الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ الموعظة الأسبوعية


معلومات
تاريخ الإضافة: 1/6/1437
عدد القراء: 3085
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر جمادى الآخرة 1437هـ

الموعظة الأسبوعية

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فما تزال الموعظة تحتل مكانتها في صناعة الإنسان المسلم بين باقي الأساليب التربوية ؛ فتبني كيانه الروحي من الداخل ، وتصقل نهجه العملي من الخارج ، فتهيئ له فرص التوافق الواقعي بين العقيدة والسلوك ؛ فينطبق باطن المعتقد مع ظاهر السلوك ، حتى تتناغم الشخصيَّة متوافقة بين ظاهرها وباطنها .

وما زال الإنسان - في كلِّ مراحل عمره - في حاجة - من وقت إلى آخر - إلى قدر مناسب من الوعظ ، لا يقل عن أسبوع واحد ، يتلقَّى فيه شحنة روحيَّة زاكية ، يستقبل بها أسبوعاً من العمل والكدِّ والإنهاك ، ينشغل فيه عن نفسه وحاجاتها ، وينصرف به عن روحه وغذائها ، حتى إذا تمَّ للمسلم أسبوعه : عاوده يوم الجمعة بأنواره مشرقاً على نفسه من داخلها ، يناديه بنداء الإيمان : أن هلمَّ إلى بيت الله تعالى ، حتى إذا قربت ساعة الوجوب ، ودنت شمس الزوال : انخلع الرجل من الدنيا وشهواتها ، وألقى وراءه الأعمال ومشاغلها ، وصفَّى ذهنه من الشواغل وأفكارها ، ثم أقبل على بيت من بيوت الله تعالى ، وقد تهيَّأ للذكر ببدنه ونفسه وعقله ، متوجِّهاً بكيانه كلِّه إلى المنبر ، قد فتح - للخطيب الموفَّق -  صفحة ذهنه ، وفكَّ له مغاليق قلبه ، ليسكب فيها ما يحيي القلوب ، ويصلح النفوس ، ويقيم السلوك .

لقد أتى التكليف الشرعي بهؤلاء الجماهير إلى بيوت الله تعالى ، وألزمهم الإنصات للموعظة ، والسكون الكامل للذكر ، فلم يعذرهم بكلمة مرسلة يقولها أحدهم ، أو حصاة مهملة يرفعها ، فالكلُّ في إخبات وسكون ، حتى إن الجاهل لا يجد من الحاضرين من يوجِّهه ما دام الخطيب يتحدَّث ، وهكذا يصبح الصمت والسكون - في هذا الوقت - عبادة ملزمة ، يتأدَّب بهما المستمعون ، حتى إذا أنجز الخطيب موعظته ، وأتمَّ إلى النهاية خطبته : سُرِّي عن الحاضرين ، فإذا صلوا انطلقوا منتشرين في أرض الله تعالى يبتغون من فضله .

إن هذه المسألة الشرعية الملزمة للمكلَّفين من الرجال بحضور الجمعة ، متأدِّبين على هذا النحو : لابد أن تقابل من الخطباء بما يناسبها من الإعداد المحكم والإتقان ، وحسن الأداء في الإلقاء ، مع حزمة مناسبة من المشاعر الصادقة الحارة ، التي تضفي على الخطبة روحها ، فلا تخطئ العبارات طريقها إلى القلوب ، فتستقرُّ في النفس ، آخذة مكانها لبنةً في بناء الشخصيَّة المسلمة .

         إن الزمان والمكان والواقع والحدث ، كلُّ ذلك معتبر في بناء الخطبة ومضامينها ، فلا يفوت الخطيب الآية المناسبة للمقام ، والرواية الدالَّة على الموضوع ، مع استحضار التاريخ عند الحاجة ، والقصَّة المؤثرة عند اللزوم ، بحيث تكون الخطبة وجبة صحيَّة متكاملة ، يخرج بها المصلِّي من الجامع وقد شبعت نفسه ، وامتلأ قلبه ، واستنار فكره ، فما تزال عبارات من الخطبة ماثلة في نفسه ، يشعر بصداها يتردَّد في عقله ، فتكون زاده الطيب إلى الجمعة الأخرى .

إن تكامل خطبة الجمعة في مضمونها العلمي ، وفي أسلوبها الإنشائي ، وفي أدائها اللفظي : لا يعني الإطالة المكروهة التي تُمِلُّ الحاضرين ، مهما كان ظرف الخطبة الواقعي ، وأهميَّة موضوعها العلمي ؛ إذ إن الإيجاز المتقن أصلٌ مهم في صفة الخطبة الشرعيَّة الجيدة ، فما زال الخطباء الموفَّقون يجتهدون في بلوغ درجة الإيجاز المتقن ، الذي يوصل الرسالة سلسة متكاملة بلا خلل ولا شطط .

ولئن كان القرآن الكريم أصلاً ضروريًّا لتمام الخطبة الشرعية ، والحديث النبوي عنصراً مهمًّا لكمال بنائها : فإن الخطبة الموفقة ليست مجرَّد جمع آيات الموضوع وأحاديثه ، ومن ثمَّ سردها على المصلِّين ؛ فإن مثل هذا الأداء أصبح يسيراً في هذا العصر ، كما أنه لا يحقِّق الغرض التربويَّ المنشود من الموعظة ، في حين لو جمع الخطيب عناصره من القرآن والسنة وآثار السلف ، مضيفاً إليها ما يحتاج إليه لكمال موضوعه من الثقافة الإسلامية والواقع ، فأخذ بمجموع مضامين هذه النصوص ، معبِّراً عنها ملخصة بعباراته الشخصية ، مطعِّماً خطبته ببعضها ؛ فإنه حينئذٍ يختصر جملة عناصر الخطبة ومسائلها في عبارات معدودة موجزة ، تحقِّق الغرض الشرعي بصورة أبلغ في التأثير ، مع ضبط الوقت وفق السنة .

ولا ينبغي أن يفهم من النصح بالتركيز على ظلال النصوص الشرعية ، دون الاكتفاء بمجرَّد السرد : أن عبارات الخطيب الخاصَّة وإنشاءه أبلغ من النصوص ، فهذه مغالطة لا تجوز إثارتها في هذا المقام ، فإن كلام الله تعالى لا يبلغ مقامه كلام ، وكلام رسول الله × لا يساويه كلام أحد من الناس ، وبناء على هذا : فهل يكون من الحكم الشرعي ، والمنطق العقلي : أن يكتفي الخطباء بنصوص الوحيين عن التعبير عنهما بعبارات إنشائية ، ينظِمونها بأنفسهم ؟ فقد خطب رسول × جمعاً من الخطب ، فلم يقتصر على نصوص القرآن وحدها إلا فيما ندر ، وخطب من بعده خلفاؤه وأمراؤه ، فلم يكتفوا بالنصوص وحدها ، وما زال العلماء - في كلِّ عصر - ينوِّعون في خطبهم ، ويتخيَّرون في عباراتهم ، ويتفنَّنون في أدائهم ، كلُّ ذلك يحصل عبر تاريخ الأمة بلا نكير ، حتى إن الباحث يعجز أن يجد تطابقاً كاملاً في خطبهم ، فلو كانت مضامين خطبهم قوائم من نصوص الكتاب والسنة لتطابقت ، فالنصوص مهما كثرت فهي محدودة .