الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ الجمعُ بين السَّيئَتيْن
مقال شهر ذي القعدة 1438هـ
الجمعُ بين السَّيئَتيْن
الحمد لله تعالى وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد .. فإن من المفارقات العجيبة في عصر التقنية الفائقة ، وسرعة الاتصالات والمواصلات ، وغزو معالم الفضاء ، وانكشاف المجتمعات فيما بينها ، وتداخل الناس بعضهم في بعض ، حتى لم يعد للستر والتخفِّي موضعٌ يُتحصَّن فيه ، في هذا الوضع الجديد من حياة الإنسان المعاصر ، وفي خضمِّ هذه الطبيعة الحديثة من واقع التفاعلات الإنسانيَّة : يحلو للبعض أن يتنكَّر خلف أقنعة مختلفة ، ويتزيَّا في ألبسة متنوِّعة ، فيظهر الشخص الواحد بكلِّ ألوان الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة ، حتى يبدو - للناظر للوهلة الأولى – حين يراه على هيئة من هذه الهيئات المتعدِّدة : أنه لا يُحسن إلا هذه ، فما يلبث إلا يسيراً ، حتى يظهر في شكلٍ جديد يُتقنه ، ويخرج في نمط مُغاير يُحسنه ، وكأنه – في كلِّ موقف – شخص آخر غير الأوَّل ، وهكذا تراه يتشكَّل بإتْقان في كلِّ مقام ينزل فيه ، دون ما خجل أو حياء ، من قبيح سلوكه الفاضح .
ولئن كان هذا السلوك الإنساني الرديء : يتعارض بصورة صارخة مع الأخلاق عند كافَّة الأمم ؛ فإنه في الشرع الإسلامي في غاية القباحة والنذالة ، هذا إن لم يكن هو النفاق بعينه ، الذي يعُدُّه الشرع أخبث من الكفر الأصلي ؛ وذلك حين يظْهَر المُتنكِّر – خِداعاً - بثوب الإيمان ، وهو في الباطن مُتلبسٌ بديانة الكفْر .
وإلى هذا الحدِّ من تصنيف الناس : يبقى الأمر طبيعيًّا في العرْف البشري ؛ إذ لا بدَّ في الناس من : مؤمن ، وكافر ، ومُنافق ، فهذا تصنيف إسلاميٌّ صحيح ، كما جاء مُفصَّلاً في مطْلع سورة البقرة ، ولكن المفارقة العجيبة في هذا العصر ، والقبيحة الفريدة في هذه الحقبة الزمنيَّة : أن يجمع الكافر الأصليُّ بين الكفر والنفاق ، وهذا - لعمر الله – من عجائب الدهر ، ومن نوادر الزمان ؛ لأن من يُظْهر النصرانيَّة ، أو اليهوديَّة ، أو المجوسيَّة ، أو أية ديانة غير الإسلام : فهو كافر أصْلي ، ومن أبطن شيئاً من هذه الديانات ونحوها ، غير أنه أظْهر للناس الإسلام ، وتلبَّس بلباسهم ، ودان ظاهراً بأحكامهم : فهو منافق خالص ، ولكن المُفارقة هنا : أن يجمع الشخص الواحد بين الكفر الأصْلي الظاهر ، والنفاق الأكبر الباطن ، فأيُّ دركة عميقة يهبط إليها أمثال هؤلاء وأضْرابهم من أنذال البشر ؟
ولا ينبغي للقارئ الكريم أن يتعجَّب من هذا التشخيص الغريب ، أو يستنكر هذا التوصيف الشاذ ، لهذه الهيئة الإنسانيَّة البغيضة ؛ فإن هذا النوع من ملاعين البشر : يجمع في جوفه كلَّ أنواع الكفر ، التي يظنُّ أنها تخدمه في حياته الدنيا ، وفي الوقت نفسه يضمُّ إليها كلَّ دين يحتاج إليه في تعاملاته الظاهرة : الاجتماعيَّة ، والاقتصاديَّة ، والسياسيَّة ، فهو لا يتورَّع عن تبنِّي أية عقيدة ، أو ديانة ، أو عبادة ، أو تصوُّر ، أو مفْهومٍ ، ظاهراً كان أو باطناً : يُحقَّق له – حسب ظنِّه - مصالحه الدنيويَّة ، فيجمع بكفاءة وبراعة بين السيئتين ؛ سيئة الكفر ، وسيئة النفاق .
