الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ اضطراب السلوك الديني


معلومات
تاريخ الإضافة: 1/7/1436
عدد القراء: 4117
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر رجب 1436هـ

اضطراب السلوك الديني

         الحمد لله العظيم الجليل ، والصلاة والسلام على النبي الكريم ، والرسول السيِّد العظيم ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن أجمل ما يطلبه المؤمن الصادق أن يكون عابداً لله تعالى بحق ، قائماً بحقوق العبوديَّة له سبحانه ، وفق ما شرع لعباده من مناهج التعبُّد ، وفي ضوء ما وضع لهم من مسالك التألُّه ، وفتح لهم من مقامات التبتُّل والإخبات .

         بيد أن طريق العبوديَّة – على جمالها وكمالها – محفوفة بعوائق النفس ، وملغومة بنزغات الشيطان ، ومكتظة بالمثبِّطين والمبطلين والمنحرفين ، فما يزال العابد يجاهد نفسه ، ويدافع شيطانه ، ويقاوم المبطلين ، فيسعى دائماً لحفظ عمله ، وإتقان أدائه ، وتحرير مراده ؛ لأن الزيغ عن الحق - ولو بالقدر اليسير - قد يفضي إلى زيغ القلب ، واضمحلال الإيمان ، وضياع ثواب العبادة ؛ فإن قوماً ممن مضوا زاغوا فأزاغ الله قلوبهم ، فعادوا أرذل الخلق ، وأضحوا أقبح الناس ، وكانوا محطَّ لعنة الله تعالى وسخطه وغضبه ، ومع ذلك يتنسَّكون ويتعبَّدون ، ويتنادون بالدين والمعتقدات والمقدَّسات حسب زعمهم ، فلم يمنعهم حجم الضلال ، وعمق الفساد ، وغضب الإله ، من دين – أياً كان - يتديَّنون به ، فيجتمعون حوله ، ويوالون ويعادون عليه .

          لذا فإن الآيات القرآنيَّة ، والأحاديث النبويَّة ، التي جاءت في التحذير من مشابهة أهل الكتاب ، والترهيب من طرائقهم الخبيثة ، والتنفير من مسالكهم الحقيرة ؛ إنما تضافرت من أجل حفظ الدين والتديُّن من الفساد والإفساد ، المؤدِّي – بالضرورة – إلى عين من انتهى إليه المغضوب عليهم من أهل الكتاب .

            إن قوماً من المسلمين ظنوا أنهم حين يفرِّطون في التزاماتهم الدينيَّة لا يتضرَّرون من جرَّاء ذلك ، ما داموا يحملون العقيدة الصحيحة ، وكأن العقيدة الصحيحة تنافي السلوك القويم ، باعتبار أن السلوك – في نظرهم - لا يضرُّ العقيدة ، رغم ما غلب اعتباره عند العقلاء من أن السلوك القويم مؤشِّر قوي على سلامة المعتقد ، فما يزال أحدهم يتوسَّع في المباحات ، ويتجاوز في المشتبهات ، ويقتحم في الحدود ، قد اكتفى من الدين بحزمة من المفاهيم والعقائد والعبادات ، يزعم أنها الدين كلُّه ، فيعادي عليها ويوالي فيها ، فمن وافقه عليها أحبَّه ، ومن خالفه فيها أبغضه .

         إن أحدهم يغرق إلى شحمة أذنيه فيما يخجل منه العامة ويستقبحونه من التفريط الديني ، ومع ذلك يحيط نفسه بهالات التقديس ، ونعوت الاحترام ، لمجرَّد صور دينيَّة مبهرجة ، وشارات علميَّة مزيَّفة ، حتى إذا دنا منه معترض ، أو صادفه ناقد ؛ انصبَّت عليه - من هذه الهامة المقدَّسة - حمم العداوة والعداء ، وانفتحت عليه نيران الشتم والطعن والسباب ، فلا حرمة لمعترض ، ولا حقَّ لناقد .

         وأعجب من ذلك في سلوك هؤلاء هو احتكارهم تفسير الدين على نهجهم الخاص ، وانفرادهم بحق التعبير عنه بطريقتهم الخاصة ، فالويل لمن يُعبِّر على غير فهمهم ، أو يصرِّح بغير رأيهم ، ولهذا ينشطون للمخالفين من حملة الدين ؛ من الفقهاء والعلماء والدعاة ، أكثر بكثير من نشاطهم ضدَّ المعادين للدين ، ممن يجاهر بالفسق والضلال ، فيقعون فيهم وقعاً عنيفاً بلا هوادة ، فيستبيحون منهم ما يستبيحه الكافر من المسلم ، لا يراعون في ذلك أدباً ولا حرمة .

