌ فقهيٌّ ، وسعةٌ دينيَّة .
ومع ذلك انعقدت إجماعات في قبول السنة وفهمها ، كما انعقدت إجماعات أخرى في قبول القرآن وفهمه ؛ فالقبول بجملة الوحيين موضع إجماعٍ الأمة ، ثم تبقى القراءة القرآنيَّة الشاذة – التي لم ترد متواترة - موضع خلاف في حكم التلاوة والعمل ، ويبقى بعض السنَّة أيضاً محلَّ خلافٍ بين القبول والردِّ ، والاجتهاد في الاستنباط والفهم ، فصنَّف القُرَّاء في مجال القراءات القرآنيَّة المقبول منها للتعبُّد والمردود ، كما صنَّف المحدِّثون في مجال السنَّة النبويَّة نحو ذلك ، فوضعوا للسنَّة أربعة أحكام : الصحيح ، والحسن ، والضعيف ، والموضوع .
ومع ذلك لم يتَّفقوا على درجة كلِّ حديث بعينه ، ممَّا وقع خارج الصحيحين للإمامين البخاريِّ ومسلم ، فما زالت طائفة من الأحاديث البينيَّة تتردَّد بين الدرجات الأربع ، وفق شروط المحدِّثين للقبول والردِّ ، فما ورد منها مُتقناً بطرق الرواة الثقات : اكتسب قداسة فوق ما ورد منها دون ذلك من الحفظ والإتقان ، فبقدر ما يقرب الخبر من درجة الصحَّة : يكتسب مزيد قبول واحترام ، وينقص ذلك منه بقدر بُعده عن الصحَّة مُنْحدراً نحو الوضع .
ويمكن تمثيل ذلك بمقياس مُتدرِّج من مائة درجة ، فيكون الصحيح من الأخبار المرويَّة هي الأقرب إلى المائة ، فما كان منها متواتراً بلغ القمَّة على المقياس ، ثم يلحقها ما دون ذلك في الصحَّة والحُسْن من أحاديث الآحاد ، ثم ما دون ذلك من المرويَّات البينيَّة ، التي تتوسَّط المقياس بين درجتي الحُسْن والضعف ؛ لاختلال شيء من وصفيْ العدالة والضبط ، أو أحدهما في حقِّ بعض رجال السند ، حتى ينتهي الخلل ببعض المرويَّات إلى الرفض المُطْلق ، برواية الكذابين والأفَّاكين .
وما كان من الأخبار فوق المُختَلق المصنوع ، فجاء واهياً أو منكراً ، فهو إلى الرفض أقرب منه إلى القبول ، غير أنه ليس بمنزلة المكْذوب الموضوع ، فليس كلُّ الأحاديث الضعيفة في درجة واحدة من الاعتبار والتقدير ؛ فما كان منها مُتهالكاً شديد الضعف : أُلحق بالموضوع ، وما كان خفيف الضعف مُتماثلاً : أُلحق بالحسن ؛ لأن الشيء – في العادة - يأخذ حكم الأقرب إليه ، وينال صفة الأشبه به .
وهكذا تبقى الأحاديث البينيَّة على درجات هذا المقياس المُقترح : موضع اجتهاد العلماء المُحدِّثين ، وفق مراتب علمهم من جهة ، وشروط قبولهم لشخص الراوي من جهة أخرى ، فهم بين مُتشدِّد في ذلك ومتوسِّطٍ ومُتساهل ، كلٌّ يغترف من حصيلته العلميَّة ، وفق ما يخلُص إليه اجتهاده ، في ضوء ما يُمليه عليه دينه الذي يدين الله تعالى به ، فلا تثريب على مجتهد فيهم ، أصاب في اختياراته الاجتهاديَّة أم أخطأ ، فهم جميعاً بين أجْري الإصابة والاجتهاد ، لا يفوت الواحد منهم – بإذن الله تعالى – واحدٌ من الفضْليْن .
ولا يصحُّ هنا نسبة الإحسان بإطلاق إلى مجتهد مُتشدِّد في قبول الأخبار ؛ لخوفه من لحوق الوعيد به ، في قبول خبر مكْذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيحتاط في ذلك للدين : بردِّ كلِّ ما يشكُّ في تمام نسبته إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم ، حتى وإن احتملت بعض الأخبار شيئاً من القبول .
ولا يصحُّ أيضاً نسبة الإحسان بإطلاق إلى مُتساهل في قبول الأخبار ؛ لخوفه من لحوق الوعيد به في ردِّ بعض ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لاحتمال أنه قاله ، أو قال بعضه ، أو قال نحوه ، فإنه بقدر احتمال شيء من ذلك : يكتسب الخبر - المُتردَّد فيه - قداسة واحتراماً ، فلا يُقْطع بكذبه ، ولا يُقاس رواته على الساقطين ، ولا يُدرجون مع الكذابين ؛ فإن التسوية في ردِّ الخبريْن الضعيف والموضوع : تقتضي التسوية بين الراوي الضعيف والكذاب ، فلا بدَّ من التفريق بين خبر باطلٍ من كلِّ وجه ، وآخر يُحتمل صدقه بوجهٍ من الوجوه .
ولهذا فرَّق الإمام مسلمٌ بوضوح في مقدمة صحيحه (ص: 5-8) بين ثلاث طبقات من رواة السنَّة النبويَّة ؛ فذكر أهل الحفظ والإتقان من كبار المُحدِّثين الثقات ، ممَّن يُحتجُّ بهم في هذه الصناعة العلميَّة ، وذكر – في الجانب المقابل لهم - نقيضهم من الساقطين ، من أهل الكذب والوضع ، ممَّن يُطرح حديثهم ، فلا تحل الرواية عنهم للانتفاع بوجهٍ من الوجوه ، وذكر لهم أمثلة (انظر: التقريب للحافظ ابن حجر ص: 489، 560) ، وبين هاتين الفئتين المُتناقضتين : ذكر قسماً ثالثاً مُتوسِّط المقام بينهما ، فذكر ثلاثة منهم بأسمائهم ، فوصفهم بالعلم والصدق والستر ، ومع ذلك لم يرقَ بهم إلى من هم فوقهم من طبقة ثقات المحدِّثين الكبار ، أهل الحفظ والإتقان ، كما أنه لم ينزل بهم إلى من دونهم من أهل الكذب والزندقة والفجور ؛ فكانت ثمرة هذا التفريق عنده : هي الإذن في الرواية عنهم ، على أن تأتيَ مرويَّاتهم درجة ثانية ، مُلْحقة كشواهد ومُتابعات لمرويَّات المحدِّثين الثقات (انظر: تدريب الراوي للسيوطي 1/97) ، فيُتوسَّط بها بين الصحيح والحسن ، وبين الواهي والموضوع .
وبالرجوع إلى كتاب التقريب للحافظ ابن حجر (ص: 456، 542، 696) ، في الحكم على هؤلاء الرواة الثلاثة ، الذين ذكرهم الإمام مسلمٌ مثالاً في مقدِّمته (ص: 5) لهذه الفئة المتوسِّطة من طبقات الرواة ، مُجيزاً الرواية عنهم وعن أمثالهم ، حتى خُرِّج لهم ضمن جملة دواوين الإسلام المُعتبرة ، فإذا بهم رواةٌ ضُعفاء مُخْتلطون ؛ فأحدهم اختلط جداً حتى تُرك ، وآخر وُصف بالضعف والتشيُّع ، غير أنهم ليسوا بكذابين ولا وضَّاعين ، فهذه فوارق دينيَّة وعلميَّة لا بدَّ للمشتغلين بالحديث وعلومه ، والمقلِّدين لهم من التربويين مراعاتها ؛ فليس الرفض المطْلق صواباً ، وليس أيضاً القبول المطْلق صواباً ، وإنما هي منزلة دينيَّة وعلميَّة مُتوسِّطة بينهما .
