معلومات
تاريخ الإضافة: 3/1/1437
عدد القراء: 3649
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر محرم 1437هـ

الجنة العظيمة

          الحمد لله الكريم المنَّان ، والصلاة والسلام على السيِّد عظيم المقام ، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فقد اتفق المنتسبون إلى الأديان السماويَّة على أن أجلَّ دار في الوجود ، وأهنأ مكان في الكون ، وأكرم موضع خلقه الله تعالى هو الجنة ، فرغم ما طرأ على هذه الأديان من التحريف والتشويش – حاشا الإسلام – فقد اتفقت كلمة المنتسبين إليها أن الجنة دار جلال وهناء وسعادة ، ولئن كانوا يختلفون في تفصيلات طبيعة النعيم فيها ، فقد اتفقوا على أنه الأعلى والأكمل والأجلُّ .

          ثم ينطلق هؤلاء في أمانيِّهم ، كلٌّ يحتكر الجنة لطائفته خاصَّة ، ويدَّعي الحظْوة والمكانة عند الربِّ سبحانه ، فلا مكان لغيرهم فيها : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ...) (5/18) ، في حين يتأدَّب المسلمون مع ربِّ العالمين ، فلا يجزمون بالجنة لأحد غير الأنبياء إلا بدليل ، فالجنَّة – في اعتقادهم - لكلِّ أهل التوحيد الخالص ، من أتباع النبيين من كلِّ طائفة ، فلا مكان في الجنَّة لمشرك من أية طائفة كان ، مع الاعتقاد أن أحظى المؤمنين برحمة ربِّ العالمين هم المسلمون الموحِّدون ، أتباع خير الخلق ، وسيِّد الناس ، محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم - بفضل الله تعالى - أكثر أهل الجنَّة ، كما صحَّت بذلك الأخبار ، فقد جمع الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من الرحمات والفضائل والكرامات ما تفرَّق في الأمم السابقة .

        إذا تقرَّر هذا فإن أولى خطوات سعادة المؤمنين يوم القيامة النجاة من النار : (...فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ...) (3/185) ، فهذه سعادة غامرة لا ينساها الناجون ، حين اجتازوا الصراط بسلام ، بل تبقى في ذاكرتهم باعتبارها آخر الآلام والأحزان ، فيحمدون الله تعالى عليها من حين لآخر .

        حتى إذا اجتمع الناجون من النار حُبسوا في قنطرة التطهير ؛ ليُخلَّصوا مما علق في صدورهم فيما بينهم في الدنيا من الغلِّ والحسد والشحناء ، حتى يتطهَّروا من عيوب النفس ، ويتخلَّصوا من قبيح السلوك ، فتصفوا النفوس ، وتطمئن الصدور ، فيتأهَّلون بذلك ويرتقون إلى دار السلام بجوار ربِّ الأنام .

         حتى إذا تقدَّمت طلائع ركب السعداء نحو الجنة ، وفُتحت لهم أبوابها الثمانية ، ووصلهم شيء من ريحها الطيب : نودي عليهم أن هلمُّوا ، فلا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم ، وخزنة الجنة على أبوابها ينادون الأخيار ، بما سبق لهم في الدنيا من عظيم الحسنات ، حتى إن بعضهم يُنادى عليه من أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء ، فإذا دخلوها كان أول ضيافتهم زيادة كبد الحوت ، ثم هم بعد ذلك أهدى إلى دورهم في الجنة من تلك التي كانوا قد خبروها في الدنيا .