         وإن من أوضح المزالق المتلبَّسة بالفكرة الدينيَّة التي يقع فيها بعض هؤلاء هو تقديس الحاكم أياً كان حاله ، ما دام أنه وليُّ نعمتهم ، فيدينون لكلِّ متغلِّب مغتصب جبَّار ، باعتبار ذلك ديناً يدينون الله تعالى به ، وشرعاً يُلزمون أنفسهم به ، وقربة يتقرَّبون بها إلى الله سبحانه ، وإثماً يلحقونه بمن لا يسلك مسلكهم ، فيحصرون قضيَّتهم الدعويَّة في هذه المسألة ، ويولونها جلَّ اهتمامهم ، حتى بلغ الاضطراب ببعضهم درجة تأليه الحاكم ، وليس ذلك باعتباره وثناً للسجود والركوع والتبرُّك ، وإنما في هالات التقديس التي يحيطونه بها ، وفي قوائم الحصانات الدينيَّة التي يحصِّنونه بها ، وفي حجم الاستثناءات الشرعيَّة التي يُخصُّونه بها دون بقيَّة الناس ، حتى إن المتأمل لهذه الاستثناءات - حين تُجمع - ليهوله حجمها تحت عناوين : ( ويحقُّ للحاكم .. ، إلا أنه يجوز للحاكم .. ، غير أن للحاكم .. ) ، ففي الوقت الذي يتلطَّفون فيه بالسلطان هذا التلطُّف ، ويُفسِحون أمامه مجالات التصرُّف : يشتدُّون على الرعية بأغلظ الأقوال ، وأضيق المذاهب ، وكأن للشعب شريعة ملزمة معبَّرٌ عنها بالنصوص الشرعيَّة والاحتياطات الفقهيَّة ، وأما الحاكم فلا شريعة واضحة تُلزمه ، وإنما هي جمع من الاستثناءات الكثيرة ، التي تعطي الحكَّام ساحات من الحريَّات غير المعهودة ، لا في عصر النبوَّة المقياس ، ولا في العهد الراشدي النموذجي .

          لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم – على عظيم مقامه - مُلزَماً بنصوص الشرع ، تماماً كغيره من المؤمنين ، كما قال الله تعالى حكاية عن نبيِّه شعيب عليه السلام : (...وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ...) ، فهو أسوة المؤمنين - عليه الصلاة والسلام - وإنما خصَّه الله تعالى بخصوصيَّات شرعيَّة معدودة لمقام النبوَّة ، في حين لم يختلف شأن الخلفاء الراشدين من بعده عن جمهور المسلمين في شيء من الأحكام البتَّة ؛ فقد كان الواحد منهم – رضي الله عنهم – يُعد نفسه فرداً من الأمة ، يلزمه ما يلزمهم من الأحكام الشرعيَّة ، بل هو المعنيُّ بذلك لمقام القدوة ، غير أنه أثقلهم حملاً ، وأكثرهم همًّا ، باعتبار مسئوليَّة الخلافة ، وما يُنقل عنهم من اختيارات فقهيَّة معدودة ؛ إنما هي اجتهادات علميَّة رصينة ، ضمن نطاق الشرع ، قد أفرغ الواحد منهم وسعه لبلوغ الصواب خدمة للأمة ، لا غرض لأحدهم غير هذا ، بحضرة جمهرة من الصحابة المجتهدين ، ممن لا تأخذهم في الله لومة لائم .

           لقد أدرك السلف - رضوان الله عليهم - أن وصف العبادة لا ينحصر في الأداء التقليدي للشعائر التعبُّديَّة ؛ كالركوع والسجود والدعاء ونحوها ، وإنما يشمل الطاعة العمياء ، التي يتلبَّس بها المبطلون في دعواهم المفرطة بضرورة طاعة ولي الأمر ، والغلو الشديد في شخصه ، وحصر جلِّ النشاط الدعوي في ذلك ، ضمن جمع من المبرِّرات ، التي لا تسوِّغ كلَّ هذه الاستثناءات من نصوص الشرع ، والله تعالى يقول في ذمِّ أهل الكتاب : ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ...) ، وفي حديث عدي بن حاتم – رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (...أليسَ يحرمونَ ما أحلَّ اللهُ فتحرِّمونه ، ويحلُّونَ ما حرَّمَ اللهُ فتحلُّونه ، قال : قلتُ : بلى ، قال : فتلك عبادتُهم ) .

