الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ مقتضيات الأمانة بين الظاهر والباطن
مقال شهر شوال 1438هـ
مقتضيات الأمانة بين الظاهر والباطن
الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه في الأرض ولا في السماء ، والصلاة والسلام على خير الناس ، نبيِّنا محمد بن عبد الله الهاشمي ، وعلى آله وصحبه الأخيار الأبرار ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد .. فإن الطباع البشريَّة تتنوَّع مُتشكِّلة في صور ومشاهد وسلوكيَّات : يعجز المراقب عن حصرها في قائمة واحدة محكمة ؛ فلكلِّ خُلقٍ إنسانيٍّ – حسنٍ كان أو رديء – ينتظم في درجات ودركات من الصعود والهبوط ، التي يتشابه فيها الناس ، ولكنَّهم – مع ذلك - لا يتطابقون في جزئيَّاتها الشخصيَّة ، التي – غالباً – ما تختلف أقدارها وأحْجامها من شخصٍ إلى آخر ، فما من خُلق إنسانيٍّ إلا وقد ناله نصيبه من انتهاكات البشر ، يقلُّ ذلك أو يزيد ، بقدر بعْدهم وقرْبهم من معالم الرسائل والنبوَّة .
غير أن السنة النبويَّة أشارت بوضوح ، إلى أن أوَّل ما يُنتهك من الأخلاق الإسلاميَّة - بعد اكتمال الدين - هو خُلُق الأمانة ، فيكون أوَّل خُلقٍ يدخله الخلل ، وينْتابه النقص ، فما يزال الناس يفقدون عناصر من أماناتهم شيئاً فشيئاً ، حتى يبلغون زمناً يندر وجود الأمين بينهم .
وهذا نذير خطر في أن يتعامل الناس - فيما بينهم - دون مراعاة الأمانة الاجتماعيَّة ، وأخطر منه وأنكى أن تختلَّ أمانة المكلَّف فيما بينه وبين ربِّه – تبارك وتعالى – فلا يرْعى أمانة التكاليف الشرعيَّة ؛ بدءاً من صدق اعتقاده في الله تعالى ، ومروراً بصحَّة مقاصده ونيَّاته ، وانتهاءً بضبط طهارته ووضوئه وصيامه ، فلا سلطان على المرء – فيما يكون بينه وبين ربِّه – إلا ما يبعثه وازع الإيمان في قلبه ، الذي يحثُّه - من داخله - على التزام مقْتضاه في عباداته وأعماله الخاصَّة .
وبنظرة سريعة بلا تأمُّل طويل ، يُدرك الناظر في الشرع الحنيف : أن النفاق الأكبر ليس أكثر من فقدان أمانة الباطن ، مع ما قد يبدو على السلوك من الالتزام بأمانة الظاهر ، فأمانة التكاليف بشقِّيها - الظاهر والباطن – تقتضي بالضرورة تمام الانسجام بينهما ، ولئن كان للعفو والمسامحة مدخلٌ هنا ، فهو في الشقِّ الظاهر من التكاليف الشرعيَّة فحسب ؛ لما قد يعتريه من الخطأ والنسيان والغفلة ، وما قد يحصل للمُكلَّف كُرْهاً بلا اختيار ، أما عمل الباطن بسلامة النيَّة والقصد ، فهذا القسم لا تدخله المسامحة ولا العفو ؛ لأن تحديد الإرادة ، وتعيين القصد ، وتوجيه النيَّة : لا يدخله الخطأ ، ولا يعتريه النسيان ، فمن قصد إلى الصيام ، فهو صائم شرعاً ، حتى وإن أكل أو شرب ناسياً في نهار رمضان ، ومن اجتهد قاصداً طهارة لباسه من النجاسة ، ولم يتفطَّن لنجاسة علقت به : ما ضرَّ ذلك صلاته ، ومن اقترض مالاً ، وقد عزم على ردِّه في أجله فعجز : لم يلحقه بعجزه إثم ، فالنيَّة الصالحة في مثل هذه الأمور الشرعيَّة ونحوها : تمنع لحوق الإثم بالمُكلَّف .