وبنظرة عابرة على المجريات السياسيَّة الحديثة في هذا العصر ، لا سيما بعد ما يُسمَّى بالربيع العربي ، وما تمخَّضت عنه أحداثه الثوريَّة من الآلام والمآسي ، وما تكشَّفت به من الحقائق والدسائس ، وما انتهت إليه من المواقف والأحداث : تبيَّن بوضوح كيف استطاع أئمة الكفْر المعاصرين ، من الجمع بكفاءة فائقة نادرة ، ومكْرٍ عميق خبيث : بين الكفر والنفاق الأكْبريْن ، حتى إن عوام المسلمين : لم يكن ليخطر ببال أحدهم حجم الكذب والخداع ، والمكْر والدهاء ، الذي يتعاطاه هؤلاء الفجَّار السياسيون ، في لعبهم الاقتصادي والسياسي والعسكري ، بمقدَّرات الشعوب وأرواحهم ، مما لا يجد الواصف له وصفاً ، إلا ما ذكره الله تعالى في نعت قوم نبيِّ الله نوحٍ – عليه السلام – : ( وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ) (71/22) ، وهو الغاية في المكْر ، والنهاية في السوء .
ولئن كان المُثقَّف العربي الحرُّ : يُدرك بوضوح - منذ عقود الاستعمار – حجم الجريمة الغربيَّة في حقِّ الشعوب العربية والإسلامية ؛ فإنه اليوم - بعد سنوات الربيع العربي القاسية – أنضج من ذي قبل ، وأوعى بالحقيقة ممَّا مضى ، بل هو اليوم أكْفر ما يكون بدعايات فجَّار السياسة ودهاقنتها ، فقد أدرك اللعبة السياسيَّة القذرة ، وأعرض عن الكذبة الديمقراطية الخادعة ، وصُمَّ عن الآلة الإعلاميَّة المُنافقة ، فماذا تُراه بقيَ لم يُكشف بعد ؛ من عورات الساسة الغربيين ، وحُلفائهم من الشرْقيين ؟ فهم لو تدثروا بجميع ثياب الدنيا وأقْمشتها : ما سترت شيئاً من عوراتهم الغليظة المكشوفة ، ولا يتعامى عن هذا الواقع البائس ، ويُصدِّق بكذبهم ، إلا عبدٌ منْكوس ، أو مُرْتزِقٌ مأجور ، أو تائه معْتوه ، على طريقة من وصفهم الله تعالى بالقردة والخنازير : ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ...) (5/42) .
وإن من غرائب المسالك البرْجماتيَّة في السياسة الغربيَّة : هذا الثبات العجيب على هذا النهج القبيح الخادع ، في الجمع بوقاحة ولآمة بين السيئتين العظيمتين ، على طول سنوات المكْر ، دون ملل ولا كسل ولا فتور ، وكأنما هي الشياطين تنفُخ في روعهم ، كلَّما خبت نيران نفوسهم : زادوهم وقوداً وسُعاراً ، حتى ما يقضي أحدهم عقود عمُره التعيس : إلا على نحو ما بدأه من المكْر : (...ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ...) (24/40) ، فما يزداد الشقيُّ منهم بطول عمُره : إلا كفراً على كفر ، ونفاقاً على نفاق : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (3/178) .
وإن المُتأمِّل ليدْخُله الذهول من حجم خداعهم بالباطل ، ومن قوَّة تماديهم في الكذب ، حتى اتَّخذوا من الوهم صناعة لهم ، يُروِّجون بها باطلهم ، ويُزيِّفون بها خداعهم ، ويُغلِّفون بها دجلهم ، إضافة إلى ما يُحقِّقونه من الصفقات التجاريَّة الكبيرة ، من بيع الأسلحة المتكدِّسة لديهم ، وتجريب أدائها على رؤوس المُستضعفين ، ومع ذلك كلِّه لم ينْفُضِ الساسة العرب ، والمُقاومون الأحرار : أيديهم من هؤلاء الأنجاس ، فما زالون يدوكون في طواحين أوهامهم الخادعة ، ويدورون في متاهات دروبهم المظلمة ، فما بلغوا في سعيهم شيئاً ، وما ازْدادوا بهم إلا خبالاً .