         إن أزمة المضطربين دينيًّا – بغض النظر عن مقاصدهم ونيَّاتهم – لا تكمن في التأصيل النظري لوجوب طاعة السلطان المسلم في المعروف فحسب ، مما هو موضع اتفاق بين المسلمين ، وإنما تكمن في التطبيق العملي للمسألة ؛ فالحصون المشيَّدة ، والقناطر المشرعة ، والأسوار القائمة ، التي تلفُّ الحاكم من كلِّ جهة : لا تسمح أصلاً بالمراجعة فضلاً عن المساءلة ؛ فسياسة المستبدِّين تتلخص في قولهم : ( لا رُجوع عمَّا تقرَّر ) ، على طريقة الفرعون الأول : (...مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى...) ، ومن الصعوبة بمكان التمييز - في سلوك هؤلاء المضطربين - بين ما هو تديُّن شرعي ، وخشية صادقة ، وقناعة فقهيَّة ، وبين ما هو نفاق وتزلُّف ومداهنة ، ووظائف شغْل يقومون بها ، ومهمَّات عمل مدفوعة الأجر ؛ فهما سلوكان متطابقان في الظاهر ، لا توجد علامة تميِّز بين المخلص منهم والمغرض ، فلا يُفرِّق بينهما إلا تصريح صاحبه وإدعاؤه ؛ فالذي يمجِّد الظالم ، ويثني على المتسلِّط ، ويبرر للمفاسد ، ولا ينهى عن المنكر : لا يمكن الوثوق بنيَّته ، فالفطرة الاجتماعيَّة لا تقبل ذلك منه مهما ادَّعى ، والشرع الحنيف يذمُّ ويحاسب على حبس قطَّة حتى الموت ، والله يعاتب نبيًّا على حرقه قرية نمل ، فكيف يسوِّغ لظلم الناس وقتلهم وهتك أعراضهم ؟ بل إنهم بطريقتهم الممجوجة هذه يفسدون العلاقة بين الراعي والرعية ، حين يدلِّسون الحقيقة على الناس ، في عصر يستحيل فيه التدليس على عموم الناس .

           وأما استدلالهم بقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ...) ، لتقديس تصرُّفات الحاكم ، وكفِّ الملامة الشعبيَّة عنه ، فهذا تفسير لا يسعه النص القرآني ؛ لأن طاعة الحاكم منوطة بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فليست طاعته مطلقة ، كما أن النص أعطى للشعب حقَّ الاختلاف مع الحاكم : (...فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ...) ، وجاء النص بصيغة التنازع ، التي تفيد تجاذب الآراء ، واستقطاب الاتجاهات ، ثمَّ لم يتركهما الشرع لأنفسهم بعد التنازع : (...فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ...) ، بمعنى أن الحاكم والمحكوم كلاهما على مسافة واحدة من الحكم الشرعي ، فلا استثناء لأحد .

           إن هؤلاء المضطربين – من حيث يعلمون أو لا يعلمون – يخلعون على الحاكم المسكين ثوب الألوهية ، ورداء الكبرياء ، وإزار العظمة ، الذي لا يليق بأحد من الخلق أيًّا كانت مكانته ، فينخدع المغرور بنفسه ، ويُفتن في دينه ، وتتضخم ذاته الضعيفة ، فيذهب بها بعيداً عن منزلة العبودية ، فما يزداد بذلك إلا ذلاً وحقارة .

           ثم إن أهواء المستبدِّين السياسيين لا تنتهي مع المضطربين الدينيِّين عند حدِّ التعظيم والتقديس ، بل تتجاوز ذلك إلى استخدام بعضهم أختاماً لشرعنة اختياراتهم السياسية ، وتخريج أهوائهم مخارج فقهية ، بل ربما انطلق بعض المتحذلقين منهم ليبادر السلطان بالفتوى السياسيَّة قبل أن يطلبها !!

           ومن المفارقات العجيبة في شأن هؤلاء المضطربين : اعتقادهم الجازم بوجوب الدينونة لكل سلطان متغلِّب خوَّان ، فهم بذلك يمارسون في الواقع أكبر خيانة لسلاطينهم ، فلا يوفون ببيعة الأول ، ولا ينصرونه إذا بدا عجزه ، بل ينحازون لعدوِّه المتسلِّط ، فهم أنصار الخوارج المتغلِّبين .  