وأبعد من هذا : أن من نوى مُتمنِّياً مقام قارئ القرآن ، أو أداء المنفق في سبيل الله تعالى ، أو دور معلِّم الناس الخير : فإنه ينال مثل أجورهم ، لا ينقص ذلك مما قدَّر الله لهم من الأجور شيئاً ، ولهذا جاء في الحديث أن : ( نيَّة المؤمن خيرٌ من عمله ) ، فهو بالنيَّة الصالحة يبلغ من الأجور ما لا يستطيعه بجهده إن حاوله .
في حين أنه لو فسد مقصده من القيام بالأمر ، ثم ظهر أداؤه موافقاً للشرع : لم يكن له بذلك أجر ؛ كمن صلَّى صلاته رياءً ، أو أنفق ماله سمعة ، أو قاتل قتاله حميَّة ، فهؤلاء وأمثالهم كأنهم ما قاموا بشيء ، بل هم مأزورون على قبيح مقاصدهم غير مأجورين .
ولهذا ربط النبيُّ صلى الله عليه وسلم - برباط وثيق - بين الإيمان والأمانة ؛ فقال : ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) ، فلولا ضعف إيمانه برقابة الله تعالى ، وغفلته عن التهديد والوعيد : ما أقدم على تضييع أماناته التكْليفيَّة ؛ فإن ما استقرَّ في القلب – من الخير أو الشر – لا بدَّ أن يرشح أثره على السلوك ، فينطلق الإنسان موافقاً لباطنه .
ومن هنا : فإن حاجة النشء إلى التربية على تعظيم الأمانة في نفوسهم ، يُعدُّ ضرورة شرعيَّة ؛ بحيث تتضافر مؤسسات المجتمع التربويَّة ، على تأكيد معانيها من الناحية الفكرية والعلميَّة ، ورعاية معاملاتها الاجتماعيَّة من الناحية السلوكيَّة والتطبيقيَّة ، فيكمل للناشئ الوسيلتين التربويَّتين : العلميَّة والعمليَّة في آنٍ واحد .
ولئن كان الحديث عن الأمانة حاضراً : في الخطابات والرسائل الإعلاميَّة ، وفي خُطب الجُمَع المنبريَّة ، وفي المناهج والمقرَّرات الدراسيَّة ، وفي كثير من حديث الناس الاجتماعي ؛ فإن هذه المعالجات الفكريَّة والعلميَّة والوعظيَّة : تبقى عاجزة – بمفردها- عن تكوين اتجاهات سلوكيَّة حميدة لدى الناشئين ، ما لم يرافقها – جنباً إلى جنب – اتجاهٌ سلوكيٌّ جماعي ، يمارس – في الواقع الاجتماعي - تعاملات الأمانة وآدابها ؛ بحيث يعيشه الناشئ واقعاً اجتماعيًّا حيًّا ، فيتربَّى عليه بغير قصد مباشر ، ويتشرَّب معاييره دون تكلُّف مُرهق ، ومعلومٌ تربويًّا أن الأصل في الأخلاق الاكتساب ، فنيل الخُلُق يحصل للمرء بالتعاطي والمِران ، حتى يصبح له خُلقاً معتاداً ، يصدر عنه بيسر وسهولة ، فلا يحتاج أحدهم – لممارسته - بذل كثير جهد ، وهذا لا يحصل إلا بعد معاناة التربية .