ولهذه الاعتبارات المُحتملة : بقيت طائفةٌ - غير قليلة - من الأحاديث في مُنتصف المسافة على هذا المقياس بين الصِّحة والوضع ، تقْترب من الحسن أحياناً ، فترتقي بمتابعات وشواهد ، وفق ما وضعه المحدِّثون من شروط التحْسين ومصطلحاته ، وتبعد أحياناً أخرى نحو الهبوط ، فيشتدُّ ضعفها إلى حدِّ النكارة والوهن ، غير أنها لا تبلغ حدَّ الكذب الصريح ، وبين هذين الطرفين مسافة رماديَّة اللَّون ، لا ترتقي أحاديثها فتُحسَّن ، ولا تهبط أحاديثها فتُنكر ، وإنما تُوصف بأنها ضعيفة لاخْتلالٍ ما في بعض رواتها ، من جهة ضبطهم لمرويَّاتهم وإحْكامهم لها ، أو من جهة عدالتهم في دينهم وأخلاقهم ، أو لشذوذ يعرض لبعض المرويَّات في مُتونها ، إضافة إلى اعتبارات النقَّاد الحُذاق في أبواب العلل ، التي قد تنْزل بها الأخبار عن كمال السلامة إلى الضعف ، فلا يتوافر للخبر من هذه الأخبار شرط الحسن ، فضلاً عن شرط الصحيح .
والخبر المرويُّ ضمن هذه الطائفة الضعيفة من الأحاديث ، إذا أمكن إدراجه ضمن أبواب الشرع الحنيف ، ولم يُعارض أصلاً شرعيًّا : فإنه حينئذٍ خبرٌ محترم يُنتفع به ، وأقلُّ مجالات الانتفاع به - عند المتقدِّمين الكبار كافَّة - في فضائل الأعمال المشروعة ، فيما فيه وعظٌ وترغيبٌ وترهيب ، وما فيه حثٌّ على عمل الخير والإصلاح ، وفق شروط وُضعت لضبط ذلك .
وربَّما تجاوز به بعضهم إلى مرتبة الترجيح به بين الأحكام ، وآخرون قدَّموه على القياس وآراء الرجال ، إذا لم يكن في الباب غيره ، وهذا كلُّه منهم إعمالٌ لهذه الطائفة الضعيفة من المرويَّات ، وما ذلك إلا لقُرْبها - شيئاً ما - من مشكاة النبوَّة ، وبُعدها عن الكذب الصريح ، الذي اتفق المحدِّثون على حُرمة روايته في شيء من المصالح الدينيَّة ، إلا أن يكون لغرض بيان فساده ، وفي هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (18/65-66) : ( فإذا رُوي حديثٌ في فضل بعض الأعمال المُستحبَّة وثوابها ، وكراهة بعض الأعمال وعقابها : فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه ، إذا رُوي فيها حديثٌ لا نعلم أنه موضوع : جازت روايته والعمل به ) ، إلى أن قال : ( فما عُلم حُسنه أو قُبحه بأدلَّة الشرع : فإن ذلك ينفع ولا يضرُّ ، وسواء كان في نفس الأمر حقًّا أو باطلاً ، فما عُلم أنه باطلٌ موضوعٌ : لم يجز الالتفات إليه ؛ فإن الكذب لا يُفيد شيئاً ، وإذا ثبت أنه صحيحٌ : أُثبتت به الأحكام ، وإذا احتمل الأمرين : رُويَ لإمكان صدقه ، ولعدم المضرَّة في كذبه ، وأحمد إنما قال : إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد ؛ ومعناه : أنا نروي في ذلك بالأسانيد ، وإن لم يكن محدِّثوها من الثقات الذين يُحتجُّ بهم ) ، ونقل الإمام ابن رجب في كتابه شرح علل الترمذي (1/92) قول الإمام ابن أبي حاتم - موافقاً له - : ( يجوز رواية حديث من كثرت غفلته في غير الأحكام ، وأما رواية أهل التهْمة والكذب : فلا تجوز إلا مع بيان حاله ، وهذا هو الصحيح ) .
وليست هذه التصريحات من أهل هذه الصناعة الشريفة تجري مجرى التساهل المذموم ، ومن زعم ذلك فقد أساء الظنَّ بالعلماء ، وإنما هي من الاحتياط الممدوح للسنَّة والتعظيم لها ، فيما يُحتمل أنه أو بعضه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وشبيهٌ بهذا : رواية كثير من العلماء للقراءة القرآنيَّة الشاذة ، بعد ثبوت الرسم العثماني ، فرغم أنها عند أكثر العلماء لا تُعدُّ قرآناً يُقْرأ بها ، ولا تُجزئ في صحَّة الصلاة ؛ إذ لا بدَّ لآي القرآن من التواتر كشرطٍ ضروريٍّ للتعبُّد بها ، ومع ذلك تُذكر القراءة الشاذة أحياناً ولا تُهْمل ، ويُستشهد بوجوهها عند ذكر القراءات المتواترة ، لا سيما ما وافق منها الرسم العثماني ، وكثيراً ما يأتون بها في تفسير بعض الآيات ، للدلالة على وجه من وجوه التفسير ، ضمن معنىً صحيح قد لا تُؤدِّيه القراءة المتواترة ، وقد اتَّفق جمهور العلماء على تدوين القراءة الشاذة ، والاحتجاج بها في المجالات اللغويَّة ، غير أنهم اختلفوا في اعتبارها دليلاً مُستقلاً في المجالات الفقهية والأحكام ، وأقلُّ ما يُقال فيها إنها كخبر الآحاد إذا ورد صحيحاً (انظر: الاختلاف بين القراءات لأحمد البيلي 112-118) ، فلا يصحُّ إسقاطها بإطلاق ، أو إهمالها من كلِّ وجه ، حتى تنزل الرواية القرآنية الشاذة إلى مرتبة كلام البشر !!
ولولا درجة ما من التقديس والاحترام لِما ورد عن بعض الصحابة – رضي الله عنهم – من القراءات الشاذة ، التي تلقَّوها عن الرسول صلى الله عليه وسلم : لَما حظيت هذه القراءات بهذا الاهتمام من العلماء ، ولَما وقع الخلاف بينهم حول اعتبارها – بوجه من الوجوه - من عدمه ، فالنسبة اليسيرة إلى الوحي المبارك – قرآناً أو سنَّة - لا بدَّ أن تُعطيَ النصَّ القرآنيَّ الشاذ ، أو الحديث الضعيف : شيئاً من التقديس بقدر ذلك .
ومن هذا الباب استحسن التربويُّون إعمال الحديث الضعيف – بهذه الاعتبارات العلميَّة – فيما يكون تربية للناشئة وتهذيباً لهم ، بما يحمله من المعاني الصحيحة ، اتِّباعاً لِما قرَّره أهل الحديث في هذا الباب ، فيما ذهبوا إليه من إعمال الحديث الضعيف فيما دون الأحكام الشرعيَّة والعقائد ، ممَّا يكون فيه الوعظ والترغيب والترهيب والفضائل ، ونحو ذلك ممَّا يندرج ضمن حقول المقاصد الدينيَّة ولا يتعارض معها ، لا سيما وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد أذن فيما هو أبعد من هذا ؛ في التحديث عن بني إسرائيل في غير حرج ، فيما لا يتعارض مع الثابت الصحيح من دين الإسلام ، رغم ما عُرف عنهم من الكذب والتحريف ، فلئن كان التحديث عن هؤلاء الكافرين جائزاً بضوابطه ، أفلا يكون التحديث - بضوابطه - عمَّن هم خيرٌ منهم أولى بالجواز ؟!
ولهذا لم يجد العلماء غضاضة في تسمية الخبر الضعيف بالحديث ، مع توسُّعهم في إعماله ، وعدم اشتراطهم بيان ضعفه على الدوام في كلِّ مناسبة ، لا سيما عند ذكره في فضائل الأعمال ، وما فيه ترغيبٌ وترهيب ، ونحو ذلك (انظر أيضاً: علوم الحديث لابن الصلاح 93) ، في الوقت الذي تحرَّجوا فيه غاية الحرج من وصف الخبر الموضوع بالحديث ، فضلاً عن إعماله في شيء من الشؤون الدينيَّة ، فهذه كتب السنن الأربعة ، التي اتفقت الأمة على اعتبارها - مع الصحيحين - دواوين الإسلام ، فقد اشتملت جميع الأربعة على قدر من الأحاديث الضعيفة ، وُضعت في أبوابها المُناسبة لها من هذه الكتب ، وقد تجاوز مُصنِّفوها - بالأحاديث الضعيفة - قضيَّة فضائل الأعمال ، إلى اعتبارها في بعض مسائل الأحكام ؛ فبوَّبوا على كثير منها أبوابهم ، حين لم يثبت عندهم من الأحاديث أمْثلُ منها في موضوعاتها ، مُستنبطين منها ما يدلُّ على تراجم تلك الأبواب ، وهذا فضلاً عن إيرادها بكثرة في هذه السنن ، فيما فيه فضيلة من أدب أو خُلُق أو وعظ .
