الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ صولة النفاق
مقال شهر شوال 1437هـ
صولة النفاق
الحمد لله العزيز الحميد ، والصلاة والسلام على النبيِّ الكريم ، والسيد الرسول العظيم ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد... ففي العقد الثاني من عصر النبوة المبارك ظهر النفاق الأكبر ، بأبعاده الضلالية والإجرامية ، ليهدِّم بناء الإسلام النامي ، الذي بدأ يأخذ مكانه اللائق به في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، على يد المربي الأول ، والسيد الأعظم : رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، فغاظ ذلك الإنجاز المنافقين والكافرين - على حدٍّ سواء – وهم يشاهدون ويلمسون تنامي مكانةِ الدولة الإسلامية الفتية في المدينة المنورة ، التي أخذت تتوجَّه بسرعة نحو القوة والتمكين في جزيرة العرب ، فتشقُّ طريقها بنجاح وتفوق ، وسط ركام الجاهليات : الوثنية واليهودية والنصرانية ، تبني صروح الإيمان والأخلاق ، وتُشيِّد عوالم النهضة والازدهار ، على وقع آيات القرآن الباهرات ، وأحاديث السنة النبوية النيِّرات .
حتى إذا عرفت الأمة الإسلامية نهج طريقها ، واستبان لها خطُّ مسيرها ، ضمن صراط الله المستقيم ، وهدي خير المرسلين ، عندها أذن المولى عز وجل بإعلان نهاية عصر الوحي والأنبياء ، بقبض رسوله الكريم ، وخاتم أنبيائه العظيم ، محمد صلى الله عليه وسلم ، فاستودع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمةَ ربَّها ، وقد وضعها على المحجَّة البيضاء النقية ، لا زيغ فيها ولا غبش ، ليلُها كنهارها ، واضحةُ المعالم ، بيِّنة المسالك ، قوية الأركان ، ثابتة الجنان ، فتولى القيادة الإسلامية من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة النجباء ، والأولياء الشرفاء ، والأمراء النبلاء ، فانطلقوا بالأمة من جديد كأقوى ما كانت ، وكأشدِّ ما عُرفت ، يجوبون الدنيا فتحاً وعلماً ، سيفاً وبياناً ، فما ازداد المنافقون والكافرون بذلك إلا غيظاً ، وما نالهم بنجاح الأمة وثباتها إلا همٌّ وغمٌّ ، وقد خابت ظنونهم بضياع الدين ، وانقطعت آمالهم بأفول الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما علم هؤلاء أن هذا الدين هو حجَّة الله الباقية والدائمة إلى آخر الدهر ، يحمل في ذاته أسباب بقائه ، واستمرار دوامه ، يُعزُّ الله به من أحبَّ من أوليائه ، ويُذل به من كره من أعدائه ؛ فقد بقي الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قروناً متطاولة ، وأزمنة متعاقبة ، بكماله وجماله وروعته ، غضًّا طريًّا ، كما أُنزل أول مرة ، يغيظ الكافرين والمنافقين ، ويدكُّ معاقل المجرمين والضالين ، فما وجد المبطلون إلا سبيل النفاق والتآمر ، فعادوا إلى جحورهم من جديد ، واندسُّوا في أنفاقهم مرة أخرى ، يتربَّصون بالأمة في غفلاتها ، ويكيدونها في رقَدَاتها ، فيتحيَّنون الفرص المناسبة ، والأزمنة المواتية ، حين تغيب الأمة عن وعيها ، وتغفُل عن نهجها ، وتحيد عن رشدها ، فيخرجون عندها من جحورهم ثائرين ، ويبرزون من أنفاقهم ناقمين ، لينقضوا على بعض الأمة ، فينالون من أموالها ودمائها وأعراضها ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، فإذا فاقت الأمة لهم ، وتنبَّهت إليهم ، وسلَّت عليهم سيف الانتقام ، وعصى التأديب : عادوا مرة أخرى إلى أوكارهم للاختباء والاندساس من جديد : يظهرون الدين ، ويبطنون الكفر ، يعلنون الوُدَّ ، ويكتمون الحقد : (...هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) .
وما زال المنافقون منذ عصر النبوة على هذا المسلك القبيح ، وفي هذا الضلال المبين ، وعلى هذا الحقد الدفين ، الذي يدل على قلوب مريضة ، ونفوس مظلمة ، وأهواء مستحكمة ، وعقول فاسدة ، يركبون الفرق الإسلامية الضالة ، ويغوصون في النحل الفكرية الشاذة ، ويُنشئون الجمعيات الباطنية الكافرة ، فيعملون على هدم الدين من الداخل ، وعلى تخريب العقيدة من الباطن ، فقد استحوذ عليهم الشيطان ، حتى ملك عقولهم ، وسلب أفهامهم ، فعادوا ألعوبة في يده ، يتلهى بها كيف يشاء ، ويضعها حيث أراد ، حتى صنع منهم حربةً ماضية في نحور المسلمين ، وخِنجراً غادراً في ظهور المؤمنين .