         إن وصف فرحة دخول الجنة لا يمكن للبشر التعبير عنها ، ولو لا أن الله برحمته كتب عليهم ألا يموتوا لماتوا من شدَّة الفرح ؛ فبهجة دخولها لا تطيقه طبيعة البشر ، غير أن الله تعالى أنشأهم نشأة أخرى ، لا تقبل الهلاك ، ولا يلحقها الفناء ، ولا حتى الغفلة التي تعتري أهل الدنيا ؛ فهم يدخلون دار النعيم المقيم ، يدخلون داراً حشاها الله تعالى برحمته وفضله ، وصرف عنها بكرمه وجوده كلَّ كدر ونصَب وهمٍّ وحزن ، فلا بأس فيها ولا عنت ، ولا كرب فيها ولا سقم ، إنما هو توارد النعيم وتجدُّده ، ودوام البقاء واستمراره : (...وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (43/71) ، فماذا ترى الإنسان يطلب فوق تحقيق كلِّ أمانيه ومشْتهياته ، مع بقاء ذلك له في خلد دائم ، لا يزول ولا يتحوَّل ولا ينقطع ؟ (...عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (11/108) .

         إن ما وصف من صنوف نعيم الجنة ، وما ادَّخر الله تعالى لعباده الصالحين فيها من قرَّة الأعين : يتضاءل أمام نعمة النظر إلى وجه الله تعالى ، فهذا مقام نعيم ولذة ، لا يضاهيه مقام من مقامات الجنة ، ولا تساويه لذة من لذاتها ، فهي تجربة لم يخبرها أحد من أهل الدنيا قطُّ ؛ لأن الأولياء في الدنيا لم يُهيئوا لمثلها : (...فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا...) (7/143) ، أما في الجنة ، وقد أنشأهم الله تعالى نشأة أخرى تطيق التجلِّي الإلهي الأعظم ، فإنهم حينئذٍ يرتقون بها إلى مقام الرؤية الحقَّة ، فلا يضارُّون في رؤيته سبحانه ، فيشاهدون بأعينهم الربَّ الجليل العظيم ، فتزول عنهم كلُّ أوهام العقل ، وهواجس النفس ، عن حقيقة وجلال الذات الإلهية وعظمتها ، فهو أرفع مقام يبلغه أولياء الله تعالى في جنات النعيم ، وأجلُّ تجربة يعيشونها ، حتى إن أحدهم ليختلي بربه يناجيه ، ضمن محادثة عظيمة ، ومحاضرة لطيفة ، لم يعرفها الصالحون قبل هذا المقام ، فسبحان من لا يشغله أمر عن أمر .

           ولهذا تسبغ هذه الرؤية الفريدة على الناظرين من الرجال والنساء أنوار بهجة جديدة ، وتلقي عليهم فيضاً ربانيَّا كريماً ، يشعرون به حقيقة ماثلة في نفوسهم وعلى صورهم ، فيزدادون نعيماً إلى نعيمهم ، وجمالاً إلى جمالهم ، وأنساً إلى أنسهم ، فتعاودهم هذه الرؤية الجليلة في كلِّ جمعة ، ومن هم من تعاوده في أقلَّ من ذلك ، فيهنؤون بلقاء ربهم حين يتجلَّى يسلِّم عليهم ، مشعراً لهم - سبحانه وتعالى – برضوانه عليهم ، ورضاه عنهم ، حين يناديهم : ( السلام عليكم يا أهل الجنة ) (مشكاة المصابيح) ، فلأهل الجنة حينها أسعد الناس بربِّهم ، حين تقرع هذه العبارة العظيمة مسامعهم ، فبأي أذن تراهم يتلقَّون سمْعها ؟ وبأي نفس تراهم يطيقون وقْعها ؟ إنها أزمان فريدة من نعم الله تعالى ، لا خُبْر للأولياء بها ، ولا تجربة سابقة لهم بمثلها ، فلو ذاقوا بهجة هذه الرؤية العظيمة ، وتنعَّموا بلذتها الفريدة ، وعاشوا مقامها الكريم ثم منعوا منها بعد : لشعروا أنهم أتعس الناس على الإطلاق ؛ فمن تراه يطيق الصبر عن رؤية الربِّ الجليل وقد رآه مرَّة ، إنه صبر لا طاقة للأولياء به ، ولا قدرة لهم عليه ، فمثل هذا الحرمان لا يكون أبداً لأحد من أهل الجنة : (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (4/124) .