كلُّ هذا كان مُتاحاً لطلبة العلم في غير حرج ، وما سبق لأحد من العلماء : أن ألزم الناس بالصحيحين دون باقي كتب السنَّة ومصادرها ؛ لوجود أحاديث فيها لم تصحُّ ، لا سيما وأنه قد مضى إلى الله تعالى أكثر أئمة السلف من فقهاء ومحدِّثين - ضمن القرون الثلاثة المفضَّلة - قبل ظهور الصحيحين ، فكيف وهما لم يستوعبا جميع الصحيح ، فضلاً عن أن يستوعبا جميع السنَّة المقبولة للاحتجاج والاعتبار ؟! فالمُعتبر من السنَّة أوسع وأكبر من أن يحويه كتاب واحد بعينه ، وبالاقتصار على الصحيحين يفوت طلاب التربية كثيرٌ من السنَّة المعتبرة .
والخشْية من بعض طلاب التربية : أن يكون هدفهم من الاقتصار في أبحاثهم العلميَّة على الصحيحين : هو ميلهم إلى الدعة ، وعدم رغبتهم في التنقيب التربوي في كتب السنَّة بصورة أوسع ، وضعف الهمَّة العلميَّة عن خوض هذا المجال العلمي الكبير ، وليست حقيقة قضيَّتهم مسألة الحرج من رواية الحديث الضعيف ، تقليداً لمن يرى ذلك من المعاصرين .
وقد قطع المزايدة في هذه المسألة : أمير المؤمنين في الحديث : الإمام البخاري في كتابه الأدب المُفرد ، الذي وضعه بهدف تهذيب الأمة وتربيتها ؛ فرُبع ما رواه فيه تقريباً ضعيف لا ينْجبر ، حسب تقسيم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني له - رغم أنه لا يُعدُّ من المتشدِّدين - فقد خرَّج فيه الإمام لجمع من الرواة المُتكلَّم فيهم ، ومع ذلك بوَّب على أحاديثهم أبوابه العلمية والأدبيَّة والأخلاقيَّة ، على نهجه الفريد المعروف في تراجمه المستنبطة من الأحاديث ، ومع ذلك لم يفلت عليه في الكتاب حديثٌ موضوع واحد ، فدلَّ بوضوح - من منهجه هذا - أنه كان يعلم تماماً ما يُروى من الأحاديث وما لا يُروى ، ومن يُخرَّج له من الرواة ومن لا تُقبل روايته ، ومن يُنْتقى من مرويَّاته ويُنتفع بها ، وما يُتْرك منها ويُعرض عنها ، ولهذا انفرد كلٌّ من الإمامين البخاري ومسلم في صحيحيهما بالتخريج لطائفة من الرواة المُتكلَّم فيهم بالضَّعف ، فأخذا عنهم وتركا ، وفق منهجيهما فيما تصحُّ روايته عن هؤلاء وأمثالهم (انظر: تدريب الراوي للسيوطي 1/92) ، فأيُّ عدل يُدَّعى في التسوية بين راوٍ ضعيف يَهِم أو يُخطئ أو ينْسى في بعض ما يروي ، أو آخر مجهول الحال ، وبين وضَّاع أفاكٍ أثيم ، معلوم الحال ، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
وأما شرطه في كتابه المشهور الجامع الصحيح ، حيث اشترط ألا يُورد فيه إلا حديثاً صحيحاً : لا يعدو أن يكون - شرطه هذا - نهجاً اتخذه في هذا الكتاب خاصَّة ، وليس في هذا بيان مذهبه في حكم رواية الحديث الضعيف ، لا سيما وأن تأليف كتاب الأدب المفرد جاء متأخِّراً بعد الجامع الصحيح ، وأبعد من هذا كتابه خلْق أفعال العباد ، الذي وضعه في سنة وفاته – رحمه الله تعالى – وقد حوى - هو الآخر – شيئاً من الأخبار الضعيفة ، رغم أنه كتابٌ في العقيدة ، فلو صحَّ إلزام الإمام البخاري بمذهب في هذه المسألة : لكان ما انتهى إليه من إيراد الضعيف أقرب لوصف مذهبه ، وإنما الأليق في تعيين مذهبه : أنه لم يخرج عن اتجاه أهل الحديث في مسألة رواية الضعيف بضوابطه ، وما اشترطه من الصحَّة في جامعه الصحيح : كان نهجاً خاصًّا بهذا الكتاب ، وليس فيه تعيين مذهبه في هذه المسألة .
ثم هذا شيخه الإمام الكبير أحمد بن حنبل ، وقد صنَّف المسند ليكون مرجعاً للأمة في الحديث حين يختلفون فيه ، فيكون حجَّة لمن أخذ به ، ومع ذلك شمل جمعاً من الأحاديث الضعيفة التي لا ترتقي (انظر: سير الأعلام للذهبي 11/329) ، بل ذهب بعض المحدِّثين إلى وصف عدد قليل من أحاديث المسند بالوضع ، ممَّا دفع بعض العلماء للذود عنه ، بوصف هذه الأحاديث – المطعون فيها - بالضعف وليس بالوضع ، كما فعل الحافظ ابن حجر في كتابه : القول المسدَّد في الذب عن المسند ، فلو كان الضعف كالوضع : فما وجه الذبِّ عن هذه الأحاديث لترقى إلى درجة الضعف ؟!
وهذا أيضاً فيه بيان خطأ من وصف الأحاديث الضعيفة في المسند بأنها في درجة الحسن ، ومعلوم عند أهل الاصطلاح في تعريف الضعيف – بعد استقرار المصطلح - أنه : ما فقدَ شرْطيْ الصحيح والحسن ، وموقع الحديث الحسن : وسطٌ بين الصحيح والضعيف ، فلو صحَّت هذه الدعوى : لكان نزول هذه الأحاديث – المطْعون فيها على المسند – إلى الضعف لا إلى الوضع ، وتكون المنافحة عنها لتحسينها ، وليس لدفع تُهْمة الوضع عنها !! وبذلك يكون مسند الإمام أحمد – بهذا الزعم - أصحَّ كتابٍ وأوسعه في السنَّة النبويَّة على الإطلاق !! لأن الحسن مُلحقٌ بالصحيح ، وعليه مدار غالب السنَّة المعتبرة للاحتجاج عند جماهير المحدِّثين والفقهاء ، ومعلوم أن مثل هذا الادِّعاء لم يقل به أحد مُعتبر القول .
وأما ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (1/252) من أن ما أطلق عليه الإمام أحمد بأنه ضعيف يُحتجُّ به : هو ما اصطلح عليه الإمام الترمذي بالحسن ، وهو عنده خبرٌ تعدَّدت طُرقه ، وليس بشاذ ، وليس في رواته متَّهمٌ ، وضرب لهذا الوصف مِثالاً بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، ومعلومٌ أن روايته مُحتجٌّ بها عند جمهور أهل الحديث (انظر: مقدمة ابن الصلاح 283) ، بل ذكر الإمام السيوطي في تدريب الراوي (2/257) قول الإمام البخاري : ( رأيت أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، وإسحاق بن راهويه ، وأبا عبيدة ، وعامة أصحابنا : يحتجُّون بحديثه ، ما تركه أحدٌ من المسلمين ) ، فهل يُضير حديثه أنْ وُصف بالضعيف وهو بهذه المنزلة من الأئمة الكبار ؟ فدلَّ عن أن تسمية الإمام أحمد له بالضعيف : مسألة فنيَّة متعلِّقة بالاصطلاح ، وليست مُتعلَّقة بقبوله حجَّة شرعيَّة ؛ لأن مصطلح الحسن لم يظهر آنذاك ، ولهذا اعتبره – مع باقي الأئمة – حجَّة شرعية ، ولو كان ضعيفاً على اصطلاح المتأخرين : لنزل عن رتْبة الاحتجاج إلى رتْبة الجواز .