وهكذا الشيطان مع حزبه الخاسرين ، حين يتَّبعون خطواته ، وينْساقون لإغراءاته ، ويعملون بوسواسه ، فإنه حينئذٍ يسوقهم إلى عطبهم ، ويقودهم إلى هلاكهم ، حتى يبلغ بهم المنتهى في الضلال ، والغاية في الفساد : (...إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) ، فينزل بهم في دركات الغواية : دركة دركة ، وخطوة خطوة ، إلى أن يبلغ بهم أسفل سافلين ، ودرك الهالكين ، عندها يقولون بقوله ، ويعملون بشركه ، وهنا يرتبط مصيرُهم بمصيره ، ونهايتُهم بنهايته ، حتى يقرن الله بينهم جميعاً يوم القيامة ، فيكونوا ضمن حزبه ، وتحت رايته : (...وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا ) .
إنها النهاية المحتومة لحزب الشيطان الخاسرين ، والخاتمة الأكيدة لأعداء الرحمن المنافقين ، فقد حذرهم الله تعالى وأنذرهم : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ، وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ، هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ) .
إنها الخسارة الكبرى ، والرزية العظمى ، أن يخسر الإنسان حظوظه المدَّخرةَ له عند الله تعالى ، حين يُكشف له مقعدُه من الجنة ، فيراه متحسِّراً عليه ، متألِّماً على فواته وضياعه ، تُقطِّعه الحسرة ، ويعتصره الألم ، وقد أبدله الله مقعداً لعيناً حقيراً في نار جهنم : (...قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) .
والناظر المتأمِّل يلْحظ بوضوح استشراء النفاق في هذا العصر ، حتى ما عاد يخفى على ذي بصيرة ، فقد بلغ مبلغاً عظيماً ، لا سابق له في تاريخ أمتنا ، حتى قامت على النفاق دول ، وجماعات ، وأحزاب ، ومذاهب ، تُظهر للناس أموراً وتخفي أخرى ، تنادي بمبادئ ، وتعمل بغيرها ، حتى غدا النفاق سمةَ العصر الحديث ، وعنوانَ الحياة المعاصرة ، حتى لم يعد يستحِ المنافقون في هذا الزمان من ظهور حقيقتهم ، وانكشاف أمرهم ، ما داموا آمنين على نفوسهم ، متمكِّنين من خصومهم ، فتراهم يجوبون الساحاتِ السياسيةَ والعسكرية ، ويظهرون على الشاشات والقنوات ، يتنادون بالشعارات والرايات ، ويتصايحون بالانتقام والثارات ، وكأن أمة الإسلام الواسعة الكبيرة - في مشارق الأرض ومغاربها - لا تعنيهم في شيء ، فلا احترام لها ولا تقدير .
غير أن كلَّ هذا الضجيج لا يعدو أن يكون صولة مارقة من صولات النفاق ، وانتفاشة من انتفاشاته الحقيرة الوضيعة ، تُوشك – بإذن الله تعالى - أن تنجلي بظهور أهل الحق ، وأفول أهل الباطل .
وهكذا المنافقون الجبناء في كل عصر وزمان ، لا يظهرون إلا حين يأمنون على أنفسهم ، فيضربون ضربتهم في جسد الأمة – كما يفعلون اليوم في بلاد الشام والعراق واليمن - ثم يعودون مرة أخرى إلى جحورهم ، فيتظاهرون من جديد بالإسلام والإيمان ، وحماية الأوطان ، فهذا تاريخهم شاهد منذ عصر النبوة ، على قبيح صنيعهم ، فليس لهم همٌ إلا تخريبَ الأمة الإسلامية ، وذهابَ عافيتها ، وتحطيمَ كياناتها ، ومن ثمَّ العمل على عودةِ أمجادهم الوثنيةِ والشعوبية ، على أنقاض أهل الإسلام .
إن أزمة المسلمين مع هؤلاء الخونةِ المنافقين ليست في قوتهم ، فهم أحقر وأذل من ذلك بكثير ، وإنما المشكلة تكمن في ضعفنا ، وسوءِ تدبيرنا ، وتآمرِ أعدائنا التاريخيين الكبار ، وتكالبهم علينا ، من اليهود والنصارى ، ومن سار في فلكهم ، الذين ما فتئوا يكيدوننا بهؤلاء المنافقين ، فيستخدمونهم في إرهاق الأمة ، وشَغلها عن مهام النهضة ، وأسباب التقدم ؛ ولهذا فإن تعيينَ المنافقين في هذا الزمان ، وكشفَ حقيقتهم ، وتجليةَ خبرهم : هو أولُ وسائل النصر ، وأهمُّ مهمات أهل الحق ، بعد الاعتصام بالله تعالى ، والتعلُّق بحبله المتين ، وتحقيق الوَحدة الإسلامية النقية ، فليستعن المسلمون بالله تعالى على هؤلاء ومن وراءهم ، وليحرِّروا مقاصدَهم ، ويُخلِصوا نيَّاتهم ، ويتوكَّلوا على الله وحده ، فهو نعم المولى ونعم النصير .