الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ القيم الإنسانية بين العبودية والإتقان
مقال شهر شعبان 1436هــ
القيم الإنسانية بين العبودية والإتقان
الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيِّد الأولين والآخرين ، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن القيم تزدهر وتتعدَّد وتتنوَّع في التشريع الإسلامي ، فهي من الكثرة ما يصعب معه الحصر ، غير أنها – رغم كثرتها – ليست على درجة واحدة من الأهمية ، وليست أيضاً على مرتبة واحدة في المكانة ، فمنها ما يتقدَّم على غيره من القيم ، ومنها ما يتأخر ، بيد أن الناظر المتأمِّل في مجمل قائمة القيم الإسلامية بوجه عام يجد أن مركز مجموع القيم ، ومصبَّ عصارتها وتفاعلها ينحصر في قيمتين اثنتين ، هي مدار القيم وخلاصتها :
القيمة الأولى هي العبودية ، بما تشمله من استيعاب كامل وتامٍّ لكلِّ نشاطات الإنسان وتفصيلات حياته ، بما في ذلك الفروض العينيَّة والفروض الكفائية ، فلا يخرج أمر – أياً كان - عن مظلَّة العبودية وسلطانها ، حتى إن النشاط الجنسي - الذي يستحقره كثير من الناس – يدخل ضمن مفهوم العبودية ، ما دام أنه موافق للتشريع الربَّاني ؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (...وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) .
وجاء عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه – في شأن النوم ، الذي هو مظنة السكون والموات من أنواع النشاط الإنساني والحركة ، فقد ورد عنه ما يفيد أنه النوم يدخل في نشاط العبادة والأجر ، حيث يقول : ( إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ) ، فهو - رضي الله عنه – لا يفرِّق بين كونه مصليًّا قائماً ، يتعبَّد الله بالركوع والسجود ، وبين كونه طائعاً لله تعالى في التزام حق البدن في الراحة والنوم ، فهو عابد مأجور في كلِّ حال .
وبناء عليه : فليست العبادة قاصرة على الشعائر التعبُّدية ؛ كالصلاة ، أو الصيَّام ، أو الحجِّ ، بل إن كلَّ أنشطة الإنسان وتفاعلاته الظاهرة والباطنة - بما في ذلك الشعائر التعبُّدية - تدخل ضمن نطاق العبودية لله تعالى .
ولهذا لا يخرج المسلم عن العبودية بذنب يقترفه مهما عظُم ، ما لم يكن شركاً ، فهو يمارس العبادة بالاعتقاد القلبي الصحيح ، حتى وإن خالف ذلك بسلوكه ؛ إذ الأصل المقدَّم في خاتمة القبول عند الله هو سلامة المعتقد ، وليس سلامة السلوك ؛ لأن السلوك يعتريه الطبع البشري بنواقصه وعيوبه ، أما المعتقد فلا سبيل إليه إلا بإرادة صاحبه ورغبته ، فبذلك يستمر نشاط التعبُّد عند المسلم ، فما يزال المكلَّف ملْتصقاً به لا ينفكُّ عنه ، فلا يغيب عنه أبداً ما دام أنه يحمل أصل الإيمان .
وبهذا الفهم تكون قيمة العبودية هي ألصق القيم بالإنسان وأشملها على الإطلاق ، ويكفي دليلاً على ذلك قول الحقِّ جلا وعلا عن الغرض الأساس والغاية النهائية من وجود الإنسان : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) ، فليس لله غرض من وجود الإنسان إلا أن يقوم بمسئولية العبادة وتكاليفها ، وفق ما شرع الله تعالى له .
وأما القيمة الثانية فهي الإتقان ، بمعنى إحكام الأداء التعبُّدي بمفهومه الشامل لكلِّ أنشطة المسلم وتفاعلاته المختلفة ، بحيث لا يغيب حسن الأداء وجودته عن أيِّ عمل يقوم به المسلم ، سواء كان عملاً ظاهراً ضمن أنشطة الحياة المختلفة والتكاليف الشرعيَّة المتنوِّعة ، أو كان عملاً باطناً ضمن أعمال القلوب ؛ كالإيمان ، والحب ، والبغض ، والرهبة ، والخشية ، والإخلاص ، ونحوها من أعمال القلوب ، فالإتقان – في كلِّ هذا - مقصد أصيل في الأداء الإنساني ، وهذا صريح قوله الله تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) ، فالإتقان سلوك عام ، يشمل كلَّ أداء يباشره المسلم ، سواء كان تكليفاً شرعيًّا ملزِماً ضمن فرض عينيٍّ أو كفائيِّ ، أو كان عملاً مباحاً يختاره المسلم لنفسه ، فلا تغيب قيمة الإتقان عن أيٍّ من ذلك .
ومن هنا فإن جميع القيم الإسلامية - بمفهومها الشامل - تفتقر بالضرورة إلى هاتين القيمتين : العبوديَّة والإتقان ؛ فالعبوديَّة تشملها جميعاً ؛ فكلُّ أنشطة الإنسان الظاهرة والباطنة تعبُّد ، وأما الإتقان فهو أداء ضروري يرافق كلَّ نشاط - ظاهراً كان أو باطناً - يُرجى قبوله عند الله أو عند الخلق ؛ فالله تعالى يحبُّ الإتقان في كلِّ أداء يمارسه المكلَّف ، وكذلك الناس يحبُّونه فيما بينهم من الحقوق والواجبات ؛ لذا فإن قيمتي العبوديَّة والإتقان هما خلاصة القيم الإسلامية وصفوتها .