ولهذا فإن حديثه سيق هنا في باب الاحتجاج به كحكم شرعي مقبول ، وليس لمجرَّد بيان جواز العمل به ، الذي يأتي درجة أو أكثر دون ما سيق من الآثار للاحتجاج الشرعي ؛ إذ لا بدَّ من التفريق بين ما يُحتجُّ به في الأحكام ؛ كحديث عمرو بن شعيب هذا - سواء سُمِّيَ ضعيفاً أو حسناً ؛ إذ التسمية لا تغيِّر الحقيقة القائمة ، ولا ترتقي بضعيف المسند - وبين ما يجوز العمل به ، فيما دون الحلال والحرام من الفضائل والرغائب والتهْذيبات ، فكلا الصنفين وغيرهما من أنواع الحديث ومراتبه : شملهم المسند ، عدا صريح المكذوب المُخْتلق .
إذا تقرَّر هذا : فما حاجة الإمام أحمد إلى رواية أحاديث ضعيفة في مسنده ، وتوقِّيه الأخبار المكذوبة ، حتى لم يُطعن على مسنده الذي ضمَّ قريباً من ( 28000) حديثٍ إلا في أحاديث محدودة معدودة ، ومع ذلك لم يُسلَّم بها للطَّاعنين ؟ فأقلُّ ما يُجاب به : هو جواز روايتها ما دامت في حدِّ الضعيف ونحوه ممَّا يُحتمل ، فضلاً عمَّا ذهب إليه كثيرون من إعمال بعض الضعيف فيما هو فوق مجرَّد الرواية ، وفْق شروط وضوابط وضعوها لذلك ؛ فإن نهج الإمام أحمد أنه كان يُقدِّم الحديث الضعيف والعمل به على آراء الرجال وأقْيستهم (انظر: فتح المغيث للسخاوي 1/147-148 ومقدمة تحقيق المسند لشعيب الأرنؤوط 1/79) ، فلولا هذا الاعتبار باحتمال نسبة هذه المرويَّات الضعيفة أو شيء منها إلى المعصوم - صلى الله عليه وسلم – ما رواها ولا قدَّمها ، بخلاف الموضوع المكذوب من الأخبار ، فقد كان يتوقَّاه ولا يرويه .
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (18/72) ، في تزكية مُصنَّفات الإمام أحمد : ( فإنه لا يذكر في مُصنَّفاته عمَّن هو معروفٌ بالوضع ، بل قد يقع فيها ما هو ضعيفٌ بسوء حفظ ناقله ، وكذلك الأحاديث المرفوعة : ليس فيها ما يُعرف أنه موضوع قُصد الكذب فيه ، كما ليس ذلك في مُسنده ، لكن فيه ما يُعرف أنه غلطٌ ، غَلِطَ فيه رُواته ، ومثل هذا يُوجد في غالب كتب الإسلام ، فلا يسلم كتابٌ من الغلظ إلا القرآن ) ، وقال الإمام الذهبي عن المسند في سير الأعلام (11/329) : ( ففيه جملةٌ من الأحاديث الضعيفة ، ممَّا يسوغ نقلها ، ولا يجب الاحتجاج بها ، وفيه أحاديث معدودة شبه موضوعة ، ولكنَّها قطرةٌ في بحر ) ، فهذا نهجٌ واضحٌ في التفريق بين الضعيف المُقارب ، وبين المكْذوب الخالص .
وفي استقراء سريع لأحكام المُحقِّق الشيخ أحمد شاكر على الألف حديث الأولى من المسند ، التي شملت مسانيد الخلفاء الراشدين الأربعة : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطائفة من مسند عليٍّ – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقد جاءت أحكامه على أسانيد هذه الأحاديث - فيما دون الصحيح منها والحسن وما أُلحق بهما - وفق الجدول أدناه :
في إسناده نظر |
إسناده ضعيف |
إسناده منقطع |
إسناده مُشكل |
إسناده فيه مجهول |
إسناده ضعيف جدًّا |
7 0.70 % |
191 19.10 % |
14 1.40 % |
1 0.10 % |
1 0.10 % |
18 1.80 % |
وبمراجعة هذه العيِّنة المُختارة من أحاديث المسند : يظهر بوضوح أن (23.20) بالمائة من هذه الألف حديث لم تبلغ درجة الحسن لغيره ، فضلاً عن أن تبلغ درجة الصحَّة عند الشيخ أحمد شاكر ، فهي مؤشِّرٌ لما وراءها من المرويَّات ، والتي – غالباً - لن تخرج كثيراً عن هذه النسبة بارتفاع أو انخفاض ، إلا أن يكون شيئاً يسيراً ، ومع ذلك أثبتها الإمام أحمد في مسنده مع الصحيح والحسن ؛ لتكون – في الجملة - مرجعاً للأمة في الحديث عند الاختلاف .
وممَّا يُؤكِّد هذه النتيجة : تحقيق الشيخ شعيب الأرنؤوط وفريقه للمسند ، فقد أشاروا في غالب مقدِّمات المجلَّدات المُحقَّقة إلى عدد الأحاديث الصحيحة والضعيفة ، والأحاديث الأخرى التي توقَّفوا في الحكم عليها ، فلم يخلُ مجلَّدٌ من عدد ما من الأحاديث الضعيفة ، وما دونها من درجات الضعف والوهن ، ممَّا لم يجدوا لها ما يجْبرها لترتقي ، حتى خلصوا في مقدمة التحقيق (1/68-70) إلى أن أحاديث المسند تنقسم إلى ستة أقسام ؛ بدءاً من الصحيح لذاته ، وانتهاءً بما يقرُب من وصف الموضوع !! ثم علَّقوا على ذلك بقولهم : ( أما القضيَّة التي أُثيرت قديماً حول ما إذا كان في المسند أحاديث ضعيفة أو معلولة ؟ فهذا ممَّا يُسلِّم به من له معرفة بهذا الشأن ) .
ورغم اختلاف منْهجي التحقيق بينهما ، وتوسُّع فريق الشيخ الأرنؤوط في التخريج ، واستدراكهم لما يُمكن استدراكه على اجتهادات الشيخ أحمد شاكر ، وجبْرهم لبعض الأحاديث ، ومع ذلك لم يختلف إجمالي نتائج هذه الألف حديث من أوَّل المسند : إلا في حدود (6) بالمائة فقط ، فالمرويَّات الضعيفة وما دونها في الدرجة بلغت (17) بالمائة ، على النحو الآتي :
إسناده ضعيف |
إسناده منقطع |
إسناده ضعيف جداً |
إسناده مسلسل بالضعفاء |
إسناده ضعيف جداً مسلسل بالضعفاء |
إسناده ضعيف ومتنه منكر |
إسناده ضعيف جداً شبه موضوع |
إسناده ضعيف ومتنه منكر شبه موضوع |
150 15 % |
3 0.3 % |
10 1.0 % |
1 0.1 % |
1 0.1 % |
1 0.1 % |
3 0.3 % |
1 0.1 % |
ورغم أن نسبة الأحاديث الضعيفة وما دونها في الدرجة – في هذا الجدول – أقلُّ من الجدول السابق بنسبة (6) بالمائة ؛ فإن صيغ تضْعيف بعض الأسانيد والمُتون جاءت شديدة للغاية ، تصل في بعضها إلى حدِّ الوصف بالنكارة وشبه الوضع ، في حين كانت أشدُّ عبارات تضْعيف السند في أحكام الشيخ أحمد شاكر : هي الوصف بضعيف جداً ، فهذه موازنة بين التحْقيقيْن – في هذه الألف - لا بدَّ من ملاحظتها ؛ في من توسَّع في تضْعيف بعض الأحاديث ولان في الحكم عليها ، وفي من ضيَّق في تضْعيفها واشتدَّ في الحكم عليها .