          في حين أن الحاكم القائم بأمر الله تعالى ، المجتهد في مرضاته ، هو وليٌّ من أولياء الله تعالى ، له حقُّ التقدير والاحترام ، والنصرة والتأييد ، والسمع والطاعة ، ومع ذلك فليس بمعصوم من خطأ يقع فيه ، أو اجتهاد يخونه فيه الصواب ، أو حتى زلَّة يقترفها في حقِّ نفسه أو بعض رعيَّته ، فهذا وإن بدر منه شيء من ذلك عمداً أو سهواً ، فإنه لا يُتجاوز معه أكثر من النصح والتذكير ، والمراجعة والمفاهمة ، مع الصبر وسعة الصدر ، حين لا يمكن الجمع بين المصلحتين ؛ لأن مصلحة الإبقاء عليه لإقامة الشرع ، ونشر البرِّ والخير أكبر بكثير من مجرَّد استدراك مصالح فرديَّة محدودة ، أو رفع مظالم شخصيَّة معدودة ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (...تسمعُ وتطيع للأميرِ ، وإن ضَرَب ظهرَك ، وأخذ مالَك ، فاسمعْ وأطعْ ) .

          بيد أن المضطربين دينيًّا يوجِّهون هذا الحديث وأمثاله لتبرير المظالم السياسيَّة والسكوت عنها ، من خلال لجم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بلجام الطاعة العمياء دون مراجعة ، باعتبار المراجعة خروجاً على السلطان ، أو فتنة تُهيئ للخروج عليه ، فلا يُرِي الحاكم رعيَّته إلا ما يرى ، فتتراكم بذلك المظالم ، وتتفاقم على الشعوب المحن ، فتختل بذلك مسئوليَّة الأمة في الدعوة إلى الله تعالى ، وتفقد مقام القدوة للعالمين .

           إن الحق والعدل صنوان لا يفترقان ، فلا يغني أحدهما عن الآخر ، فمن حمل الحق الصحيح لابد له من سلوك العدل الصريح ، ومن عمل بالعدل الصريح لابد له من حمل الحق الصحيح ، وحجَّة الأمة على الناس لا تحصل إلا بهما جميعاً ، وما أرسلت الرسل ، ولا أنزلت الكتب ، ولا قام سوق الآخرة إلا من أجلهما ، فأي مسوِّغ يبرِّر لمدَّعي التنازل عن أحدهما ؟

           ثم إن هذا الحديث على فرض صحَّته بلا منازع ، وفهمه على ظاهره بلا معارض ، والعجز عن الجمع بينه وبين النصوص الشرعيَّة الأخرى المتوافرة : برد الظالم عن ظلمه ، وكفِّه عن التمادي في الباطل ، ووجوب النهي عن المنكر ، وأهمية الصدع بالحق ، ونحوها من المعاني الجليلة التي استفاضت في دين محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإن بعض حكَّام هذا الزمان قد تجاوز المظالم الفرديَّة إلى مظالم جماعيَّة عامة ، تخطى فيها كلَّ الحرمات ، بما فيها الدماء والفروج المحرَّمتين ، ومع ذلك يُظهر بعض الشعائر الدينيَّة ؛ ليعصم نفسه من الوسم بالكفر البواح – كما فعل طاغية الشام المعاصر - فهل مثل هذا يكون حاكماً شرعيَّا تثبت له البيعة والحقوق ؟! وهل يجب على الواحد من الرعيَّة أن يمكِّنه من زوجته إن طلبها لنفسه ، كما مكَّنه ظلماً من ظهره وماله ، باعتبار ذلك ديناً يجب على الرعيَّة طاعة السلطان فيه ؟!

           إن أحكام الشرع الإسلامي لم تأت كلُّها تعبُّديَّة بلا علل ؛ كفرض ركعات الصلاة ، وحكم التيمُّم ، ومسح الخفِّين ، ونحوها من الأحكام الشرعيَّة التي قد تخفى على المكلَّفين علَّتها ، فيأتون بها كما هي دون تقصِّي ، غير أن الغالب على أحكام الشرع هو التعليل ، بحيث يدور الحكم مع علَّته وجوداً وعدماً ، فيدخل في ذلك العامل البشري بالنظر والتفهُّم والاجتهاد ، رغبة في بلوغ الصواب بتحقيق المناط ، والتعرف على علَّة الحكم الشرعي ، فهل مسألة الإنكار على الحاكم الجائر ، وقضيَّة الخروج عليه من المسائل التعبُّدية ، التي لا مجال فيها للاجتهاد والنظر ، ولا يجوز فيها البحث عن العلَّة التي أنيط الحكم بها ؟

           إن السكوت عن الحاكم الظالم المستبدِّ أقلُّ ما يُقال فيه أنه رخصة لمن يخشى بطشه وخاف أذاه ، وعجز عن الأخذ بعزيمة الإنكار ، فكيف تتحول الرخصة - في فقه المضطربين - إلى عقيدة وعبادة يجب الالتزام بها ، ولا تجوز مخالفتها ، فتتحوَّل العزيمة الشرعيَّة عندهم إلى معصية ؟!