وليتفحَّص الناظر في شأن الثورة السوريَّة على وجه الخصوص ، التي أحرجت الكافرين والمنافقين على حدٍّ سواء ، حتى لبسوا أثواب بعضهم بعضاً ، وتلحَّف بعضهم بألحفة بعض ، وما بقي لهم من عورة مستورةٍ : إلا بدت كأغْلظ ما تكون بروزاً وبشاعة ، حتى إنه لم يعد للمُتعاطين - في هذه الأزمة الفاضحة - وجهٌ يتميَّزون به ، فقد عادت مطالع صورهم : أدباراً لا وجوه لها .
وإن الإنسان العاقل ليتعجَّب من حجم ما في قلوب هؤلاء الساسة الفجَّار ، من القسوة والغلظة والجبروت ، وما انطوت عليه نفوسهم من القوَّة والعنف والبطش ، حتى ما عاد للخير فيها موضع ، ولا للرحمة فيها مكان ، ولهذا لن يكون لهم في الآخرة من نصيب ولا خلاق ، وإنمَّا هي النار مثواهم ، وبئس المصير : ( أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (11/16) ، وليس ذلك ببعيد ؛ فإن كلَّ آتٍ قريب : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ، وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) (70/6-7) ؛ فإن يوم النصر الكبير ، الذي لا تعقبه هزيمةٌ أبداً ، ويوم الفوز العظيم ، الذي لا يشوبه نكدٌ ولا ألم : قادمٌ لا محالة ، ولكنَّه لن يكون في الحياة الدنيا ، فإنه لم يبقَ من الدنيا إلا بلاءٌ وفتنة ، وإنما هو نصْر الآخرة وفوزها : (...ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (9/72) ؛ فإن الظفر في الدنيا ، لا بد أن تعْقبه خسارة ، والنصر فيها ، لا بدَّ أن تتبعه هزيمة ، وما خلصت الدنيا لأحد قطُّ ، فكلُّ نعيم فيها مشوبٌ بنكد ، وكلُّ لذة يُخلطها ألم ، وكلُّ فرحة يُداخلها حُزن ، أبى الله - الحكيم العليم – على الدنيا إلا أن تبقى دنيَّة ، وأبى – سبحانه وتعالى – على الآخرة إلا أن تبقى عليَّة ، فعمَّا قليلٍ تنتهي المُهلة المحدودة ، ويأتي الوعد الحقُّ ، وينقضي أمر الدنيا ، وتُغْلق صحائفها ، وتُسدل سُتورها ، فلا يبقى منها إلا قيعانٌ مُصفْصفة ، قد سُوِّيَ منها كلُّ شيء ، فما بقي فيها علَمٌ لأحد ، ثم يأتي السؤال القاطع ، الذي لا جواب له من أحد ، إلا من الواحد الأحد : (...لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (40/16) .
هذا يوم فوز المؤمنين الصادقين العاملين ، هذا هو اليوم الحقُّ ، فلا كرب عليهم بعده ، فهم من حينه يتقلَّبون من فوز إلى فوز ، ومن نصر إلى نصر ، ومن خير إلى خير ، حتى يُؤذن لهم بدخول جنات النعيم ، تحت لواء سيد المرسلين – صلى الله عليه وسلم – ثم هم فيها - بعد ذلك - في نعيم مُتجدِّد ، وأنس متواصلٍ ، وقرَّة عين لا تنقطع ، وملك لا يبلى : ( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ) (37/61) ، ثم هم فوق ذلك على الدوام : (...مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ، عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ) (83/34-35) ، إنه ضحكٌ أهل الجنة على أرائك النعيم ، ليس هو كضحك الكافرين في الدنيا ، حين (...كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) (83/29) ، بل هو ضحكٌ تنْشرح به الصدور ، وتبْتهج به النفوس ، في مقابل بكاء طويل لا ينقطع ، وحُزن دائم لا ينْجبر ، ممَّن كانوا يرقصون على دماء المستضعفين المسلمين ، ويتندَّرون بآلامهم وأشلائهم ، على النهج البرجماتي النفعي البغيض ، فخابت ظنونهم ، وانقطعت آمالهم : ( فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) (9/82) .
ولهذا يتطلَّع المؤمنون إلى الآخرة ، ينتظرون يوم الخلاص ؛ يوم الفتح الأكبر ، والنصر الأعظم ، فلا يبتهجون لملذات الدنيا بإغراق ، ولا يأنسون لراحتها باطمئنان ، ولا يسكنون لأنسها باسترخاء ، بل هم دوماً في حذر الأتقياء ، وفي يقظة الأصفياء ، وفي نباهة الأولياء ، لا يطْمئنون للإنعام ، ولا يأْمنون الانتقام : (...فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) (7/99) .