ولا يصحُّ هنا أن يُقال : إن مجرَّد الجمع كان هو هدف الإمام أحمد في مسنده ، فلو صحَّ هذا : لوضع فيه جميع محفوظاته التي بلغت عشرات الألوف ، ولجاء حجم المسند موسوعة حديثيَّة لا مثيل لها ، وإنما كان نهجه الانتقاء من مرويَّاته الأفضل منها والأحسن ، ثم الأمثل فالأمثل ، ممَّا يصحُّ الرجوع إليه ، ويجوز الأخذ به للانتفاع بوجه من الوجوه الشرعيَّة ، ولو أراد الاقتصار على الصحيح من مرويَّاته : ما عجز عن ذلك ، ولكان هذا هو الأيسر عليه ، وإنما أراد كتاباً للأمة يصحُّ الاحتكام إليه في قبول الأحاديث وردِّها ، ممَّا تجوز روايتها على نحوٍ ما ، ومع ذلك لم يزعم أنه جمع في المسند كلَّ السنَّة المقبولة ، فهذا لم يحصل لأحد قطُّ .
وقد قال - رحمه الله - لولده عبد الله عن منهجه في المسند : ( قصدت في المسند الحديث المشهور ، وتركت الناس تحت ستر الله تعالى ، ولو أردت أن أقصد ما صحَّ عندي : لم أروِ من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء ، ولكنَّك - يا بنيَّ – تعرف طريقتي في الحديث ؛ لست أخالف ما ضعُف إذا لم يكن في الباب ما يدفعه ) (فتح المغيث للسخاوي 1/149 ومقدمة تحقيق المسند لأحمد شاكر 1/31) ، فهذا واضحٌ في أنه لم يشترط الصحَّة فيما يروي في المسند ، كما أنه لم يضع فيه كلَّ شيء وقف عليه .
ولهذا جزم شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ليس في المسند حديث موضوع ، ثم قال : ( ولكن يروي عمَّن يُضعَّف لسوء حفظه ، فإنه يكتب حديثه ، ويعتضِد به ، ويعتبر به ) ، إلى أن قال : ( ويُراد بالموضوع : ما يُعلم انتفاء خبره ، وإن كان صاحبه لم يتعمَّد الكذب ، بل أخطأ فيه ، وهذا الضرب في المسند منه ) (مقدمة تحقيق المسند لأحمد شاكر 1/40) ، وقال في الفتاوى (1/248) عن سبب وجود بعض الأخبار الواهية ، التي رُويَ منها شيءٌ في المسند : ( بخلاف من قد يغلط في الحديث ولا يتعمَّد الكذب ، فإن هؤلاء تُوجد الرواية عنهم في السنن ومسند الإمام أحمد ونحوه ، بخلاف من يتعمَّد الكذب ؛ فإن أحمد لم يروِ في مسنده عن أحد من هؤلاء ) .
وبناء عليه : فإنه لا مجال هنا للمزايدة على مسند الإمام أحمد ، فلو كانت هذه المرويَّات الضعيفة في مسنده : بواطل من كلِّ وجهٍ ؛ بمعنى أنه لا يجوز اعتبارها مُطْلقاً ، لا من جهة السند ، ولا من جهة المعنى : فكيف جاز لإمام أهل السنة والجماعة إيرادها في مسنده المُنتقى من بين عشرات الألوف من الأحاديث ؟! بل كيف ساغ له أن يجعلها – مع باقي ما في المسند - مرجعاً للأمة عند الاختلاف في الحديث ؟!
وأما ما ذكره الإمام السيوطي في تدريب الراوي (1/299) من أن الإمام ابن العربي المالكي لا يرى العمل بالحديث الضعيف مطْلقاً ، فلو صحَّ هذا عنه ، فقد يُراد منه : منع العمل به في الأحكام ، أو منع العمل بما كان واهياً شديد الضعف ، لا سيما وأنه قد شرح سنن الإمام الترمذي ، في كتابه عارضة الأحوذي ، وهو من آخر مؤلَّفاته ، وفيه كثيرٌ من الأحاديث الضعيفة ، التي تعامل معها على نهج سلفه من الأئمة المتقدِّمين ، ومن ذلك تعليقه على آخر حديث في باب : ( ما جاء : كم يُشمَّت العاطس ) ، الذي رُويَ ضعيفاً (انظر: ضعيف سنن الترمذي للألباني 310) في سنن الإمام الترمذي (5/85) ، فقال معلِّقاً عليه في كتابه العارضة (10/205) : ( إذا زاد على الثالثة - روى أبو عيسى حديثاً مجهولاً - إن شئت شمَّته ، وإن شئت فلا ، وهو وإن كان مجهولاً ، فإنه يُستحب العمل به ؛ لأنه دعاءٌ بخير ، وصلةٌ للجليس ، وتوددٌ له ) ، فهذا إعمالٌ منه للضعيف في أدب اجتماعي .
وقال عن نهجه في التعامل مع الحديث المرسل ، رغم أنه معدود عند جمهور أهل الحديث ضمن أنواع الحديث الضعيف : ( والمرسل عندنا حجَّة كالمسند ) (2/50) ، وقال مُصرِّحاً باقتدائه بمن سلفه في التعامل مع ضعيف السنَّة : ( ولو ملنا إلى مذهب أحمد : فلا يكون التعلُّق بلين الحديث إلا ما في المواعظ التي ترقِّق القلوب ، فأما في الأصول فلا سبيل إلى ذلك ) (5/202) ، فهذا قولٌ صريحٌ منه ، وهو الأولى بالصيرورة إليه من القول المظْنون عنه ، وقد خلص الإمام السخاوي في كتابه القول البديع (472-473) إلى نحو هذا في تقرير مذهبه في هذه المسألة ، ممَّا يُفيد انسجامه مع باقي الأئمة المحدِّثين .
وأما دعوى الكفِّ عن مطلق الضعيف ، والاستغناء عنه بالصحيح والحسن فحسب ، فهي دعوة مشكورة ، فيها حماسة للسنَّة النبويَّة الصحيحة ، ولكنها - مع ذلك – سطحيَّة الفكرة ، فلو كانت منطقيَّة علميَّة لسبق إليها الأئمة المُتقدِّمون ، فقد كانوا أغْير الناس على شرع الله تعالى ، والأولى بالوصاية على السنَّة النبويَّة ممَّن أتى بعدهم ، فأين الكتاب الذي خلا من حديث ضعيف على مدار تاريخ الأمة العلمي وتراثها الثقافي غير الصحيحين ، فكلُّ المصنَّفات سواهما في : التفسير ، والحديث ، والفقه ، والعقيدة ، واللغة ، والتاريخ ، وغيرها من المجالات العلميَّة ، لا يكاد يخلو كتابٌ منها من حديث ضعيف ، فضلاً عن احتواء بعضها على أخبار واهية وموضوعة ، ومن ادَّعى سلامة مُصنَّفه من مُطلق الضعيف : لم يُسلِّم له الجميع بدعواه ، بل الصحيحان – رغم جليل مكانتهما عند الأمة - لم يسْلما تماماً من نقد بعض مرويَّاتهما !!
بل إن مرتبة الحديث الذي اصطُلح على تسميته بالمُضعَّف ؛ والذي اختلف النقَّاد في الحكم عليه بين من يُقوِّيه ، وبين من يُضعِّفه ، فمثل هذا النوع من المرويَّات يُوجد منه أشياء في الكتب التي التزمت الصحَّة ؛ كصحيح الإمام البخاري (انظر: فتح المغيث للسخاوي 1/177) ، فكلُّ هذا تفريقٌ بين الآثار المُحتملة لشيء من الصدق ، وَفق معايير علميَّة معيَّنة ، وبين الأخرى المكْذوبة المُخْتلقة ، التي لا تحمل شيئاً من الاعتبار الشرعي .
ولهذا كان نهج المُصنِّفين في الحديث : إفراد الأخبار الواهية والموضوعة بمصنَّفات مُستقلَّة عن باقي كتب السنَّة ؛ لكونها دخيلة عليها ، ليست منها في شيء ، وبقيَ الضعيف منها - في مصنَّفاتهم - مجاوراً للصحيح والحسن ، كأنهم جسد واحد ، يعسُر فصل بعضه عن بعض ، فما زالت أحاديث هذه المراتب الثلاث : يشدُّ بعضها بعضاً ، حتى إن الحديث المقبول في ذاته : يتقوَّى أكثر بطرق أحاديث ضعيفة ، كما هو منهج الإمام مسلم في صحيحه ؛ حين يروي الخبر الصحيح كأصل ، ثم يُتبعه بأسانيد فيها بعض الضعفاء ؛ وذلك على وجه التأكيد والتعزيز ، أو بسبب علوِّ إسناد الخبر الضعيف ، وكون سند روايته من طريق الثقات نازلاً ، أو ربَّما لزيادة فائدة رآها (انظر: تدريب الراوي للسيوطي 1/97-98 و164) ، وفي صحيح الإمام البخاري أيضاً بعض الضعفاء ، ممَّن تصلح الرواية عنهم ، فقد ذكرهم في الشواهد والمتابعات (انظر: علوم الحديث لابن الصلاح 76) ، وهذا فضلاً عن ترقِّي الضعيف بالحديث الصحيح أو الحسن ، فمثل هذه المعاني العلميَّة الدقيقة غير مُهْملةٍ عند المحدِّثين .