          إن الأصل المرجوع إليه في هذه المسألة ونحوها من المسائل العلميَّة التطبيقية هو قاعدة ارتكاب أخفِّ الضررين ، وأقلِّ المفسدتين ؛ فإن الشرع بأكمله جاء لتحقيق المصالح وتكثيرها ، ومنع المفاسد وتقليلها ، وهذا يدخله النظر والاجتهاد لبلوغ أعلى المصلحتين ، وارتكاب أخفِّ الضررين ، فالحاكم وإن كفر الكفر البواح ، فلا يجوز الخروج عليه إلا إذا غلب على ظنِّ المجتهدين المعتبرين تحقيق المصلحة الشرعيَّة بإزاحته وإقامة الشرع ، فحكم الخروج عليه منوط بالاستطاعة ، وليس بمجرَّد تحقُّق كفره .

          وفي الجانب الآخر : فإن إزاحة الحاكم الجائر ، الذي عمَّ فساده المجتمع ، وظهر إجرامه في حقِّ الأمة ، وتخطَّى مجاهراً بفسقه حدود الشرع ، غير أنه لم يجاهر بكفر بواح – كحال بشار الأسد في هذا العصر - فإن الخروج عليه واجب إذا غلب على ظنِّ المجتهدين المعتبرين تحقيق المصلحة الأكبر ، ودفع المفسدة الأعظم ، فالمسألة من هذه الجهة اجتهاديَّة ، تدور حول العلل والمسوِّغات ، وتحقيق المصالح الشرعيَّة ، وليست تعبُّديَّة لا مجال فيها للعقل الشرعي المجتهد .

            وخلاصة الأمر أن كفر الحاكم لا يسوِّغ الخروج عليه إذا غلب على ظنِّ المجتهدين أن المصلحة الشرعيَّة لا تتحقق بذلك ، كما أن إظهاره لبعض الشعائر التعبُّديَّة لا يعصمه من بطش الشعب إذا عمَّ فساده وطغيانه عموم الأمة ، وغلب على ظنِّ المجتهدين المعتبرين تحقيق المصلحة الشرعيَّة الأكبر بالخروج عليه ، فالمسألة من الناحية التطبيقيَّة تدور حول تحقيق المصلحة الأكبر ، ودرء المفسدة الأعظم ، بارتكاب أخفِّ الضررين .

            ثم إن تقدير المصلحة الشرعيَّة ، بتحديد أبعادها وتداعياتها ، وتشخيص واقعها السياسي بأبعاده المختلفة : ليست أمراً هلاميًّا لا يمكن تقديره ، ولا متروكاً لأهواء الدهماء ، من أحداث الأسنان ، وسفهاء الأحلام ، وإنما هو شأن منوط بالعلماء المجتهدين ، من أهل الحلِّ والعقد ، ومن يتبعهم من القادة العسكريين ، والوجهاء الاجتماعيين ، وأهل الخبرة السياسيين ، المعنيِّين بمبايعة الحاكم وتنصيبه ، فهم أيضاً المعنيُّون بخلعه وإبعاده ، حين تقوم مسوِّغات ذلك وتتضافر .

           إن الاضطراب في السلوك الديني – سواء كان بدافع السذاجة أو العمالة – لا يسوِّغ لأحد احتكار تفسير النصوص الشرعيَّة ، أو توجيه فهمها لأغراض سياسيَّة ، أو اعتبارات أخرى فئويَّة ، بعد أن شاع بين العلماء المجتهدين الاختلاف في تفسيرها وفهمها ، فليس لأحد - كائناً من كان – أن يبرِّر لتقييد الاجتهاد ، أو يسوِّغ لمنع النظر ، ضمن الضوابط الشرعيَّة المعروفة ، بحجَّة خوف الفتنة ؛ فإن الفتنة كلُّ الفتنة في إسناد شؤون الأمة الكبرى لغير أهلها ، وتسليط السفهاء على العقلاء ، وتمكين الأغبياء من الأذكياء ، فالويل لأمة علا تُحُوتها على وعُولها ، فلا يُسأل حينئذٍ عن هلاكها ، ولا يُبحث عن عظيم فتنتها  .