         ثم هم بعد لقاء ربِّهم يسعدون في سوق الجنة بلقيا الأحبة في يوم المزيد ، فما أسعد المسلمين بلقْيا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء ، فقد آمنوا بهم جميعاً في الدنيا ولم يروهم ، وها هم اليوم يلقونهم في أصحابهم وحوارييهم ، في غير ضراء ولا أذى .

          ولو تُرك العنان للعقل أن ينطلق في التصوِّر ، وللفكر أن يسبح في الخيال : لعجزت كلُّ مساعي الإنسان عن التكهُّن بما أخفاه الله تعالى لعباده المؤمنين من النعيم ، ولَوقف فهمه عند حدِّ مشاهداته الحسيَّة المحدودة ، التي خبرها في الحياة الدنيا ، فلا يتجاوزها لما لم يسبق له أن رأى ، فضلاً عن أن يتكهَّن بما لم يخطر له ببال قطُّ .

         وللمؤمن أن يتأمَّل نعيم أدنى أهل الجنة منزلة ، ممن يكون له من الخيرات قدر عشر أمثال الدنيا وما فيها ، فيرى نفسه أنعم أهل الجنة على الإطلاق ، فأنى لعقول البشر أن تدرك أو تستوعب نعيم من غرس الله كرامتهم بيده في الفردوس الأعلى ؟! أو أن تتخيَّل مقام الوسيلة وموضعها ؟ وهي أرفع مقامات الجنة وأعلاها ، التي لا تنبغي إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم .

         لقد أكرم الله تعالى نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم بمشاهدات عظيمة حين عرج به إلى السماء ، فرأى من آيات ربه الكبرى ، ومع ذلك لم يصف لنا إلا الشيء اليسير عن مشاهداته في الجنة ؛ لأن اللغة الإنسانية المتاحة لا تستوعب بالوصف ما غاب عنها من عجائب المخلوقات ، حتى إنه – عليه الصلاة والسلام – حين رُفعت له سدرة المنتهى : وصف شيئاً من الأحجام التي رآها ، غير أنه قال عن ألوانها : ( ...فغشيها ألوان لا أدري ما هي ) (البخاري) ، وفي رواية : (...فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينْعتها من حسنها ) (مسلم) ، فما ترى يستطيع الغائب عن هذا المقام الجليل أن يصف من خياله ما لم يستطع صاحب الرؤية – عليه الصلاة والسلام – أن يصفه ، وقد أوتي جوامع الكلِم ؟!

        إن الجنة مقام كرامة جليل وعظيم ؛ فهي خالص رحمة الله تعالى ، ومنتهى فضله وإحسانه ، وغاية إكرامه وإنعامه ، من دخلها لا يبأس ولا يحزن ، ولا يتعب ولا ينصب ، ولا يموت ولا يفنى ، فهي دار سعادة وحبور لا ينقطع ، وبهجة وسرور لا ينتهي .  

        وإن من ألطف ما يثير الأولياء إلى الجنة ، ويرغِّب فيها : انتهاء مرحلة اللغو والكذب والإثم ، فلا يتعرَّض الوليُّ في الجنة لما يزعج نفسه ، أو يقلق ضميره ، أو يسوء أذنه : (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا ، إِلاَّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا) (56/25-26) ، فلا يرِد على مسامع النزلاء الكرام لفظة نابية ، ولا عبارة قاسية ، ولا كلمة لاغية ، فالعبارات موزونة ، والكلمات مضبوطة ، والجمل مسبوكة ، قد مُزج كلُّ ذلك وعُجن بالسلامة من العيوب ، وحُفظ من السقطات والخدوش ، فيصدر ذلك عنهم بلا تكلُّف ولا عناء ، كلُّهم على خُلق رجل واحد ،  يُلهمون الحق والصواب ، كما يُلهمون التسبيح والتهليل .