وبهذا يُعلم فداحة خطأ أحد المُختصِّين الشرعيين ، حين صرَّح - في درس علميٍّ عام - عن أمنيَّته في وقفة حازمة مع السنَّة النبوية ، كوقفة أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان – رضي الله عنه – مع القرآن الكريم ؛ بحيث يُجمع الضعيف والموضوع ويُتْلف ، ليخلص للأمة – حسب زعمه – المقبول من السنَّة للاحتجاج به فحسب !!
ولئن كانت الآثار الضعيفة مدوَّنةً ثابتةً بأسانيدها ومتونها في كتب السنَّة ، محفوظةَ الحُرمة الدينيَّة ، فلا سبيل لهؤلاء المُتحمِّسين لإتلافها ؛ فإن الأخبار المكذوبة الموضوعة : مُستباحة الحرمة ، غير أنها – هي الأخرى – أصبحت جزءاً أصيلاً من تراث الأمة العلمي ، تضمَّنتها دواوين المكتبة الإسلاميَّة ومؤلَّفاتها ، وقد بذل فيها مصنِّفوها جهوداً علميَّة كبيرة ، فميَّزوا الأخبار الموضوعة المكذوبة ، واستخلصوها من جمهور مرويَّات السنة المطهَّرة ، وأودعوها كتباً مُستقلَّة ، وربَّما علَّقوا عليها في مظانها من كتب السنَّة بما تستحقُّه من البيان الشرعي ، مُنبِّهين على فسادها ، وكاشفين لكذب واضعيها ، من الفجَّار والزنادقة المنافقين ، أو من الجاهلين المُغفَّلين .
ومثل هذا الصنيع العلميِّ المشكور : كافٍ في الشرع ، فلا تجوز فيه المُزايدة على جهودهم ، فهذه المؤلَّفات العلميَّة – من هذا الباب – لا سبيل لإتلافها أيضاً ، ومن تُراه يجرؤ على مثل هذا ؟! فما تميَّز الصالح من السنَّة إلا بها ، وما زال الباحثون في السنَّة – جيلاً بعد جيل - يعتمدون عليها في الحكم على الأخبار الواهية والموضوعة ، ويرجعون إليها على الدوام ؛ لمعرفة هذا القسم من الأخبار المنْسوبة إلى السنَّة النبويَّة ، فهي كالحصن لصحيح السنَّة ، وكالسِّياج الحامي لها من دخيل باطل .
ولو قُدِّر إتلافها على ما أراد هؤلاء ، فأمِن الناس - عند ذلك - على ما بقيَ بين أيديهم من السنَّة الموثوقة ، يتداولونها فيما بينهم جيلاً بعد جيل ، في غير خوف ولا حرج : فمن تُراه يضمن للأمة حينها منع جديد الكذب والافتراء على السنَّة ، وقد فقدت الأمة معاييرها العلميَّة الدقيقة ، التي يقيسون عليها الصالح والخبيث ، ويُميِّزون بها بين الصحيح والسقيم ؟ فمثل هذا الخطر لا يُستبعد ؛ فإن دين الأمة المسلمة مُستهدفٌ من أعدائها على مرِّ التاريخ .
بل إن بقاء هذه المصادر العلميَّة – على ما فيها – حيَّةً متوافرةً في أيدي المُتخصِّصين : أدْعى لليقظة والحذر لحماية السنَّة على الدوام في كلِّ عصر ، فلا يكفُّ العلماء عن جودهم العلميَّة ، ولا يضعوا أسلحتهم الدفاعيَّة ، فإن غفلة المُتخصِّصين عن حماية السنَّة - التي يمكن أن يُحدثها هذا المقترح - أخطر بكثير من تداول هذه الكتب على ما فيها من السقيم المردود .
ثم إن تدوين العلماء الأخبار الواهية والموضوعة ، وضبط رجالها ومواردها ومخارجها : ليس مقصوداً لذاته ، ولا ولعاً بالغرائب والعجائب – حاشاهم - وإنما لتمييزها عن غيرها من الأخبار المقبولة ، ومعرفتها بقصد كشْفها وردِّها ، حين تَرِد مدسوسة ضمن مرويَّات الثقات : قصداً أو خطأً ، فمعرفة الصحيح لا يكمل تمامه ويتحصَّن إلا بمعرفة السقيم (انظر: شرح علل الترمذي لابن رجب 1/89-92) .
ومن هنا : فإن أقلَّ ما يُحكم به على هذه الأمْنية الساذجة : أنها صدرت في حال غفلة من صاحبها ؛ وذلك لأن الطرق الضعيفة في ذاتها ، التي يتحرَّج بعضهم من وجودها في كتب السنَّة ، وتضيق نفوسهم بها : هي مادَّة التحْسين الأولى ، وما يلحق به من درجات الترقِّي والقبول ؛ وذلك حين تُقوِّي طُرق الحديث الضعيف بعضها بعضاً ، فيرتقي بذلك الخبر الضعيف درجة من درجات الحُسْن ، وَفق مناهج المحدِّثين النقَّاد وشروطهم ؛ فيزداد المسلمون بذلك علماً وعملاً ، ويُسهم هذا الجهد الشريف في حفظ مزيد من السنَّة المُعتبرة ، وينال المجتهد المُخْلص في هذا العمل : دعوة النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – بالنضارة .
وبهذا يُفهم أن الآثار الضعيفة ليست عبئاً على السنَّة ، بقدر ما هي ذخيرةٌ للنهوض والترقِّي بعضها ببعض ؛ فلئن كان الحديث الحسن لذاته ينزل رتبة عن الصحيح لذاته بسبب نقص الضبط ، فإن الحديث الضعيف يرتقي إلى الحسن لغيره بطريق ضعيف آخر يعضُده ؛ وفي هذا قال الإمام أحمد ، فيما نقله الإمام ابن رجب في كتابه شرح علل الترمذي (1/91) : ( قد أكتب حديث الرجل ، كأني استدلُّ به مع حديث غيره يشدُّه ، لا أنه حجَّةٌ إذا انفرد ) ، وقال الإمام السخاوي في فتح المغيث (1/122) : ( الحسن لغيره أصله ضعيف ، وإنما طرأ عليه الحُسن بالعاضد الذي عضَده ، فاحتُمل لوجود العاضد ، ولو لا العاضد لاستمرَّت صفة الضعف فيه ) ، ثم نقل قول الإمام النووي (1/126) على بعض الأحاديث الضعيفة كيف يقوِّي بعضها بعضاً فترتقي بمجموعها : ( وهذه وإن كانت أسانيد مُفرداتها ضعيفة ، فمجموعها يقوِّي بعضه بعضاً ، ويصير الحديث حسناً ، ويُحتجُّ به ) ؛ بمعنى أن الحديث الضعيف يصبح بمجموع هذه الطرق الضعيفة – التي يتمنَّى بعضهم إتْلافها – حجَّةً شرعيَّةً ، ضمن مجموع الوحي الربَّاني المبارك .