ولعلَّ في ضرب المثال ما يُجلِّي المقال ؛ ففي سلوك أمانة الطريق ، بإماطة الأذى عنه ، والامتناع عن تلويثه بالقاذورات ، حين يلتزم بهذا الأدب الكبار ، في تعاطيهم مع مخلَّفاتهم الشخصيَّة والمنزليَّة ، فيمتنع المربِّي القدير عن إلقاء ورقة مهملة في الطريق العام ، فضلاً عن أن يُلوِّثه بالقمامة المُتعفِّنة ، أو الفضلات الآدميَّة الجارية ، فهذا من شأنه تكوين نمط سلوكيٍّ إيجابيٍّ لدى الناشئ الصغير ، في احترام أمانة أدب الطريق ، حتى وإن لم يُرافق هذا السلوك الحميد كثير وعظ وإرشاد .
في حين أن السلوك الاجتماعي العام ، المُعاكس لهذه الآداب ، والمُناقض لها في اتجاهها : لا يمكن أن يشكِّل عند النشء الجديد سلوكاً خُلقيًّا مُغايراً ، مهما تأيد بالآلة الإعلامية ، أو تأكَّد بالمنهج المدرسي ، أو استُدلَّ عليه بالنصِّ الشرعي ؛ لأن الدليل بالفعل والممارسة الواقعيَّة – في الطبيعة الإنسانيَّة – أقوى من الدليل بالقول المُجرَّد ، العاري عن الفعل الواقعي .
بل إن الإنسان الملتزم بأدب الطريق - حين يتحرَّج من إلقاء منديلٍ في الطريق العام – يستهجن المجتمع - من حوله - سلوكَه ، باعتباره شذوذاً عن مسلك الجماعة العام ، الذي لا يُقدِّر للمارَّة حقَّهم في نظافة الطريق وطهارته ؛ فإن التمادي في إلقاء المهملات اليسيرة في الطرق : قد يسوق إلى الأفحش ؛ فإن من استخفَّ بالصغيرة هانت عليه الكبيرة ، حتى يبلغ بالوضيع إلى أن يقضيَ حاجته في موارد الناس ، فينال لعناتهم على قبيح صنيعه .
ثم إن مشاعر الأمانة اليقظة - في حسِّ الإنسان المُرهف - لا تسمح له بانتهاك مكْروهاتها ، فضلاً عن أن يبلغ مُحرَّماتها ؛ فإن الشقَّة السلوكيَّة بين الفضيلة والقبيحة : تبدأ بغفلة يسيرة ، ثم ما تلبث حتى تتسع الهوُّة بينهما ، بما لم يكن يخطر ببال الغافل ، حتى ينتهي به المطاف إلى استمراء القبائح ، في غير خجل ولا استحياء ، وربَّما تمادت به خطوات انتهاكات حُرمات الأمانة ، لتعمَّ كلَّ جوانب الشخصيَّة الإنسانيَّة ، حتى ما تسلم منها زاوية .
ولئن كان النفاق الخالص يتمُّ للتعيس باجتماع أرْباعه الأربعة : الغدرٌ ، والخُلْفٌ ، والكذبٌ ، والفجور ؛ فإن الواحدة من هذه كافية لهدم جانب من شخصيَّة الإنسان ، وتشويه صورته ، فكيف باجتماعها جميعاً في شخص واحد ؟ فالغدر بعد العهد لؤْمٌ ، والخُلْف بعد الوعد خيانة ، والكذب بعد الصدق قبيحة ، والفجور بعد الأخوَّة رذيلة ، وكلُّها انتهاكٌ للأمانة ، وانتقاصٌ من حُرمتها .
والإنسان في تفاعلاته الاجتماعيَّة ، وتعاطيه مع الجماعة : لا يعدو أن يكون بين هذه الأركان الخلقيَّة الأربعة ؛ فهو بين وعد يقْطعه ، أو عهد يُبْرمه ، أو كلمة يُطْلقها ، أو خصومة يتنازعها ، فإذا فقدَ مقْتضياتها من الأمانة التكليفيَّة : فقد فاته من إنسانيَّته بقدر ذلك ، فهو من السوء بين مُستكثرٍ ومُستقلِّ ، فإذا اجتمعت له هذه القبائح الأربع ، فلا تسأل عن هلاكه .