         حتى الخمر ، التي من شأنها في الدنيا غياب العقل ، وخلل الذهن ، واضطراب السلوك ، وبعث العداوة : هي في الجنة متْعة الشاربين ، وبهجة النادمين ؛ فلا تغيب بها العقول ، ولا يضطرب بها السلوك ، ولا تزِلُّ بها الألسنة ، وإنما حالهم كما وصف الله تعالى : (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ) (52/23) ، فمبادلة الكؤوس ، وتجاذب القداح ، ودوام التعاطي ، وطول المكوث ، كلُّ ذلك لا يفقد الوليَّ صوابه ، ولا يخرجه عن سمْته وأدبه ، فلا يزدادون بذلك إلا بهجة وأنساً .

          إن أهل الصدق في الدنيا ، ممن تكدَّرت نفوسهم بحجم اللغو والكذب والغش والخداع ، الذي عمَّ الحياة الدنيا بظلاله القاتمة : يتطلَّعون إلى هذه النعمة الربانية بإجلال وإكبار ، حالمين بحجم الأنس الروحي ، والراحة النفسيَّة ، والصفاء الذهني ، حين يخلو الزمان من الأكدار الموحشة ، والأقوال الباطلة ، والأنغام الآثمة ، ليحول كلُّ ذلك سلامة بدار النعيم ، فما كان في دار التكليف مقْلقاً للصالحين هو اليوم في الجنة أنساً ومتعة للمفلحين ، فلا يمتنعون عن شهوة ، ولا يكفُّون عن لذة ، ولا يخجلون من رغبة ، فكلُّ شيء هنا مباح وممتع ودائم ، وسهل وميسَّر وقريب ، حتى الأنغام المطربة ، والأصوات الفاتنة ، والكلمات المغْرية ، التي كانت زمن التكليف محكومة بحلال وحرام ، هي في الجنة أنيس المؤمنين ، ينْفعلون بها ومعها في كلِّ حين يشتهون ، فتصدر لهم من الحناجر الناعمة ، والأشجار الدانية ، والرياح اللطيفة ، فيسمعون من أعذب الأنغام ، وأجمل الأصوات ، وأحلى العبارات ، ما لم يخطر لهم قطُّ ببال ، ولا مرَّ لهم من قبل بخيال ، من عجائب مُتع السماع ، جزاءً وفاقاً لحسن أعمالهم ، وطيب صنيعهم : (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (55/60) .

         وإن من أعجب نعم الجنة : جمال أهلها ، ضمن صور ناضرة فائقة الحسن والبهاء ، في : تقاسيم سماتها ، وشكل هيئاتها ، وألوان أبشارها ، فقد أنشأهم الله تعالى نشأة جديدة شاملة ، بلا عيوب ولا نواقص ، ثم هم بعد ذلك في صور وهيئات جماليَّة متجدِّدة ، ينتقلون من نضرة إلى أخرى ، ويرتقون من طلْعة إلى ثانية ، يستمدُّونها من خزائن الله الملأى ، التي لا تنضب ولا تغيض .

         ثم هم بعد ذلك يرفلون في أثواب ناعمة زاهية ، وحليٍّ كريمة غالية ، وعطور طيبة زاكية ، على سرر مرفوعة عالية ، داخل قصور شامخة ، وظلال وارفة ، وثمار يانعة ، وأطعمة ناضجة ، وأنهار جارية ، وأنوار دائمة ، في يقظة كاملة ، وصحَّة شاملة ، لا يبصقون ولا يبولون ولا يتغوَّطون ، وإنما ترشح أجسادُهم أطيبَ الطيب ، قد خلصت أبدانهم من مراذلها المستقبحة ، وارتقت في كمالاتها المستحسنة ، ضمن نشأة ربانية كاملة ، حتى العجوز المؤمنة من نساء الدنيا تعود في دار الجزاء شابة حسناء ، لم يبق لها من سابق حالها إلا الذكريات ، فما أسعد المؤمنين والمؤمنات بنضارة الشباب ، وطول البقاء ، ودوام العطاء ، ورضى الكريم الوهَّاب : (خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (18/108) .  