وأبعد من هذا ما جاء في تدريب الراوي للإمام السيوطي (1/198-199) ، فيما يتعلَّق بالحديث المرسل ، المعدود ضمن أنواع الحديث الضعيف ؛ وصورته أن يرفع التابعي الخبر مباشرة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولا يذكر صحابيًّا ، فالمرسل بهذا المعنى ضعيف ، غير أنه ينْجبر بمرسل آخر ، فيرتقيان معاً إلى رتبة الصحَّة ، بل ويتقدَّمان على حديث صحيح جاء من طريق واحدة ، وتعذر الجمع بينهما ، فقد جاء في المتن للإمام النووي ما لفْظه : ( ثم المرسل : حديث ضعيف عند جماهير المحدِّثين ... فإن صحَّ مخرج المُرسل بمجيئه من وجهٍ آخر : مسنداً أو مرسلاً – أرسله من أخذ من غير رجال الأوَّل – كان صحيحاً ، ويتبيَّن بذلك صحَّة المرسل ، وأنهما صحيحان ، لو عارضهما صحيحٌ من طريقٍ : رجَّحناهما عليه ، إذا تعذر الجمع ) ، فهذا إعمالٌ للمرسل حين ينهض بغيره من مُسندٍ ضعيفٍ ، أو مرسل من طريق أخرى ، فيصبحان معاً حجَّة شرعيَّة ، ويُقابلان صحيحاً – معارضاً لهما - جاء من طريق واحدة .
وممَّا يُجلِّي هذه المسألة بصورة عمليَّة : عمل فريق الشيخ الأرنؤوط في هذه الألف حديث الأولى من مسند الإمام أحمد - المُشار إليها آنفاً - فإن (146) رواية ضعيفة السند ، بنسبة (14.6) بالمائة من هذه الألف : ارتقت – وفق منهج الفريق - إلى درجة القبول والاحتجاج بطرقٍ أخرى وشواهد ومُتابعات ، ونحوها من المسوِّغات التي تُجْبَر بها الأخبار الضعيفة لترتقي ، وذلك وفق الجدول الآتي :
صيغة الحكم |
العدد |
النسبة المئوية |
حديث صحيح وهذا إسناد ضعيف |
6 |
4.11 |
حديث صحيح بشواهده وهذا إسناد ضعيف |
4 |
2.74 |
صحيح لغيره وهذا إسناد ضعيف |
29 |
19.86 |
حسن وهذا إسناد ضعيف |
9 |
6.16 |
حسن لغيره |
22 |
15.07 |
حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف |
75 |
51.37 |
حديث قوي بطرقه وهذا إسناد ضعيف |
1 |
0.68 |
وللوهلة الأولى يظهر للمتأمِّل من هذا الجدول حجم الأحاديث الضعيفة التي انجبرت بغيرها ، فارتقت إلى درجة من درجات القبول ، ودخلت ضمن مجموع السنَّة المُعتبرة عند أهل هذا الفن ، فلم تُهمل هذه الطائفة الشريفة من الوحي المبارك كما أراد بعضهم ، فعُلم أن دعوتهم لإتلاف ضعيف السنَّة : فكرة مُستعجلةٌ لا اعتبار علميًّا لها ، فلا ينبغي لطلاب التربية أن يلتفتوا إليها ، وإنما عليهم بالسواد الأعظم من أهل هذه الصناعة الشريفة ، لا سيما من الأئمة المُتقدِّمين .
وأبعد من هذا ما نقله الإمام السخاوي في فتح المغيث (1/130) من كلام الإمام النووي على المرويَّات القاصرة ، التي لا ترتقي بمجموع طرقها إلى أدنى درجات القبول بوجهٍ من الوجوه ، ومع ذلك ترتفع – بمجموع هذه الطرق القاصرة - درجة عن مرتبة المردود المُنكر ، فقال : ( الحديث بكثرة طرقه القاصرة عن درجة الاعتبار ؛ بحيث لا يجبُر بعضها بعضاً : ترتقي عن مرتبة المردود المُنكر ، الذي لا يجوز العمل به بحال : إلى رُتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في الفضائل ) ، فهذه اعتبارات علميَّة مُحكمة ، ودرجات ومقاييس دقيقة ، تهدف كلُّها إلى تعظيم الوحي المبارك ، والحرص عليه ، والحذر من إهمال شيء منه ، ولو كان ذلك باحتمال ضعيف ، فما لا يرقى من المرويَّات للاحتجاج الشرعي ، فلا أقلَّ من إعماله في الفضائل إن كان مُقارباً .
وهذا بغضِّ النظر عمَّا وقع ويقع - في العادة - بين المتخصِّصين في علوم الحديث ؛ من خلاف اجتهاديٍّ في تقويم مراتب بعض المرويَّات الضعيفة ، سواء كان في هذه العيِّنة المُختارة من مسند الإمام أحمد أو في غيرها ، فالتَّطابق التَّام بينهم على حكم كلِّ رواية ضعيفة : أمر بعيد ، ومع ذلك فلا مطْعن في شخْصِ أحدٍ منهم فيما انتهى إليه اجتهاده ؛ إذ لا بدَّ أن يبقى الخلاف في بعضها قائماً ، إلا أن أحكامهم على جملتها لن تختلف كثيراً ، كما تقدَّم في الجدولين الأوَّليْن .
ولهذا ما زال علماء الحديث – في القديم والحديث - يتجاذبون كثيراً من هذه الأحاديث الضعيفة ؛ فيتنازعون في تعيين مراتبها ، كلٌّ حسب اجتهاده ، فلو طُلب منهم أن يتَّفقوا على فصل الصحيح عن الضعيف : لاختلفوا في تعيين كثير منها غاية الاختلاف ، بل لو أُلجِئَ مُتحمِّس للسنَّة الصحيحة إلى أن يُقْسِم بالله على حديث ضعيفٍ بعينه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقلْه : لمنعه الورع عن ذلك ، ولهاب الإقدام على مثل هذا ؛ لوجود احتمالٍ ما في نسبته ، أو نسبة بعضه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا ذكر الإمام السيوطي في كتابه تدريب الراوي (1/149) أن بعض علماء الحديث منعوا من الجزم ( بتضْعيف الحديث اعتماداً على ضعف إسناده ؛ لاحتمال أن يكون له إسنادٌ صحيحٌ غيره ) (انظر أيضاً: علوم الحديث لابن الصلاح 92-93) ، في حين أن هذا المُتحمِّس لن يتردَّد في الحلِف على خبر موضوع مكْذوب .
بل إن الخبر المُختَلف في كذبه – رغم عدم الاعتبار به - خيرٌ من الخبر المُتَّفق على كذبه ، فكما أن من بين الأخبار الصحيحة المُعتبرة شرعاً : ما هو أصحُّ وأفضل ، أو ما عُبِّر عنه بأصحِّ الصحيح ، فكذلك في الأخبار الواهية ما هو أوهن وأحطُّ ، حتى ينتهي كلٌّ منهما إلى طرف ؛ فينتهي أفضل الصحيح وأصحُّه إلى التواتر ، وينتهي أردأ الواهي وأحطُّه إلى الوضع والكذب المحض .
وبهذا يُفهم أنه ليس كلُّ ما رُويَ ضعيفاً من الأخبار : أنه باطل من كلِّ وجه – تماماً - كحال الخبر الموضوع ، فهذه تسوية باطلة ، وإنما هي درجات ومقاييس معتبرة ، فقد يعتري الخبر الصادق شيء من الخلل ، فيأتي مُضْطرباً لا يقبله النقَّاد ، ولعلَّ في ضرب المثال ببعض ما رُوي ضعيفاً من أخبار الفتن : ما يُوضِّح المُراد ، فقد حدَّث النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بالكثير من أخبار آخر الزمان ، وما سوف يعتري الأمة في زمن ضعْفها من سوء الأحوال ، وربمَّا حدَّث أصحابه بتفاصيل ذلك يوماً كاملاً ، من بعد صلاة الفجر حتى غروب الشمس ، فما ترك شيئاً من مقامه ذاك إلى قيام الساعة إلا حدَّثهم به ، حتى إنه ما من صاحب فتنة له أتباعٌ إلا وقد سمَّاه لهم ، فكان أعلم أصحابه – رضي الله عنهم – أحفظهم لأكثر تلك الأخبار ، ومع ذلك لم تُنقل هذه الأخبار على الكمال كما نُقل غيرها ؛ لِما كان فيها من الحرج الاجتماعي والسياسي ، ممَّا قد يُعرِّض الراوي لها إلى الأذى .
ولهذا أحجم عن هذا النوع من الرواية سيد الحفَّاظ أبو هريرة وحذيفة – رضي الله عنهما – وغيرهما ممَّن حفظ كثيراً من أخبار الفتن ، خوفاً على أنفسهم من التهْلكة ، ومع ذلك لم يكتموا العلم حذراً من لحوق الإثم ، فكانوا يُخبرون بمحفوظاتهم هذه سرًّا لمن يثقون فيهم ، فيقلُّ عدد رواة هذه الأخبار عنهم ، فلا تنتشر كغيرها من الروايات الأخرى ولا تسْتفيض ، وقد يتبادرها من لا يكون مرضيًّا في ضبطه أو عدالته ، فيأتي كثيرٌ منها مضطرباً بأسانيد ضعيفة أو ربَّما مُتهالكة ، حتى إذا حضر زمان تحقُّقها ، وانطبق بعضها على جانب من واقع الأمة - بغير تكلُّفٍ ولا تجاوز - صدَّق الناس بمضمونها عندئذٍ ، مع بقاء أحكام أسانيدها على حالها ، فليس السند - على الدوام – هو الفيصل الوحيد في قبول الرواية ، فقد تُردُّ الرواية الصحيحة السند لشذوذ متْنها ؛ إذ لا تقتضي – دائماً - صحَّة السند : صحَّة المتن (انظر: مقدمة تحقيق المسند لشعيب الأرنؤوط 1/146) .
وفي الجانب الآخر فقد تُقبل الرواية الضعيفة السند لسلامة متنها ، أو لاشتهارها وقبول عموم العلماء لها ، لا سيما إذا أجمعوا على صحَّة معناها (انظر: تدريب الراوي للسيوطي 1/66-67) ، وقد سبق أن اتفق الفقهاء على إعمال حديث : ( لا وصيَّة لوارث ) ، واعتبروه أصلاً في بابه ، رغم ما في سنده من مقال (انظر: تحفة الأحوذي للمباركفوري 6/212) .
ومن لطيف ما يُذكر في هذا الباب : الحديث الذي ورد فيه ذكر السقَّارين ، وهم قومٌ من الأمة يظهرون في آخر الزمان ، تكون تحيَّتهم اللعن إذا تلاقوْا ، فالحديث رواه الإمام الحاكم في المستدرك (4/444) وصحَّحه ، وخالفه الإمام الذهبي فحكم عليه بأنه مُنكر ، وكذلك الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (1/353) ، ومع ذلك انطبق وصف الحديث على واقع طائفة ليست قليلة من الشباب المعاصر ، لا تُخطئهم العين ، ولا تفوتهم الأذن ، وهم يستفتحون حديثهم فيما بينهم – في أنديتهم وعبر هواتفهم النقَّالة - بالتلاعن والعياذ بالله تعالى ، فلئن كان انطباق المتن على الواقع - على هذا النحو - لا يرتقي بسند الحديث ؛ فإن التكْذيب بمتْنه صعب وقد شهد له الواقع ؛ ولهذا كثيراً ما يصف العلماء متن بعض الأحاديث بالصحَّة ، مع ضعف أسانيدها .
وممَّا يُستأنس في هذا الباب – مع الفارق - تقديم الإمام مالك لعمل أهل المدينة على الحديث الصحيح ، إذا جاء مخالفاً لما كان عليه عملهم ، فهذا إعمالٌ للواقع المُسْتفيض ، فكيف إذا عضَد الواقع حديث ضعيف ، أو منكرٌ كحديث السقَّارين ، أفلا يكون مضمون هذا الخبر مُعتبراً بوجهٍ من الوجوه ، ما دام أنه ليس بموضوع ؟! وقد جاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 301) ، وهو يتحدَّث عن بدع شهر رجب ، أنه قال : ( والحديث إذا لم يُعلم أنه كذبٌ : فروايته في الفضائل أمرٌ قريب ، أما إذا عُلم أنه كذبٌ : فلا يجوز روايته إلا مع بيان حاله ) ، وقال في الفتاوى (1/250) : ( أحمد بن حنبل وغيره من العلماء : جوَّزوا أن يُروى في فضائل الأعمال ما لم يُعلم أنه ثابتٌ ، إذا لم يُعلم أنه كذب ) ، فالخبر المكذوب لا يُروى مُطْلقاً ، أما المُحِتمل للصدق – ولو كان ذلك يسيراً – فالأمر فيه واسع بشروطه .
وخُلاصة الأمر في مسألة استخدام الحديث الضعيف في المجالات التربويَّة : هو جواز العمل به من غير حرج ، فيما فيه تربية وتهذيب ، وترغيبٌ وترهيب ، وأدبٌ وخُلق ، ممَّا تكون أسانيدها مُقاربة ، ومعانيها شرعيَّة صحيحة ، فلو راجع الباحث التربويُّ القسم الضعيف من تراجم أبواب الإمام البخاري في كتابه الأدب المفرد ؛ لوَقف على استنباطاته التربويَّة الفريدة في ذلك ، ممَّا لا يستغني عنه المُشْتغل بالتربية ، لتكون هذه المرويَّات الضعيفة مُكمِّلة لما رواه الإمام صحيحاً في باقي أبواب الكتاب ، فلا يُحْجم عن الضعيف إذا وجد فيه ما يخدم بحثه .
وكذلك العمل مع باقي كتب السنَّة ، فلا يمتنع الباحث التربوي عن إعمال حديثٍ ضعيف ، يحمل معنىً تربويًّا ينتفع به ، إذا لم يقف على ما هو أمْثل منه ، لا سيما إذا كان الضعيف يحمل معنىً تربويًّا مُضافاً ، مع أهميَّة التوثيق العلمي في كلِّ ذلك ، والإشارة بدقَّة إلى مصدر الحديث من كتب السنَّة الأصليَّة ، ودرجته من الصحَّة والضعف ، مُقلِّداً - في هذا - أهل الفن من المتقدِّمين والمُتأخِّرين ، فمثل هذا سهلٌ مُتاحٌ لجميع الباحثين في هذه الأيام ، فلا عذر للباحث في إهماله ؛ لأنه في مقام البحث العلمي ، وليس في مقام الوعظ والتذكير ، فيُعبِّر بالصيغ المناسبة عن الصحيح الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبلغ من تعبيره عن الضعيف المُقارب ، على نحو ما اصطلح عليه المُحدِّثون من صيغ التضْعيف ، فلا يكون إيراد الأثر الضعيف في البحث مقصوداً لذاته ، وإنما لمعنىً علميٍّ وتربويٍّ مُعتبر ؛ إذ الولَع بإيراد الأخبار الضعيفة ، وإهمال الأخرى الصحيحة : لا يُعدُّ مسلكاً علميًّا صحيحاً ، لمن رام أن يكون باحثاً تربويًّا مرموقاً ، أما ما ورد موضوعاً أو واهياً من الأخبار الساقطة : فلا سبيل لطالب العلم للانتفاع بها على أيِّ وجه كان .
ومن لم يكن منهم مُميِّزاً بين صحيح الأخبار وسقيمها ، من خلال مهارة الرجوع إلى مصادر السنَّة المُعتبرة والمُحقَّقة : فأقلُّ ما يجب عليه أن يُقوِّي ملكته الفطريَّة ، التي تُعينه – بتوفيق الله تعالى – على التمييز – ولو بصورة مبدئيَّة – بين ما يجوز الاستشهاد به من الآثار ، وما لا يجوز منها ، وليكن دليله لتقوية هذه الحاسَّة الفطريَّة كتاب : المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن القيِّم ، فقد ذكر فيه جمعاً من القرائن العلميَّة ، التي يُستدلُّ بها على الأخبار المكْذوبة ؛ كالمبالغات والمجازفات المُفْرطة ، والغرائب والتهاويل والشطحات العجيبة ، لا سيما ما كان سمجاً ركيكاً من الألفاظ والمعاني ، التي يُكذبها الحسُّ المُرهف ويمُجُّها ، ممَّا يُعْلم أن مثله لا يصدر عمَّن أُوتيَ جوامع الكَلِم – عليه الصلاة والسلام – خاصَّة ما كان مُخالفاً لصريح القرآن الكريم ، والثابت الصحيح من السنَّة المُطهَّرة ، وما كان موضع إجماع الأمة ، ممَّا هو معلومٌ عامٌ عند عموم المسلمين ، فيعلم الطالب الموفَّق – من خلال هذه القرائن – بطلان هذه المرويَّات ، أو على الأقل يحصل له نوعٌ من النفْرة النفسيَّة عند الوقف عليها .