          ونهاية مطاف الشهوات : الإفضاء إلى العذارى الحسناوات ، من يواقيت الحور المكنونات ،  في همَّة عالية ، وقوَّة ماضية ، وشهوة متوقِّدة ، بلا عجز ولا خور ، فلا يكاد الوليُّ يأنس بواحدة ، حتى تمضي به أخرى إلى خدرها ، بلا كلل ولا ملل ، قد هيَّأهن الله تعالى تُحَفاً لذيذة لأوليائه المؤمنين ، في صور من الجمال النسائي لم يُعرف لها شبيه في معارف أهل الدنيا ، للواحدة أنوار في خلقتها ، وطيب في بشرتها ، ورشاقة في هيئتها ، لو برزت للدنيا لأضاءتها ، ولملأتها طيباً وعطراً ، فكيف بحال المؤمنات من نساء الدنيا ، اللاتي يدخلن الجنة جزاءً لسابق إيمان وعمل ، فهؤلاء لهن مع النعيم شأن آخر ؛ فما وُصف من جمال الحور العين ، وعجائب مفاتنهن ، وكمال حسنهن ، لا يتجاوز الواحدة من مؤمنات الدنيا ، فهن في غاية ما يمكن أن يكون من الجمال النسائي ، وفي منتهى ما يمكن أن تبلغه المرأة في دار النعيم ، مع ما يرافق ذلك من الملك الواسع ، والعز الدائم ، والنعيم المقيم ، ضمن منازل لا تقلُّ عن الرجال في شيء ، بل قد تفوق درجة المؤمنة في الجنة أضرابها من الأولياء ، فما تزال إحداهن سعيدة بعظيم ملْكها ، مبتهجة بسعة سلطانها ، مُكْرمة في دورها ، مخدومة في قصورها ، مشغولة بزينتها ، منهمكة في لهوها ، ترْفل في متع حسيَّة ونفسيَّة وروحيَّة ، لا منتهى لها .

          ثم هي بعد ذلك لآخر زوج من أولياء الله تعالى كان لها في الدنيا ، تُسعد به ويُسعد بها ، لا غيْرة ولا حسد ، وإنما غبطة وسَعَد ، فالفطرة الأنثوية بوحدة الزوج تلازم المرأة المؤمنة في الدارين ، فلا تبغي عن زوجها بديلاً ، كما أن الفطرة الذكوريَّة - هي الأخرى – تلازم الرجال ، فينعَّمون في الجنة بتعدُّد الأزواج ، فما أسعد المؤمنين والمؤمنات بفطرة الله تعالى ، التي فطر الناس عليها .  

         أما بناء الجنة ، فكما وُصف لنا : لبنة من ذهب وأخرى من فضَّة ، ارتفعت بهما قصور الجنة ، واتسعت بهما دورها وغرفها ، فما من حجر كريم ، أو معدن نادر ، أو حلية غالية : إلا هي أوفر ما تكون في عمارة الجنة ، وفي أفنيتها وحصبائها وتربتها ، فقد أرخص الله لأوليائه في الجنة كلَّ غال ونفيس ، حتى عاد لهم كلُّ شيء متاحاً بلا ثمن ، فلو أذن لأهل الجنة أن يسجدوا شكراً لله تعالى على نعمه ، وعلى كريم عطاياه ومننه : ما رفع أحدهم رأسه من موضع سجوده طول مقامه في الجنة ، ولكن الله تعالى غنيٌّ عن مثل هذا لو قُدِّر أن يصدر عنهم ، وحقَّه على عباده لا يستوفيه أحد من الخلق مهما تفانى في ذلك ، ومهما طال به الزمان ، وإنما رضي لهم في الجنة : الحمد والتسبيح والتكبير والتهليل في غير تكليف ، فهم يُلهمون ذلك كما يُلهمون النفس ، يبدؤون بالتسبيح ويختمون بالحمد : (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (10/10) ، فما يزالون كذلك في حياة أبديَّة كاملة ، يستمدونها من الحيِّ سبحانه وتعالى ، وفي بقاء دائم لا ينتهي ولا يزول ولا يحول ، يستمدُّونه من الباقي جلَّ جلاله ، وفي نعيم مقيم متجدِّد ، يستمدُّونه من المنعم جلَّ شأنه : (...خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (5/119) .